٤- إن تنزيل القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلم وتعليمه إياه وتلقينه به من عند الله العلي الحكيم بتدبير خلقه، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم. وهذه الآية الأخيرة تمهيد لسياق القصص التالية عن الأنبياء عليهم السلام.
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام بالوادي المقدس
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧ الى ١٤]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
الإعراب:
بِشِهابٍ قَبَسٍ قَبَسٍ بالتنوين: بدل مجرور من شهاب. ومن قرأ بغير تنوين أضاف كلمة بِشِهابٍ إلى قَبَسٍ إضافة النوع إلى جنسه، مثل: ثوب خزّ.
تَصْطَلُونَ أصلها «تصتليون» فأبدل من التاء طاء، لتوافق الطاء في الإطباق، ونقلت
الضمة من الياء إلى اللام، فبقيت الياء ساكنة، وواو الجمع ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.
أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه بورك، وهو في موضع رفع ب نُودِيَ. ومَنْ فِي النَّارِ، أي من في طلب النار، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر، والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للخبر.
تَهْتَزُّ، كَأَنَّها جَانٌّ تَهْتَزُّ جملة فعلية حال من هاء رَآها. وكَأَنَّها جَانٌّ حال أيضا، أي فلما رآها مهتزة مشبهة جانا، ومُدْبِراً حال منصوب أيضا.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَنْ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع.
تَخْرُجْ بَيْضاءَ بَيْضاءَ حال من ضمير تَخْرُجْ. وإِلى فِرْعَوْنَ حال من مرسلا المحذوف المنصوب على الحال، لدلالة الحال عليه، أي مرسلا إلى فرعون.
مُبْصِرَةً حال من الآيات، أي مبينة.
البلاغة:
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ إيجاز بالحذف، حذفت جملة: فألقاها، فانقلبت حية، لدلالة السياق عليه.
حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ووَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ بين كل منهما طباق.
آياتُنا مُبْصِرَةً استعارة، استعار لفظ الإبصار للوضوح والبيان لأن الإبصار يكون بالعينين.
كَأَنَّها جَانٌّ تشبيه مرسل مجمل، ذكرت أداة الشبه، وحذف وجه الشبه، فصار مرسلا مجملا.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ أي اذكر حين قال موسى. لِأَهْلِهِ كنى عن زوجته بالأهل عند مسيرته من مدين إلى مصر. آنَسْتُ أبصرت من بعيد. بِخَبَرٍ عن حال الطريق لأنه قد ضله. وجمع الضمير في قوله: سَآتِيكُمْ وآتِيكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ مراعاة لكلمة لِأَهْلِهِ. وأتى بالسين في قوله: سَآتِيكُمْ للدلالة على بعد المسافة، أو الوعد بالإتيان وإن أبطأ. وأتى بأو دون الواو اعتمادا أو رجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا، لم يعدم واحدة منهما: إما هداية الطريق،
وإما اقتباس النار، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده، وقد ظفر بكلتا حاجتيه وهما عز الدنيا وعز الآخرة.
بِشِهابٍ شعلة نار. قَبَسٍ قطعة من النار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها.
تَصْطَلُونَ تستدفئون من البرد، وقوله لَعَلَّكُمْ معناه رجاء أن تستدفئوا. نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي نودي بأن بارك الله، فأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، أو مفسرة، لأن النداء فيه معنى القول مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي بورك من في مكان النار وهو موسى والبقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص ٢٨/ ٣٠].
وَمَنْ حَوْلَها المكان الذي حولها، والمعنى: بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، قال البيضاوي: والظاهر أنه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا، وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى.
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من جملة ما نودي، ومعناه: تنزيه الله من السوء. يا مُوسى إِنَّهُ ضمير الشأن والأمر.
تَهْتَزُّ تتحرك باضطراب. كَأَنَّها جَانٌّ حية خفيفة سريعة. وَلَّى مُدْبِراً هرب.
وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع على عقبه. لا تَخَفْ من غيري ثقة بي، أو مطلقا، لقوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لا يخاف عندي الرسل من حية وغيرها، حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق. إِلَّا لكن فهو استثناء منقطع. مَنْ ظَلَمَ نفسه. ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أتى حسنا بعد سوء وبدل ذنبه بالتوبة، أي تاب. فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أستر عليه وأغفر له وأرحمه بقبول التوبة. والمراد من الاستثناء التعريض بموسى حينما وكز القبطي.
فِي جَيْبِكَ طوق قميصك. تَخْرُجْ خلاف لونها من الأدمة أي الجلد. مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص ونحوه من الآفات، لها شعاع يغشي البصر. فِي تِسْعِ آياتٍ أي تلك آية من تسع آيات أي معجزات دالة على صدقك، أو في جملتها، والتسع: هي فلق البحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والطمسة، وجدب واديهم، ونقصان مزارعهم. ومن عد العصا واليد من التسع جعل الأخيرين واحدا، ولم يعد الفلق منها لأنه لم يبعث به إلى فرعون وقومه.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للإرسال. مُبْصِرَةً بينة واضحة مضيئة. مُبِينٌ بيّن ظاهر. وَجَحَدُوا بِها لم يقروا. اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ تيقنوا أنها من عند الله والاستيقان أبلغ من الإيقان. ظُلْماً لأنفسهم. وَعُلُوًّا ترفعا وتكبرا عن الإيمان بما جاء به موسى.
فَانْظُرْ يا محمد. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة.
قال الزمخشري: وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينات واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.
المناسبة:
بعد أن أخبر الله تعالى أن القرآن المجيد متلقى من عند الله الحكيم العليم، أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بتلاوة بعض ما تلقاه، تقريرا له، وهو ما أورده من بعض القصص للعظة والذكرى.
التفسير والبيان:
ابتدأ الله تعالى بالتذكير بقصة موسى كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا، واستكبروا عن اتباعه والانقياد له، فقال:
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي اذكر أيها الرسول حين سار موسى بأهله (زوجته) من مدين إلى مصر، فضل الطريق في ليل مظلم، فرأى من بعيد نارا تتأجج وتضطرم، فقال لأهله مستبشرا بمعرفة الطريق والاصطلاء بالنار: إني أبصرت نارا، سآتيكم منها بخبر عن الطريق، أو آتيكم منها بشعلة نار، تستدفئون بها في هذه الليلة الباردة.
وكان الأمر كما قال، فإنه رجع منها بخبر عظيم هو النبوة، واقتبس منها نورا عظيما لا نارا هو نور الرسالة، كما قال:
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي فلما وصلها، ورأى منظرها هائلا حيث تضطرم النار في شجرة خضراء، فلا تزداد النار إلا توقدا، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضارة، ثم رفع رأسه، فإذا نورها متصل بعنان السماء، ولم تكن نارا، وإنما كانت نورا، هو نور رب العالمين، كما قال ابن عباس، فوقف موسى متعجبا مما رأى، فنودي أن
بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها، أي تبارك من في النور، والمكان:
هو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص ٢٨/ ٣٠] وما حولها: أرض الشام ذات البركات والخيرات لكونها مهبط الأنبياء، ومبعث الرسالات.
وقيل: من في النور هو الله سبحانه، ومن حولها: الملائكة، والأولى ما ذكرناه.
وسبب المباركة: حدوث هذا الأمر العظيم فيها، وهو تكليم الله موسى عليه السلام، وجعله رسولا، وإظهار المعجزات على يده، ولما كان هذا الحال قد يوهم بالتجسيم والمادية نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق بذاته وحكمته، فقال: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي تنزه الله الذي يفعل ما يشاء، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات، والأحد الفرد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقد عرف موسى أن ذلك النداء من الله تعالى لأن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق، فصار ذلك كالمعجز الدال على صدور الكلام من الله سبحانه.
ومما يدل على صحة هذا التعليل
المروي عن ابن عباس: ما أخرجه مسلم في صحيحة وابن ماجه في سننه، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفها «١» لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شيء
أدركه بصره»
ثم قرأ أبو عبيدة: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها، وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
ثم صرح الله تعالى بإظهار كلامه فقال:
يا مُوسى، إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا موسى، إن الذي يخاطبك ويناجيك هو الله ربّك الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه، الحكيم في أقواله وأفعاله.
ثم أراه قدرته وأيده بالمعجزات، فقال تعالى:
المعجزة الأولى:
وَأَلْقِ عَصاكَ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ أي أمره الله بإلقاء عصاه من يده على الأرض، فلما ألقاها، انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة، في غاية الكبر وسرعة الحركة معا، فلما رآها هكذا، ولّى هاربا خوفا منها، ولم يرجع على عقبيه، ولم يلتفت وراءه من شدة خوفه.
فهدّأ الحق تعالى نفسه، وأزال عنه الرعب، فقال:
يا مُوسى، لا تَخَفْ، إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي لا تخف يا موسى مما ترى، فإني أريد أن أصطفيك رسولا، وأجعلك نبيا وجيها، ولا يخاف عندي الرسل والأنبياء إذا أمرتهم بإظهار المعجزة.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا استثناء عظيم، وبشارة عظيمة للبشر في هذا الكلام الرباني المباشر مع موسى، أي لكن من ظلم نفسه أو غيره أو كان على عمل سيء، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب إلى ربه، فإن الله يقبل توبته لأنه بدل بتوبته عملا حسنا بعد سوء، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه ٢٠/ ٨٢] وقال
سبحانه: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء ٤/ ١١٠].
المعجزة الثانية:
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي أدخل يدك في جيب قميصك «١» فإذا أدخلتها وأخرجتها، خرجت بيضاء ساطعة، كأنها قطعة قمر، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف، من غير آفة بها كبرص وغيره.
ويلاحظ أن المعجزة الأولى كانت بتغيير ما في يده وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية بتغيير يده نفسها وجعلها ذات أوصاف نورانية.
فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أي هاتان المعجزتان أو الآيتان في جملة أو من تسع آيات أخرى أؤيدك بهن، وأجعلها برهانا لك، مرسلا بها إلى فرعون وقومه، كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء ١٧/ ١٠١].
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي لأنهم كانوا قوما عصاة خارجين عن دائرة الحق، بتأليه فرعون. وهذا تعليل لما سبق من تأييده بالمعجزات.
ثم كان اللقاء مع فرعون وقومه، فقال تعالى:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي فلما جاءت فرعون وقومه آياتنا التسع بينة واضحة ظاهرة دالة على صدق موسى وأخيه هارون، أنكروها وقالوا: هذا سحر واضح ظاهر، وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين. وعبّر بقوله: مُبْصِرَةً للدلالة على أنها لفرط وضوحها
كأنها تبصر نفسها. ونظرا لهذا الوضوح فيها صدقوا بها في قلوبهم، وكذبوا بها في الظاهر بألسنتهم فقال تعالى:
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا أي وأنكروها وكذبوا بها في ظاهر الأمر مكابرة بالألسنة وعنادا، وتيقنوا وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتباع الحق، كما جاء في آية أخرى:
فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [المؤمنون ٢٣/ ٤٦].
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر أيها الرسول وكل سامع كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير لمكذبي الرسل الذين أرسلهم الله لهداية البشرية.
والمعنى: فاحذروا أيها المكذّبون لمحمد صلّى الله عليه وسلم، الجاحدون لما جاء به من عند ربه أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك بطريق الأولى والأخرى، لأن النبوات ختمت برسالته، ولأن القرآن المنزل عليه مصدّق لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السابقة ومهيمن عليها، ولبشارات الأنبياء به وأخذ المواثيق له، ولتأييده بأدلة دالة على صدق نبوته أكثر من موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء والرسل، وعلى رأسها معجزة القرآن المجيد، كما أخبر تعالى في مطلع هذه السورة: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.
فقه الحياة أو الأحكام:
تكررت قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في سور عديدة، لما تضمنت من العظة والعبرة التي تتجلى في قهر الله أكبر قوة عاتية بشرية وتحطيم جبروت سلطة ظالمة غاشمة، على يد رجل أعزل من السلاح هو وأخوه هارون إلا أنهما قويان بقوة الله، وقوة الإيمان، وعظمة النبوة.
وهي أول قصة حكاها القرآن في هذه السورة على أثر قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي خذ يا محمد من آثار حكمة الله وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله: «إني آنست نارا... ».
مشى موسى عليه السلام هو وزوجته من مدين إلى مصر، وشأنه ككل بشر عادي، يحار في الصحراء، ومفارق الطرق، وفي الليالي الظلماء الباردة العاصفة، فضل الطريق، وأحس هو وزوجته بالحاجة إلى الدفء، كما يحس المسافر العادي بالحاجة إلى النار أثناء البرد.
واستدرجه ربّه فيما يناسب ظرفه والمناخ الذي يكتنفه، فرأى نارا من بعيد، فبشّر أهله بما رأى، وأنه سيأتي بشعلة نار منها، ويهتدي بأهل النار إلى الطريق، إذ النار لا توقد وحدها من دون شخص يوقدها.
ولكنه فوجئ بنقيض مقصوده، لما جاء المكان الذي ظن أنه نار، وهي نور، وذلك أنه لما رأى موسى النار وقف قريبا منها، فوجدها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الاخضرار، يقال لها العلّيق، لا تزداد النار إلا عظما وتضرّما، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا، وأراد أن يقتطع منها غصنا ملتهبا، فلم يتمكن، حتى تبين أنها مباركة، ثم نودي: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أي ناداه الله مباركا مكان النار، ومن حولها: الملائكة والبقعة وموسى. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه قال: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود ١١/ ٧٣].
والخلاصة: إن هذه النار التي رآها موسى فيض من نور الله، تمهيدا لتكليم الله موسى وتحيته وجعله نبيا رسولا، وتنزيها وتقديسا لله رب العالمين، علما بأن هذا الكلام الأخير من قول الله تعالى تعليما لنا، وقيل: إن موسى عليه السلام قال حين فرغ من سماع النداء: استعانة بالله تعالى وتنزيها له.
وكانت فاتحة خطاب الله لموسى إظهار عظمة الله وعزته وحكمته البالغة:
إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إنني أنا الله الغالب القاهر الذي ليس كمثله شيء، الحكيم في أمره وفعله.
ثم جعل له تسع آيات دليلا وبرهانا على نبوته، وأهمها وأبرزها: العصا واليد، فكان إذا ألقى عصاه من يده، صارت حية تهتز كأنها جانّ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم، وقيل: إنها كبيرة ضخمة ذات حركة سريعة. وإذ أدخل يده في جيب ثم أخرجها أصبحت ذات مصدر إشعاع ونور كالقمر.
ومن الطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام لأول مرة من الحية المضطربة المتحركة التي يخشى الإنسان من لدغها بالفطرة، ففرّ هاربا منها، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه، فطمأنه ربه العلي العظيم قائلا: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وهذا خبر بالرسالة والنبوة.
ثم استثنى استثناء منقطعا من خلاف جنس المستثنى منه فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي لكن لا يخاف من ظلم وعصى وأساء، ثم تاب وأناب لربه، فالله غفور لمن تاب، رحيم بمن أناب. وهذا تثبيت لموسى بأنه ليس من شأنه الخوف، وتطمين له بأن ربّه غفر له بعد أن تاب من حادث قتل القبطي وهو شاب حدث قبل النبوة. أما بعد النبوة فالأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر.
ثم أخبره ربه بأنه مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه الفاسقين، أي الخارجين عن طاعة الله، فأظهر موسى عليه السلام لهم معجزاته الباهرة الدالة على صدقه دلالة واضحة بيّنة، فجروا على عادتهم في التكذيب، وأنكروها وعاندوها في الظاهر، ولكنهم تيقنوا من صدقها في الباطن أو في القلب، وأنها من عند الله، وأنها ليست سحرا، غير أنهم تجاهلوا ذلك، وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا واستكبارا كشأن كل العتاة المتكبرين.