الأدلة الكونية على وجود الله وتوحيده
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
الإعراب
صَافَّاتٍ حال.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ، مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ مِنْ الأولى للابتداء لأن السماء ابتداء الإنزال، والثانية: للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء، وهي مع المجرور في موضع المفعول، والثالثة: لبيان الجنس لأن جنس تلك الجبال جنس البرد، وتقديره: فيها شيء من برد، وهو مرفوع بالظرف لأن الظرف صفة الجبال.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ من قرأ بفتح الياء تكون باء في بِالْأَبْصارِ للتعدية، ومن قرأ بضم الياء كانت الباء زائدة.
البلاغة:
فَيُصِيبُ بِهِ وَيَصْرِفُهُ بينهما طباق.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ استعارة، شبه تعاقب الليل والنهار بتقليب الأشياء المادية.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ لِأُولِي الْأَبْصارِ بينهما جناس تام لأن المراد بالأولى العيون وبالثانية العقول والقلوب.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين والثقة بالوحي أو بالدليل. يُسَبِّحُ ينزّه ويقدّس ذاته عن كل نقص، والصلاة من التسبيح. مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ:
لتغليب العقلاء. وَالطَّيْرُ جمع طائر، وهو تخصيص لما فيها من الدليل الباهر على وجود الخالق وقدرته، بجعل الأشياء الثقيلة تقف في الجو. صَافَّاتٍ باسطات أجنحتها في الهواء بعملية القبض والبسط. كُلٌّ كل واحد مما ذكر، أو من الطير. قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي علم الله دعاءه وتنزيهه اختيارا أو طبعا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ تعميم بعد تخصيص، أي أن الله عالم بكل شيء من أفعالهم ومجازيهم عليها. وقوله: يَفْعَلُونَ فيه تغليب العقلاء.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي الله مالك السموات والأرض وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات، حاكم متصرف فيهما إيجادا وإعداما، لأنه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات والأفعال. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي وإليه المرجع والمآب.
يُزْجِي يسوق برفق وسهولة، ومنه البضاعة المزجاة يزجيها كل أحد أي يزهد فيها بسهولة. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يضم بعضه إلى بعض، فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة. ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض. الْوَدْقَ المطر. مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم، جمع خلل، كجبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ من الغمام، وكل ما علاك فهو سماء. مِنْ جِبالٍ فِيها من قطع عظام في السماء، وهو بدل بإعادة الجارّ. مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال، ومفعول يُنَزِّلُ محذوف، أي ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من جنس البرد، مأخوذ من برد بردا، والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت، ولم تحلّلها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحابا، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا، وإن اشتد البرد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا، وإلا نزل بردا، وكل ذلك لا بد وأن يستند إلى إرادة الله الحكيم، وإليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير للبرد.
يَكادُ يقرب. سَنا بَرْقِهِ ضوء البرق الذي في السحاب، والبرق: جمع برقة.
يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة، وذلك أقوى دليل على كمال القدرة من حيث توليد الضدّ من الضدّ، أي النار من البارد. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، فيأتي بكل منهما بدل الآخر، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك وهو الأولى. إِنَّ فِي ذلِكَ التقليب، وفيما تقدم ذكره.
لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ للدلالة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفاذ مشيئته، وتنزهه عن الحاجة، لمن يتأمل ذلك من أهل العقول والبصائر.
دَابَّةٍ حيوان يدب على الأرض، وتستعمل عرفا للدواب ذوات الأربع. مِنْ ماءٍ هو جزء مادته، أو ماء مخصوص وهو النطفة، تنزيلا للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما لا يتولد عن النطفة. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والهوام من الحشرات، وإنما سمي الزحف مشيا بطريق الاستعارة أو المشاكلة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والأنعام، ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب، فإنها تعتمد في المشي على أربع. وتذكير الضمير في قوله: فَمِنْهُمْ والتعبير بمن لتغليب العقلاء، والتعبير بمن عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة. والترتيب في إيراد هذه المخلوقات لتقديم ما هو أدل على القدرة. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر، على اختلاف الصور في الأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى ما استنارت به قلوب المؤمنين بالهداية، وما أظلمت به قلوب الكافرين بالضلالة، أتبع ذلك ببيان أدلة التوحيد والقدرة، فذكر منها أربعة: الأول- تسبيح المخلوقات، والثاني- إنزال الأمطار، والثالث- اختلاف الليل والنهار، والرابع- أنواع الحيوانات.
التفسير والبيان:
النوع الأول- تسبيح المخلوقات:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أي ألم تعلم بالدليل أيها النبي وكل مخاطب أن الله سبحانه ينزّهه ويقدّسه كل من في
السموات والأرض من العقلاء وغيرهم من الملائكة والإنس والجن والجمادات، ومنها الطير الباسطات القابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء لكيلا تسقط، تنزيها يدركه المتأمل بعقله السليم إذ تكوينها بخصائصها المتفاوتة يدل بذاته على وجود الخالق لها.
والتنزيه يدل على اتصاف الخالق بجميع صفات الكمال، ويبطل قول الكفار الذين جعلوا الجمادات شركاء لله، ونسبوا إليه الولد، وهي من مخلوقاته وإيجاده. قال مجاهد وغيره: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سواه من الخلق.
وذكر الطير مع دخولها بما سبق لما فيها من دلالة خاصة على بديع الصنع الإلهي، وكمال القدرة الإلهية، ولطف التدبير لمبدعها لأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجة واضحة على كمال قدرة الخالق المبدع.
والافتتاح بقوله أَلَمْ تَرَ يشير إلى أن تسبيح الكائنات لله عزّ وجلّ أمر واضح يصل إلى حد العلم الذي لا شك فيه.
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أي كل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزّ وجلّ. والله عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه شيء من أفعالهم، سواء في حال الطاعة أو المعصية، ومجازيهم عليها.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي إن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما خلقا وإماتة، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولا معقّب لحكمه، وإليه وحده مصيرهم ومعادهم يوم القيامة، فيحكم فيه بما يشاء، ويجازي بما أراد، كقوله تعالى:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم ٥٣/ ٣١].
والخلاصة: إن عظمة الكون، وإبداع السموات والأرض، وما بثّ الله فيهما من كائنات حية وجامدة، وروعة ما نشاهده من تركيب الإنسان، وتنوع عالم الحيوان في البر والبحر والجو، وما يقوم به أضخم الحيوان وأصغره، وتفنّن النحل في بناء البيوت وتكوين العسل، وحيل العناكب الضعيفة في اصطياد الحشرات، وعجائب أعمال الطيور، وتصرف الرّب في المخلوقات إيجادا وإعداما، بدءا وإعادة، كل ذلك دليل قاطع محسوس على وجود الإله الخالق المبدع، والرّب الواحد المتصرف، الذي لا ربّ سواه، ولا معبود بحق غيره.
هذا أول دليل كوني على وجود الله وقدرته ووحدانيته، وهو شامل لعدة أدلة، كل دليل منها كاف وحده في تكوين القناعة، ويمكن تصنيف ما ذكر في الآيتين الأوليين في دليلين إجماليين: دليل العبودية في العالمين العلوي والسفلي، ودليل الملك المطلق ووحدة مصير الخلائق إلى الله تعالى.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وهذان دليلان آخران في الآيتين التاليتين على قدرة الله وتوحيده:
النوع الثاني- إنزال المطر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. إلى قوله: يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب كيفية تكوين المطر وإنزاله، إنه تعالى يسوق بقدرته السحاب أول ما ينشئه بعضه إلى بعض، بعد أن يتكون من بخار الماء الصاعد من البحار التي هي أربعة أخماس المعمورة، ثم يجمع ما تفرق من أجزائه في وحدة متضامة، ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، حتى يتكون منه سحاب عال في طبقات الجو الباردة، ثم يسوق ذلك السحاب بالرياح اللواقح إلى المكان الذي يريد إنزال المطر فيه، ثم ينزل المطر من خلال السحاب، أي من نتوقه وشقوقه التي تتكون بين أجزائه.
وهكذا ينزل الله المطر من طبقات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال، كما ينزل الثلج والبرد بحسب نسبة تأثير البرودة في الأبخرة المتصاعدة. وكل ما علا الإنسان فهو سماء، فالسماء هي الغيم المرتفع على رؤوس الناس. وتكون الجبال كناية عن السحاب المشاهد الآن لكل راكب في الطائرة التي ترتفع عادة أكثر من ثلاثين ألف قدم في الجو فوق السحب البيضاء المتجمعة كالجبال الشاهقة «١» ويرى مفسرون آخرون أن جبال البرد قائمة فعلا في السماء، وينزل الله منها البرد، وهذا المعنى تؤيده بعض النظريات الحديثة التي تثبت أن في طبقات الجو ما يشبه الجبال مكونة من برد، وقد تنزل زيادة على ما يصعد من بخار البحار.
وتتحكم إرادة الله وقدرته وتصريفه في كيفية إنزال المطر، فيصيب بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد من يشاء من عباده رحمة لهم، ويحجبه عمن يشاء، ويؤخر الغيث عمن يريد، إما نقمة وإما رحمة من إسقاط الثمار والأزهار وإتلاف الزروع والأشجار.
وأعجب من ذلك كله خلق الضد من الضد وهو النار من البارد، حتى ليكاد أو يقرب ضوء برق اصطدام الغيوم من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
النوع الثالث- اختلاف الليل والنهار:
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي إن الله عزّ وجلّ يتصرف في الليل والنهار بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وتغير أحوالهما
بالحرارة والبرودة، وتعاقبهما بنظام ثابت دقيق، إن في ذلك لدليلا على عظمته تعالى، وعظة لمن تأمل فيه من ذوي العقول، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران ٣/ ١٩٠]،
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار».
النوع الرابع- أنواع المخلوقات:
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بعد أن استدل الله تعالى على وحدانيته وقدرته بعالم السماء والأرض وبالآثار العلوية، استدل بأحوال الحيوانات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها ومهماتها، فذكر أنه سبحانه خلق كل أنواع الحيوانات التي تدب على الأرض من ماء واحد هو جزء مادتها وأساس تكوينها، أو هو النطفة التي يحملها المني الحيواني الذي تلقح به بويضة الأنثى في منيها. وسبب تخصيص الماء بالذكر أنه أصل الخلقة الأول، ولأنه لا بقاء للحيوان بدونه، ولأن آثار التراب تمتزج فيه.
وأنواع الحيوان كثيرة، فمنها من يمشي زحفا على بطنه بانقباض عضلات البطن وانبساطها كالحيات والأسماك وسائر الزواحف. وسمي زحفها مشيا إشارة إلى كمال القدرة وتحقيقها هدف المشاة وهو الانتقال والحركة للبحث عن الرزق وتحقيق الغايات.
ومنها من يمشي على رجلين كالإنسان والطير.
ومنها من يمشي على أربع كالأنعام وسائر وحوش البر.
والله سبحانه يخلق بقدرته ما يشاء، وهذا تعبير إجمالي يدخل آلاف أنواع
الحيوانات الأخرى من حشرات وغيرها مما يمشي على أكثر من أربع، وتختلف صوره وطبائعه وقواه.
إن الله قادر على خلق كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ثم ختم الله تعالى إيراد أدلة التوحيد ببيان جامع شامل يجمع تلك الأدلة فقال:
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي أنزل الله في هذا القرآن آيات مفصلات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون، ومرشدة إلى طريق الحق والسداد بما فيها من حكم وأحكام وأمثال بينة محكمة، وأنه تعالى يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والوعي والعقل، ويرشد من يشاء إلى الطريق القويم الذي لا عوج فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه دلائل التوحيد وإثبات الذات الإلهية، الدالة دلالة حسية على أن لتلك المصنوعات المتغيرة صانعا قادرا على الكمال.
وأول هذه الأدلة أن جميع المخلوقات تسبح الله، أي تنزهه عن جميع النقائص، وتصفه بصفات الجلال والكمال، والله عليم بتسبيحها وبدعائها وعبادتها، يعلم صلاة المصلي وتسبيح المسبّح، ولا يخفى عليه طاعتهم وتسبيحهم.
والله تعالى مالك الملك في السموات والأرض، وهو الحاكم المدبر المتصرف بجميع المخلوقات، وإليه مصير الخلائق يوم القيامة. وكل مملوك عبد لله، وكل محاسب ضعيف ذليل أمام القاضي.
وثاني الأدلة- إنزال المطر بكيفية عجيبة تبدأ بتصاعد أبخرة الماء وتحمل بقدرة الله إلى طبقات الجو العالية، وتتجمع حينئذ بها السحب والغيوم، وتقودها الرياح، وتلقحها وتؤثر فيها بالبرودة، ثم تتساقط الأمطار العذبة بعد أن كانت عند تبخرها من البحار مالحة، فتروي الأرض، وتحقق الخير، وتوفر الرزق، وتحيي جميع الكائنات الحية، فإن الرطوبة أهم عناصر الحياة، وهي الفارق المميز بين الشتاء والصيف.
وثالث الأدلة- تقليب الليل والنهار بالزيادة والنقص، والحرارة والبرودة، والتعاقب المستمر، ولكل من الليل والنهار طبيعة تناسب الإنسان، فالليل للراحة والهدوء، والنهار للحركة والكسب.
ورابع الأدلة- تنوع المخلوقات بأشكال شتى، وطبائع مختلفة، ومنافع متعددة، مع أن منشأها واحد وهو الماء، وتركيبها مختلف، ويخلق الله من الماء ما يشاء وما لا نعلم به إلى الآن، بالرغم من تعدد الاكتشافات العلمية إذ أول ما خلق الله من العالم الماء، ثم خلق منه كل شيء، وقدرة الله فوق الحصر والعد، وأغرب من السمع والبصر.
وما أجمل وأبدع ما ختمت به تلك الأدلة من قوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ... فهي تشمل كل الأدلة والعبر، ومنها بيان القرآن العظيم الذي اشتمل على أدلة الإيمان والاعتقاد، وأحكام العبادة والتشريع، وأصول الفضائل والآداب والأخلاق. والله يهدي بتلك الأدلة من يريد إلى طريق الحق والصواب، والسداد والاستقامة، دون انحراف أو اعوجاج، فماذا بعد بيان الحق إلا الضلال؟!