
رهبة يوم القيامة وهوله
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
الإعراب:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ الباء في قوله بِالْغَمامِ للحال، والتقدير: يوم تشقق السماء، وعليها الغمام، كقولك: خرج زيد بسلاحه، أي وعليه سلاحه.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ: الْمُلْكُ مبتدأ، والْحَقُّ صفة له، ولِلرَّحْمنِ الخبر، ويَوْمَئِذٍ: ظرف للملك.
البلاغة:
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والحسرة، وكذلك كلمة «فلان» كناية عن الصديق الضال المضل.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ تَشَقَّقُ الأصل: تتشقق والمراد يوم القيامة السَّماءُ كل سماء بِالْغَمامِ هو غيم أبيض، أي مع الغمام، مثل قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل ٧٣/ ١٨] والمعنى أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، أو عن الغمام وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا أي تنزل الملائكة من كل سماء، وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الثابت يوم القيامة لله تعالى وحده، لا يشركه فيه أحد وَكانَ يَوْماً أي وكان اليوم يوما عسيرا أي شديدا على الكافرين، بخلاف المؤمنين.

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم والتحسر يوم القيامة، والمراد بالظالم:
الجنس، أو المشرك عقبة بن أبي معيط الذي كان نطق بالشهادتين، ثم رجع إرضاء لأبي بن خلف اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا محمد صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى الهدى والنجاة يا وَيْلَتى ألفه عوض عن ياء الإضافة، أي ويلتي، ومعناه: هلكتي. وقرئ: يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته، يقول لها: تعالي فهذا أوانك: وإنما قلبت الياء ألفا كما في صحارى ومداري.
أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ذكر الله أو القرآن أو موعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم بَعْدَ إِذْ جاءَنِي بأن ردني عن الإيمان به وَكانَ الشَّيْطانُ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم لِلْإِنْسانِ الكافر خَذُولًا بأن يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ويتبرأ منه عند البلاء، ولا ينفعه.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان أبيّ بن خلف يحضر النبي صلّى الله عليه وسلم، فيزجره عقبة بن أبي معيط، فنزل: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ إلى قوله: خَذُولًا.
وفي رواية: كان عقبة بن أبي معيط يكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلم، فدعاه إلى ضيافته، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين، ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه، فعاتبه، وقال: صبأت؟! فقال: لا، ولكن أبى أن يأكل من طعامي، وهو في بيتي، فاستحييت منه، فشهدت له، فقال: لا أرضى منك إلا أن تأتيه، فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة، ففعل ذلك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر، فأمر عليا فقتله
، وطعن أبيا بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكة ومات يقول: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا.
قال الضحاك: لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عاد بزاقه في وجهه، فتشعب شعبتين، فأحرق خديه، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.

المناسبة:
بعد بيان طلب المشركين إنزال الملائكة، أخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وعن نزول الملائكة حينئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، فيعض الظالم على يديه ألما وحسرة على ما فات، ويتمنى أن لو كان أطاع الرسول فيما أمر ونهى، ولم يكن ممن أطاع الشيطان من الإنس والجن، ثم يفصل الله تعالى القضاء بين الخلائق.
التفسير والبيان:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي اذكر أيها النبي الرسول يوم تتشقق السماء عن الغمام، وتتفتح عنه، ويتبدل نظام العالم، وتنتهي الدنيا، وتصبح الشمس والكواكب أشبه بالغمام، لتفرقها وتحللها وتناثرها في الجو، كما قال تعالى:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ١- ٢] وقال سبحانه: وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [النبأ ٧٨/ ١٩- ٢٠]. وقال عز وجل: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٥- ١٦].
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ أي وتنزل الملائكة وفي أيديهم صحائف أعمال العباد، لتكون حجة وشاهدا عليهم.
ونظير الآية قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة ٢/ ٢١٠].
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي وكان يوم القيامة على الكافرين يوما شديدا صعبا لأنه يوم عدل وقضاء فصل (محاكمة) كما في آية أخرى:
فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر ٧٤/ ٩- ١٠].

أما المؤمنون فكما قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٣] روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول الله: يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج ٧٠/ ٤] ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، إنه ليخفّف على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا».
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي واذكر أيها الرسول يوم القيامة الذي يعض المشرك وكل ظالم على يديه ندما وحسرة وأسفا على ما فرّط في حياته، وعلى إعراضه عن طريق الحق والهدى الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول صلّى الله عليه وسلم طريقا إلى النجاة والسلامة.
يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني خليلا أي صديقا حميما، أرداني اتباعه، وصرفني عن الهدى، وعدل بي إلى طريق الضلال، سواء في ذلك أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو غيرهما.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي هذا من قول الناس، أي لقد ضللني وحرفني عن ذكر الله والإيمان والقرآن بعد بلوغه إلي.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا هذا من قول الله، لا من قول الظالم أي إن من شأن الشيطان أن يخذل الإنسان عن الحق، ويصرفه عنه، ويدعوه إلى الباطل ويستعمله فيه، ثم يتركه ويتبرأ منه عند المحنة، ولا ينفعه في العاقبة.
والشيطان: إشارة إلى خليله سماه شيطانا لأنه أضله كما يضل الشيطان، أو أراد إبليس وأنه هو الذي حمله على مصادقة أو مخالّة المضل ومخالفة

الرسول صلّى الله عليه وسلم، ثم خذله، أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس.
والمعنى الأخير هو الأولى.
فقه الحياة أو الأحكام:
طلب المشركون إنزال الملائكة، فأبان سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له أربع صفات هي:
١- إن في ذلك اليوم تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام، لأن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس وعن القوس، روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، فتنشق السماء عنه، وهو الذي قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة ٢/ ٢١٠]. وقوله: تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ جامع لمعنى الآيتين:
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار ٨٢/ ١] وآية فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ المذكورة.
وفي ذلك اليوم تنزل الملائكة من السموات إلى الأرض لحساب الثقلين.
ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول، ودلالة على إسراعهم فيه.
٢- يكون الملك الثابت الدائم في ذلك اليوم لله الرحمن الرحيم، وهذا دليل الألوهية لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده.
٣- يكون هذا اليوم شديدا صعبا على الكافرين لما ينالهم من الأهوال، ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، كما دل الحديث المتقدم، وهذه الآية لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا، فهو على المؤمنين يسير.
٤- إنه يوم يعض فيه الظالم الكافر وكل مكذب وطاغ على يديه، حسرة

وألما على ما فرط في دنياه، فلم يؤمن بربه وبالرسول محمد صلّى الله عليه وسلم، فكلمة الظَّالِمُ للعموم، يعم جميع الظلمة، ويشمل عقبة بن أبي معيط الذي همّ بالإسلام، فمنعه منه صديقه أمية بن خلف الجمحيّ، ويروى: أبي بن خلف أخ أمية. وعضّه يديه: فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله، وعدم اتخاذه في الدنيا طريقا إلى الجنة، فيدعو على نفسه بالويل والهلاك على محالفة الكافر ومتابعته، ويقول: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا عنى أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه، لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به، ولا مقصورا عليه، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما.
فهذه العبارات الثلاث: الظالم، وفلان، والشيطان عامة.
والخليل الصاحب قد يضل صاحبه عن ذكر الله والإيمان به والقرآن وموعظة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
والشيطان يوسوس ويغري بالكفر والشرك والمعصية، ثم يخذل أتباعه، والخذل: الترك من الإعانة، والتبرؤ من فعله. وكل من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله، فهو شيطان للإنسان، خذول عند نزول العذاب والبلاء، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ: اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ [الحشر ٥٩/ ١٦].
وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك «١»، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة» «٢».
وذكر أبو بكر البزّار
(٢) وأخرجه أبو داود من حديث أنس.