
(٣) إنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا، فضلا عن أن تملك ذلك لغيرها، ومن كان كذلك فلا فائدة فى عبادته وإجلاله وتعظيمه.
(٤) إنها لا تقدر على التصرف فى شىء ما، فلا تستطيع إماتة الأحياء، ولا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم، ومن كان كذلك فكيف يسمى إلها، وتعطى له خصائص الآلهة من الخضوع لعظمته والإخبات لجلاله؟.
وعلى الجملة فعبدة الأصنام قد تركوا عبادة الخالق المالك لكل شىء، المتصرف فيه بقدرته وسلطانه، وعبدوا ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وليس بعد هذا من حماقة، ولا يرضى بمثله من له مسكة من عقل، ولا أثارة من علم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
تفسير المفردات
الافتراء: الاختلاق والكذب، من قولهم: افتريت الأديم- الجلد- إذا قطّعته للإفساد، جاءوا: أي أتوا، والظلم: وضع الشيء فى غير موضعه، إذ هم قد نسبوا القبيح إلى من كان مبرأ منه، والزور: الكذب، والأساطير: واحدها أسطار أو أسطورة كأحدوثة، وهو ما سطّره المتقدمون، اكتتبها: أي أمر بكتابتها، تملى عليه: أي تلقى عليه بعد اكتتابها ليحفظها، بكرة وأصيلا: أي صباحا ومساء، والمراد دائما.

المعنى الجملي
بعد أن تكلم أوّلا فى التوحيد، ثم فى الرد على عبدة الأوثان- أردف ذلك الرد على الطاعنين فى نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد قسموا مطاعنهم قسمين:
مطاعن فى القرآن، ومطاعن فيمن نزل عليه القرآن.
روى أن هذه الآيات نزلت فى النضر بن الحرث إذ هو الذي قال هذه المقالة، وعنى بالقوم الآخرين عدّاسا مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسارا مولى العلاء بن الحضرمي، وأبا فكيهة الرومي، وكانوا من أهل الكتاب يقرءون التوراة ويحدّثون أحاديث منها، فأسلموا، وكان النبي يتعهدهم ويختلف إليهم، فمن ثم قال النضر ما قال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال الكافرون: إن هذا القرآن ليس من عند الله، بل اختلقه محمد، وأعانه على ذلك جماعة من أهل الكتاب ممن أسلموا، وكان يتعهدهم ويختلف إليهم: «تقدم ذكر أسمائهم» فيلقون إليه أخبار الأمم الغابرة، وهو يصوغها بلغته وأسلوبه الخاص.
فرد الله عليهم مقالهم فقال:
(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد وضعوا الأشياء فى غير مواضعها، وكذبوا على ربهم، إذ جعلوا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- إفكا مفترى من قبل البشر، وكيف يتقوّلون ذلك على الرسول وقد تحداهم أن يأتوا بمثله، وهم ذوو اللسن والفصاحة والغاية فى البلاغة، فعجزوا أن يأتوا بمثله، ولو كان ذلك فى مكنتهم ما ادّخروا وسعا فى معارضته، وقد ركبوا الصعب والذلول ليدحضوا حجته، ويبطلوا دعوته، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد استعان فى ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا هم بغيرهم، فما مثله فى اللغة إلا مثلهم فلما

لم يفعلوا علم أنه قد بلغ الغاية التي لا تجارى وانتهى إلى حد الإعجاز- إلى أنه اشتمل على الحكم والأحكام التي فيها سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم، كما اشتمل على أخبار من أمور الغيب التي لا تصل إليها مدارك البشر ولا عقولهم.
وبعد أن حكى عنهم قولهم فى الافتراء بإعانة قوم آخرين عليه- حكى عنهم طريق تلك الإعانة.
(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي وقال المشركون الذين قالوا إن هذا إلا إفك مفترى: أي ما هذا إلا أحاديث الأولين الذين كانوا يسطرونها فى كتبهم من نحو أحاديث رستم وإسفنديار- اكتتبها من اليهود فهى تستنسخ منهم وتقرأ عليه، ليحفظها غدوة وعشيا: أي قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم، وقد عنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جرأة عظيمة منهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقد يكون مرادهم أنها تملى عليه دائما.
ثم أمره الله تعالى بإجابتهم عما قالوا بقوله:
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم ردّا وتحقيقا للحق:
ليس ذلك كما تزعمون، بل هو أمر سماوى أنزله الذي لا يعزب عن علمه شىء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفكار، ومن ثم أعجزكم بفصاحته وبلاغته، كما أخبركم فيه بمغيّبات مستقبلة، وأمور مكنونة، لا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير.
وقد وصف سبحانه نفسه بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية، فالجلية المعلومة من باب أولى، إيذانا بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر.
(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنكم استوجبتم العذاب بمكايدتكم لرسوله، لكنه لم يعجله لكم رحمة بكم، رجاء توبتكم وغفران ذنوبكم، ولولا ذلك لصبّ عليكم العذاب صبّا.