
: يَعْنِي: قَطْعَ الطَّرِيقِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ [وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ] ﴾ (١) [الْأَعْرَافِ: ٨٦].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ﴾ : يُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ آبَاءَهُمُ الْأَوَائِلَ، كَمَا قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٢٦]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، والسُّدَّي، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ﴾ يَقُولُ: خَلَقَ الْأَوَّلِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ زَيْدٍ: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا﴾ [يس: ٦٢].
﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) ﴾.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ جَوَابِ قَوْمِهِ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَجَابَتْ بِهِ ثَمُودُ لِرَسُولِهَا (٢) -تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ -حَيْثُ قَالُوا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ يَعْنُونَ: مِنَ الْمَسْحُورِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
﴿وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أَيْ: تَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيمَا تَقُولُهُ، لَا أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا.
﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ : قَالَ الضَّحَّاكُ: جَانِبًا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قِطَعًا مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾، إِلَى أَنْ قَالُوا: ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٠-٩٢]. وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٣٢]، وَهَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ الْجَهَلَةُ: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ جَازَاكُمْ بِهِ غَيْرَ ظَالِمٍ لَكُمْ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ بِهِمْ كَمَا سَأَلُوا، جَزَاءً وِفَاقًا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ مَا سَأَلُوا، مِنْ إِسْقَاطِ الْكِسَفِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، جَعَلَ عُقُوبَتَهُمْ (٣) أَنْ أَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ جِدًّا مُدَّةَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا يَكُنُّهم منه شيء، ثم
(٢) في ف، أ: "لرسلها".
(٣) في أ: "عقوبته".

أَقْبَلَتْ إِلَيْهِمْ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ، فَجَعَلُوا يَنْطَلِقُونَ إِلَيْهَا يَسْتَظِلُّونَ بِظِلِّهَا مِنَ الْحَرِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا [كُلُّهُمْ] (١) تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرًا مِنْ نَارٍ، وَلَهَبًا وَوَهَجًا عَظِيمًا، وَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى صِفَةَ إِهْلَاكِهِمْ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ (٢) كُلُّ مَوْطِنٍ بِصِفَةٍ تُنَاسِبُ ذَلِكَ السِّيَاقَ، فَفِي الْأَعْرَافِ ذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ [الْأَعْرَافِ: ٨٨]، فَأَرْجَفُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. وَفِي سُورَةِ هُودٍ قَالَ: ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ [هُودٍ: ٩٤] ؛ وذلك لأنهم استهزؤوا بِنَبِيِّ اللَّهِ فِي قَوْلِهِمْ: ﴿أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هُودٍ: ٨٧]. قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالِازْدِرَاءِ، فَنَاسَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ صَيْحَةٌ تُسْكِتُهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾ (٣) وَهَاهُنَا قَالُوا: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَحِقَّ عَلَيْهِمْ مَا اسْتَبْعَدُوا وُقُوعَهُ.
﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (٤) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَا يُظِلُّهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَنْشَأَ لَهُمْ سَحَابَةً، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا أَحَدُهُمْ وَاسْتَظَلَّ (٥) بِهَا، فَأَصَابَ تَحْتَهَا بَرْدًا وَرَاحَةً، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ قَوْمَهُ، فَأَتَوْهَا جَمِيعًا، فَاسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا، فأجَّجتْ عَلَيْهِمْ نَارًا.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَير، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الظُّلَّةَ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمُ الظُّلَّةَ، وَأَحْمَى عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ، فَاحْتَرَقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ فِي الَمقْلَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظيّ: إِنَّ أَهْلَ مَدْيَنَ عُذِّبُوا بِثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ: أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فِي دَارِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهَا أَصَابَهُمْ فَزَعٌ شَدِيدٌ، فَفَرقُوا أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى الْبُيُوتِ فَتَسْقُطَ عَلَيْهِمْ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الظُّلَّةَ، فَدَخَلَ تَحْتَهَا رَجُلٌ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ ظِلًّا (٦) أَطْيَبَ وَلَا أَبْرَدَ مِنْ هَذَا. هَلُمُّوا أَيُّهَا النَّاسُ. فَدَخَلُوا جَمِيعًا تَحْتَ الظُّلَّةِ، فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً، فَمَاتُوا جَمِيعًا. ثُمَّ تَلَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ -أَخُو حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ -حَدَّثَنِي حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ (٧) حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْبَاهِلِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عليهم وَمَدَةً (٨) وحرا شديدا، فأخذ
(٢) في أ: "مواضع".
(٣) في ف: "فأخذتهم الصيحة".
(٤) في ف، أ: "عمرو".
(٥) في ف، أ: "فاستظل".
(٦) في ف: "ما رأيت ظلا كاليوم"
(٧) في أ: "ضفيرة".
(٨) في ف، أ: "رعدة".