
رضي الله عنه، كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق. ومنها أنه لما وصفه تعالى بأنه أولوا الفضل والسعة بالجمع لا بالواحد وبالعموم لا الخصوص، على سبيل المدح، وجب أن يقال: إنه كان خاليا عن المعصية «١».
٢٠- قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برّأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برّأها الله تعالى بالقرآن فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برّأها الله بكلامه من القذف والبهتان «٢».
جزاء القذفة الأخروي في قصة الإفك
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
الإعراب:
يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الْحَقَّ بالنصب: صفة ل دِينَهُمُ ومن قرأ بالرفع جعله صفة اللَّهُ وفصل بين الصفة والموصوف بالمفعول الذي هو دِينَهُمُ.
(٢) تفسير القرطبي: ١٢/ ٢١٢

أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أُولئِكَ مبتدأ، ومُبَرَّؤُنَ خبر المبتدأ. ومِمَّا يَقُولُونَ جار ومجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب مُبَرَّؤُنَ. ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ جملة في موضع خبر آخر ل أُولئِكَ.
البلاغة:
يَعْمَلُونَ ويَعْلَمُونَ جناس ناقص.
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ مقابلة.
المفردات اللغوية:
الْمُحْصَناتِ العفيفات. الْغافِلاتِ البعيدات عن المعاصي والفواحش، السليمات الصدور، والنقيات القلوب. الْمُؤْمِناتِ بالله ورسوله. لُعِنُوا طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذبوا في الدنيا بحد القذف. دِينَهُمُ جزاءهم. الْحَقَّ الثابت الذي يستحقونه.
هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته، الظاهر الألوهية، لا يشاركه في ذلك غيره، ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البيّن، أي العادل الظاهر عدله، وقد حقق لهم جزاءه الذي كانوا يشكّون فيه. أو أن وعد الله ووعيده هو العدل الذي لا جور فيه.
الْخَبِيثاتُ من النساء. لِلْخَبِيثِينَ من الرجال. وَالطَّيِّباتُ من النساء.
لِلطَّيِّبِينَ من الناس، أي اللائق بالخبيث مثله، وبالطيب مثله. أُولئِكَ الطيبون من الرجال والطيبات من النساء ومنهم عائشة أم المؤمنين وصفوان الصحابي التقي الورع المجاهد المتهم زورا وبهتانا. مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ أي يقول الخبيثون والخبيثات من الرجال والنساء فيهم لَهُمْ للطيبين والطيبات. مَغْفِرَةٌ ستر. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني الجنة، وقد افتخرت عائشة بأشياء منها: أنها خلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقا كريما. قال البيضاوي: ولقد برّأ الله أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآيات، مع هذه المبالغات، وما ذلك إلا لإظهار منصب الرسول صلّى الله عليه وسلم وإعلاء منزلته.
سبب النزول:
أخرج الطبراني عن الضحّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي

صلّى الله عليه وسلم خاصة: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رميت بما رميت به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عندي إذ أوحي إليه، ثم استوى جالسا، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ حتى بلغ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ.
وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت:
لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية
، وهو مرسل صحيح الإسناد.
المناسبة:
بعد بيان خبر الإفك وعقاب الأفاكين، وتأديب الخائضين، ذكر الله تعالى براءة عائشة صراحة، وذكر مع ذلك حكما عاما وهو أن كل من قذف مؤمنة عفيفة بالزنى، فهو مطرود من رحمة الله، وله عذاب عظيم.
وهذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصدّيق رضي الله عنهما.

التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلى قوله: عَذابٌ عَظِيمٌ أي إن الذين يتهمون بالفاحشة والفجور النساء المؤمنات بالله ورسوله العفائف البعيدات عن تلك التهمة، ومثلهم الرجال، هم مطردون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، وعليهم غضب الله وسخطه، ولهم في الآخرة عذاب شديد كبير، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر،
أخرج الإمام أحمد والشيخان وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
وأخرج أبو القاسم الطبراني عن حذيفة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة».
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إن عذابهم يوم القيامة يوم تشهد عليهم أعضاؤهم الألسنة والأيدي والأرجل بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل إذ إن الله ينطقها بقدرته، كما ذكر في آية أخرى:
وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا؟ قالُوا: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت ٤١/ ٢١].
روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة عرّف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول:
كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمّهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار».
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أي في

ذلك اليوم يوفيهم الله حسابهم أو جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
قال الزمخشري رحمه الله وجزاه عن تفسيره الدقيق جدا للقرآن الكريم خير الجزاء: ولو فلّيت «١» القرآن كله، وفتّشت عما أوعد به العصاة، لم تر الله تعالى قد غلّظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنّة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث، لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين «٢».
يفهم من هذا الكلام ومن كلام الفخر الرازي أن الله تعالى عاقب هؤلاء القذفة بثلاثة أشياء: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة، وهو وعيد شديد، وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم على أعمالهم، وإيفاؤهم جزاء عملهم. والدين بمعنى الجزاء مثل قولهم: «كما تدين تدان» وقيل: بمعنى الحساب كقوله تعالى:
ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الحساب الصحيح، والحق: هو أن الجزاء الموفى هو القدر المستحق لأنه الحق، وما زاد عليه هو الباطل.
ثم أورد الله تعالى دليلا ماديا حسيا على براءة عائشة فقال:
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ، وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ..
(٢) تفسير الكشاف: ٢/ ٣٨٠ وما بعدها.

أي النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثون الزناة من الرجال للخبيثات من النساء لأن اللائق بكل واحد ما يشابهه في الأقوال والأفعال، ولأن التشابه في الأخلاق والتجانس في الطبائع من مقومات الألفة ودوام العشرة. وذلك كقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور ٢٤/ ٣].
وعلى هذا يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء، أي شأن الخبائث يتزوجن الخباث، أي الخبائث، وشأن أهل الطيب يتزوجن الطيبات.
ويجوز أن يكون المراد من الخبيثات الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، والمعنى: الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس: والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس.
وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم درة الطيبين وخيرة الأولين والآخرين، فالصدّيقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات، فيبطل ما أشاعه أهل الإفك. ويكون الكلام جاريا مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. والرأي الأول هو الظاهر.
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي أولئك الطيبون والطيبات كصفوان وعائشة بعداء مبرؤون مما يقوله أهل الإفك والبهتان الخبيثون والخبيثات.
وأولئك المبرؤون لهم مغفرة عن ذنوبهم بسبب ما قيل فيهم من الكذب ورزق كريم عند الله في جنات النعيم، كما في قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب ٣٣/ ٣١].
عن عائشة رضي الله عنها: «لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يتزوجني

ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ولقد توفّي وإن رأسه لفي حجري ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّته الملائكة في بيتي وإن الوحي لينزل عليه في أهله، فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه وإني لابنة خليفته وصدّيقه ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيّبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما» تعني قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو الجنة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
١- إن الذين يرمون بالزنى أو الفاحشة النساء المحصنات العفائف، أو الرجال المحصنين قياسا واستدلالا أو يقذفون غيرهم، ومن هؤلاء عائشة وسائر زوجات النبي صلّى الله عليه وسلم، لعنوا في الدنيا والآخرة، واللعنة في الدنيا: الإبعاد وضرب الحد وهجر المؤمنين لهم، وإساءة سمعتهم، وإسقاط عدالتهم، وفي الآخرة الطرد من رحمة الله بالعذاب في جهنم.
والأصح كما رجح المفسرون أن بقية أمهات المؤمنين في هذا الحكم وغيره كعائشة رضوان الله عليهن، فقاذفهن ملعون في الدنيا والآخرة، ومن سبّهن فهو كافر، كما ذكر ابن كثير.
وقال أبو جعفر النحاس: من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية: إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى. ويكون التقدير: إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون إلا أنه غلّب المذكر على المؤنث، أي أن الرمي أو القذف بالزنى كبيرة وحرام من أي مكلف، وعلى أي مكلف: ذكر أو أنثى.