آيات من القرآن الكريم

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ ۚ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ [الْفُرْقَانِ: ١٥] وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ أنهم في غاية الخير، لأن مستقر خَيْرٌ مِنَ النَّارِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
الثَّالِثُ: التَّفَاضُلُ الَّذِي ذُكِرَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَوْضِعِ، وَالْمَوْضِعُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَوْضِعٌ لَا شَرَّ فِيهِ الرَّابِعُ: هَذَا التَّفَاضُلُ وَاقِعٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُسْتَقَرٌّ فِيهِ خَيْرٌ لَكَانَ مُسْتَقَرُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَيْرًا مِنْهُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُسْتَقَرَّهُمْ غَيْرُ مَقِيلِهِمْ فَكَيْفَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْتَقَرَّ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالْمَقِيلَ زَمَانُ الْقَيْلُولَةِ، فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمَكَانِ فِي أَحْسَنِ مَكَانٍ، وَمِنَ الزَّمَانِ فِي أَطْيَبِ زَمَانٍ الثَّانِي: أَنَّ مُسْتَقَرَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ غَيْرُ مَقِيلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يَقِيلُونَ فِي الْفِرْدَوْسِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى مُسْتَقَرِّهِمْ الثَّالِثُ: أَنَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمُحَاسَبَةِ وَالذَّهَابِ إِلَى الْجَنَّةِ يَكُونُ الْوَقْتُ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَا يَنْتَصِفُ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ). / وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَخَذَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ قَضَى بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَيَقِيلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُخَفِّفُ الْحِسَابَ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَكُونَ بِمِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَقِيلُونَ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كَيْفَ يَصِحُّ الْقَيْلُولَةُ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَعِنْدَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنَامُونَ، وَأَهْلَ النَّارِ أَبَدًا فِي عَذَابٍ يَعْرِفُونَهُ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ يَعْرِفُونَهُ؟ وَالْجَوَابُ: قَالَ اللَّه تَعَالَى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مَرْيَمَ: ٦٢] وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةٌ وَعَشِيٌّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الْإِنْسَانِ: ١٣] ولأنه إذا لم يكون هُنَاكَ شَمْسٌ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِصْفُ النَّهَارِ وَلَا وَقْتُ الْقَيْلُولَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ أَطْيَبُ الْمَوَاضِعِ وَأَحْسَنُهَا، كَمَا أَنَّ مَوْضِعَ الْقَيْلُولَةِ يَكُونُ أَطْيَبَ الْمَوَاضِعِ واللَّه أعلم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يَا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اسْتَدْعَوْهُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ لَهُ صِفَاتٌ:
الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَقُّقَ السَّمَاءِ بِالْغَمَامِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: ١] يَدُلُّ عَلَى التَّشَقُّقِ وَقَوْلُهُ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [الْبَقَرَةِ: ٢١٠] يَدُلُّ عَلَى الْغَمَامِ فَقَوْلُهُ: تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ جَامِعٌ لِمَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النَّبَأِ: ١٩] وَقَوْلُهُ: فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الْحَاقَّةِ:
١٦].

صفحة رقم 452

المسألة الثَّانِيَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بتخفيف الشين هاهنا وَفِي سُورَةِ ق، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ كَمَا يُخَفَّفُ تَسَاءَلُونَ وَمَنْ شَدَّدَ فَمَعْنَاهُ تَتَشَقَّقُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: بِالْغَمامِ أَيْ عَنِ الْغَمَامِ، لِأَنَّ السَّمَاءَ لَا تَتَشَقَّقُ بِالْغَمَامِ بَلْ عَنِ الْغَمَامِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ تَعَالَى الْغَمَامَ بِحَيْثُ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِاعْتِمَادِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [الْمُزَّمِّلُ: ١٨].
المسألة الرابعة: لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلا بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض.
المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ صِيغَةُ عُمُومٍ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلِأَنَّ السَّمَاءَ مَقَرُّ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا تَشَقَّقَ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلُوا إِلَى الْأَرْضِ، ثم قال مُقَاتِلٌ: تَشَقَّقُ سَمَاءُ الدُّنْيَا فَيَنْزِلُ أَهْلُهَا وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ سُكَّانِ الدُّنْيَا، كَذَلِكَ تَتَشَقَّقُ سَمَاءً سَمَاءً، ثُمَّ يَنْزِلُ الْكَرُوبِيُّونَ وَحَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ يَنْزِلُ الرَّبُّ تَعَالَى. وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ تَتَشَقَّقُ كُلُّ سَمَاءٍ وَيَنْزِلُ سُكَّانُهَا فَيُحِيطُونَ بِالْعَالَمِ وَيَصِيرُونَ سَبْعَ صُفُوفٍ حَوْلَ الْعَالَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ نُزُولَ الرَّبِّ بِالذَّاتِ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِأَنَّ النُّزُولَ حَرَكَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِالْحَرَكَةِ مُحْدَثٌ وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا. وَأَمَّا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَرْضِ فَعَلَيْهِ سُؤَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ بِالْقِيَاسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ، فَكَيْفَ بِالْقِيَاسِ إِلَى الْكُرْسِيِّ وَالْعَرْشِ فَمَلَائِكَةُ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِأَسْرِهَا كَيْفَ تَتَّسِعُ لَهُمُ الْأَرْضُ جَمِيعًا؟ فَلَعَلَّ اللَّه تَعَالَى يَزِيدُ فِي طُولِ الْأَرْضِ وَعَرْضِهَا وَيُبَلِّغُهَا مَبْلَغًا يَتَّسِعُ لِكُلِّ هَؤُلَاءِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَكُونُونَ فِي الْغَمَامِ مِنْهُ، واللَّه تَعَالَى يُسَكِّنُ الْغَمَامَ فَوْقَ أَهْلِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَمَامُ مَقَرَّ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ الْحَسَنُ:
وَالْغَمَامُ سُتْرَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ بِنَسْخِ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ وَالْمُحَاسَبَةُ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ.
المسألة السَّادِسَةُ: أَمَّا نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ فَظَاهِرٌ، وَمَعْنَى تَنْزِيلًا تَوْكِيدٌ لِلنُّزُولِ وَدَلَالَةٌ عَلَى إِسْرَاعِهِمْ فِيهِ.
المسألة السَّابِعَةُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْغَمَامِ لَيْسَ لِلْعُمُومِ فَهُوَ المعهود، وَالْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [الْبَقَرَةِ: ٢١٠].
المسألة الثَّامِنَةُ: قُرِئَ: وَنُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، وَنُنْزِلُ الْمَلَائِكَةَ، وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ، وَنُزِلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَنُزِلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَذْفِ النُّونِ الَّذِي هُوَ فَاءُ الْفِعْلِ مَنْ نُنْزِلُ قِرَاءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ: قَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ قَالَ الزَّجَّاجُ الْحَقُّ صِفَةٌ لِلْمُلْكِ وَتَقْدِيرُهُ الْمُلْكُ الْحَقُّ يَوْمَئِذٍ لِلرَّحْمَنِ، وَيَجُوزُ الْحَقَّ بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْنِي وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ وَمَعْنَى/ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ حَقًّا أَنَّهُ لَا يَزُولُ وَلَا يَتَغَيَّرُ، فَإِنْ قِيلَ: مِثْلُ هَذَا الْمُلْكِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ إِلَّا لِلرَّحْمَنِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا مَالِكَ سِوَاهُ لَا فِي الصُّورَةِ وَلَا فِي الْمَعْنَى، فَتَخْضَعُ لَهُ الْمُلُوكُ وَتَعْنُو لَهُ الْوُجُوهُ وَتَذِلُّ لَهُ الْجَبَابِرَةُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه الثَّوَابُ وَالْعِوَضُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَاسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِتَرْكِهِ فَكَانَ خَائِفًا مِنْ أَنْ لَا يَفْعَلَ فَلَمْ يَكُنْ مُلْكًا مُطْلَقًا وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مُلْكٌ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شيئا

صفحة رقم 453

فَإِنَّهُ يَكُونُ مَالِكًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ هُوَ سبحانه مالكا لذلك المستحق، ولأنه سُبْحَانَهُ إِذَا اسْتَحَقَّ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، أَمَّا غَيْرُهُ إِذَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِبْرَاؤُهُ عَنْهُ، فكانت العبودية هاهنا أَتَمَّ، وَلِأَنَّ مَنْ كَفَرَ باللَّه إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ ثُمَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ عَرَفَ اللَّه لَحْظَةً وَمَاتَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ أَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفِ سَنَةٍ أَنْوَاعَ الثَّوَابِ وَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً صَارَ سَفِيهًا، وَهَذَا نِهَايَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالذُّلِّ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَكَانَ مُسْتَوْجِبًا لِلذَّمِّ وَكَانَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ مُكْتَسِبًا لِلْكَمَالِ وَبِتَرْكِهِ مُكْتَسِبًا لِلنُّقْصَانِ فَلَمْ يَكُنْ مَلِكًا بَلْ فَقِيرًا مُسْتَحِقًّا، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ غَيْرُ لَائِقٍ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْأَحْوَالِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُهُ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَالْكُلُّ فِي رِبْقَةِ الْعَجْزِ وَلِجَامِ الْقَهْرِ، فَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْعُسْرِ عَلَى الْكَافِرِ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الظَّالِمِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لِلْمَعْهُودِ، وَالْقَائِلُونَ بِالْمَعْهُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ لَا يَقْدَمُ مِنْ مَقَرٍّ إِلَّا صَنَعَ طَعَامًا يَدْعُو إِلَيْهِ جِيرَتَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَيُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرَّسُولِ وَيُعْجِبُهُ حَدِيثُهُ فَصَنَعَ طَعَامًا وَدَعَا الرَّسُولَ فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا آكُلُ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَفَعَلَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَعَامِهِ فَبَلَغَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ فَقَالَ صَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ وَكَانَ خَلِيلَهُ فَقَالَ إِنَّمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِيَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي فَقَالَ لَا أَرْضَى أَبَدًا حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ وَتَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ فَفَعَلَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَلْقَاكَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ إِلَّا عَلَوْتُ رَأْسَكَ بِالسَّيْفِ فَنَزَلَ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ
نَدَامَةً يَعْنِي عُقْبَةَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ أُمَيَّةَ خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ. أَيْ صَرَفَنِي عَنِ الذِّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْإِيمَانُ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسِرَ عُقْبَةُ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا وَلَمْ يُقْتَلْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْأُسَارَى غَيْرُهُ وَغَيْرُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ الثَّانِي: قَالَتِ الرَّافِضَةُ: هَذَا الظَّالِمُ هُوَ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ وَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ غَيَّرُوا اسْمَهُ/ وَكَتَمُوهُ وَجَعَلُوا فُلَانًا بَدَلًا مِنَ اسْمِهِ، وَذَكَرُوا فَاضِلِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه، وَاعْلَمْ أَنَّ إِجْرَاءَ اللَّفْظِ عَلَى الْعُمُومِ لَيْسَ لِنَفْسِ اللَّفْظِ، لِأَنَّا بينا في أصول الفقه أن لألف واللم إِذَا دَخَلَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بَلْ إِنَّمَا يُفِيدُهُ لِلْقَرِينَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعَلِيَّةِ الْوَصْفِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْعَضِّ عَلَى الْيَدَيْنِ كَوْنُهُ ظَالِمًا وَحِينَئِذٍ يَعُمُّ الْحُكْمُ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى مِنَ التَّخْصِيصِ بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَنُزُولُهُ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى خَاصَّةٍ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعُمُومَ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ زَجْرُ الْكُلِّ عَنِ الظُّلْمِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْعُمُومِ، وَأَمَّا قَوْلُ الرَّافِضَةِ فَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ وَإِثْبَاتِ أَنَّهُ غَيْرٌ وَبَدَلٌ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِقَوْلِهِ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قَالُوا الظَّالِمُ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ وَالْفَاسِقَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَعْفُو عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: يَأْكُلُ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ تَنْبُتُ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ كُلَّمَا أَكَلَهَا نَبَتَتْ، وَقَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُشْعِرَةٌ بِالتَّحَسُّرِ وَالْغَمِّ، يُقَالُ عَضَّ أَنَامِلَهُ وَعَضَّ عَلَى يَدَيْهِ.

صفحة رقم 454
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية