آيات من القرآن الكريم

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ

[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٢]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)

صفحة رقم 77

تفسير المفردات
الإفك: أبلغ الكذب والافتراء، والعصبة: الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين، وقد عدّت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبى ابن سلول وقد تولّى كبره، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى الله عنها وزوج طلحة ابن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، كبره (بكسر الكاف وضمها وسكون الباء) أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه، (لولا) كلمة بمعنى هلّا تفيد الحث على فعل ما بعدها، مبين: أي ظاهر مكشوف، أفضتم: أي خضتم فى حديث الإفك، تلقونه: أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض، يقال تلقّى القول وتلقّنه وتلقّفه ومنه «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ» سبحانك: تعجب ممن تفوّه به، بهتان: أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته، يعظكم: أي ينصحكم، تشيع: أي تنتشر، الفاحشة: الخصلة المفرطة فى القبح وهى الزنا، وخطوات واحدها خطوة (بالضم) ما بين القدمين من المسافة، ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه: والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر منه، زكا: أي طهر من دنس الذنوب، ولا يأتل: أي لا يحلف، الفضل الزيادة فى الدين، السعة: الغنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات- ذكر فى هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

صفحة رقم 78

ومجمل القصص ما
رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن حرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى (نصيبى) فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت فى هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودى بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى، فلست صدرى فإذا عقدى من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرّهط الذين كانوا يرحّلون بي فاحتملوا هودجى فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أنى فيه لخفتى، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلى وظننت أنهم سيفقدوننى ويعودون فى طلبى، فبينا أنا جالسة فى منزلى غلبتنى عينى فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلمى من وراء الجيش، فلما رآنى عرفنى فاستيقظت باسترجاعه، فخمّرت وجهى بجلبابي، وو الله ما تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا فى نحر الظهيرة، وافتقدنى الناس حين نزلوا وماج القوم فى ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا فى حديثى فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبى، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون فى قول أصحاب الإفك لا أشعر بشىء من ذلك، ويريبنى فى وجعي أنى لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكى، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذلك يريبنى ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل (المناصع) وهو متبرّزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول فى التنزه فى البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح

صفحة رقم 79

(هى ابنة أبى رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبى بكر الصديق) قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح فى مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت أتسبّين رجلا قد شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه أولم تسمعى ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتنى بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضى فلما رجعت إلى منزلى ودخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال كيف تيكم؟
قلت أتأذن لى أن آتى أبوىّ؟ قال نعم، قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوىّ فقلت لأمى: أي أماه، ماذا يتحدث الناس به؟ فقالت: أي بنيّة هوّنى عليك، فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضراتر إلا أكثرن عليها: قالت قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت نعم، قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقألى دمع ولا أكتحل بنوم؟ ثم أصبحت فدخل علىّ أبو بكر وأنا أبكى، فقال لأمى ما يبكيها؟
قالت: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبّ يبكى، فبكى ساعة ثم قال: اسكتي يا بنية، فكيت يومى ذلك لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلى المقبل لا يرقأ لى دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواى أن البكاء سيفلق كبدى، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بن أبى طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحى يستشيرهما فى فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي فى نفسه من الود، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علىّ فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية (يعنى بريرة) تصدقك، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال: هل رأيت من شىء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتى الدواجن فتأكله، فقام

صفحة رقم 80

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبىّ فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغني أذاه فى أهلى، فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلى إلا معى، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضى الله عنه فقال: أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس صربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة، فقال أىّ سعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة، كذبت لعمر الله لنقتلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر، فلم يزل يخفّضهم حتى سكتوا، ثم أتانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا فى بيت أبوىّ، فبينما هما جالسان عندى وأنا أبكى استأذنت علىّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكى معى، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم جلس عندى ولم يجلس عندى منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه فى شأنى بشىء، قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله وتوبى إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعى حتى ما أحسّ منه دمعة، قلت لأبى: أجب عنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال، قال والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت لأمى: أجيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، إنى والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر فى أنفسكم حتى كدتم أن تصدّقوا به،

صفحة رقم 81

فإن قلت لكم إنى بريئة (والله يعلم أبى بريئة) لا تصدّقونى بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنى منه بريئة لتصدّقنى، وإنى والله لا أجد لى ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» ثم توليت فاضطجعت على فراشى وأنا والله أعلم أنى بريئة، وأن الله سيبرئنى ببراءتي، ولكنى والله ما كنت أظن أن ينزل فى شأنى وحي يتلى، ولشأنى كان أحقر فى نفسى من أن يتكلم الله فى بأمر يتلى، ولكنى كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى المنام رؤيا يبرئنى الله بها، قالت والله ما دام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحى حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان
من العرق فى اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سرّى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشرى يا عائشة، إن الله قد يراك، فقالت لى أمي قومى إليه، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ» العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا فى براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله:
«وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ» فقال أبو بكر:
إنى لأحب أن يغفر الله لى، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل زينب بنت جحش عن أمرى وما سمعت، فقالت: يا رسول الله أحمى سمعى وبصرى، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة: وهى التي كانت تساميى، فعصمها الله بالورع، وطفقت أحبها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك».

صفحة رقم 82

وكان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول: حدثتنى الصّديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المبرّأة من السماء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها والله عليم بما يفعلون.
وفى التعبير (بعصبة) بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينتسرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس.
(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خير لكم، لاكتسابكم به الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر فى براءتكم وتعظيم شأنكم، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها.
ثم ذكر عقاب من اجترحوه- كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال:
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي لكل امرئ منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقلّ، وبعضهم أكثر.
(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي والذي تحمّل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد الله بن أبىّ (عليه اللعنة) له عذاب عظيم فى الدنيا والآخرة، أما فى الدنيا فبإظهار نفاقه على رءوس الأشهاد، وأما فى الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم.
وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه فى عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

صفحة رقم 83

وقال الضحاك: الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله عذرها، وجلد معهما امرأة من قريش، وإنما أضاف الكبر إليه، لأنه ابتدأ بذلك القول، لاجرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك،
لقوله عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
ثم عاتب الله أهل الإيمان به فيما وقع فى أنفسهم من إرجاف من أرجف فى أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور:
(١) (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك فى عائشة ظنتم بمن اتّهم بذلك خيرا، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن، ويكفّكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» وقال «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» وهلا قلتم حينئذ: هذا كذب ظاهر مكشوف؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه- ذاك أن مجىء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم ينفى كل شك، وإنما قيل ما قيل لحسد فى القلوب كامن، وبغض فى النفس مكتوم.
ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبّخهم على ما اختلفوه وأذاعوه بقوله:
(٢) (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) أي هلا جاء الخائضون فى الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به.
(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون فى حكم الله وشرعه.
(٣) (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله سبحانه عليكم فى الدنيا بضروب النعم التي من أجلّها الإمهال للتوبة، ورحمته فى الآخرة بالعفو بعد التوبة- لعجل لكم العقاب فى الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.

صفحة رقم 84

ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله:
(٤) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، وقولكم قولا بالأفواه دون أن يكون له منشأ فى القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله.
وخلاصة ذلك- إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها:
(ا) تلقى الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع فى نشره.
(ب) إنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما فى القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه (ج) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة.
(هـ) (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) أي وهلّا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه فى القول- قلتم تكذيبا له وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم: لا يحل لنا أن نتكلم بهذا ولا ينبغى لنا أن نتفوه به سبحانك رب- هذا كذب صراح يحيّر السامعين، أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو فى الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة، وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق؟ وإنا لنبرأ إليك

صفحة رقم 85

ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفّاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة فى انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
وخلاصة هذا- تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجور، والعقل والدين يمنعان الخوض فى مثل هذا، لأن فيه إيذاء للنبى صلّى الله عليه وسلّم والله يقول «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها، ولأن فى إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق الله
والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول «تخلقوا بأخلاق الله».
ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال:
(٦) (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد فى الدنيا، والعذاب فى الآخرة، كى لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه.
وفى قوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا.
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي ويفصّل الله لكم فى كتابه، آيات التشريع، ومحاسن الفضائل والآداب، وهو العليم بكم، لا يخفى عليه شىء منها، فيجازى المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. الحكيم فى تدبير شئونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير الأمم فى سياسة الشعوب وعمارة الأرض، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ» ولقد صدق الله وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا فى ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته

صفحة رقم 86

حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط السوي، والنهج القويم، تقلّص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستعبدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بيّن ذلك بقوله:
(٧) (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنا فى المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات، لهم عذاب موجع فى الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس، وفى الآخرة بعذاب النار وبئس القرار.
وفى الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «المسلم من سلّم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة».
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا، ولا ترووا ما لا علم لكم به، ولا سيما حلائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتهلكوا.
ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال:
(٨) (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ولولا أن الله تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض فى الإفك ومكّنّكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.
وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال:
(٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفحشاء فى الذين آمنوا، وإذا عتكموها فيهم، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.

صفحة رقم 87

ثم ذكر سبب النهى فقال:
(وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما، ومن هذا شأنه لا ينبغى اتباعه ولا طاعته.
ثم أكد منته على عباده فقال:
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال:
«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ على ظهرها مِنْ دَابَّةٍ».
(وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي ولكنّ الله جلت، قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلّم من داء النفاق ممن وقع فى حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة، عليم بما فى قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك.
وفى هذا حث لهم على الإخلاص فى التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، وارتكاب الأوزار والآثام.
(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون بالله، ألا يعطوا ذوى قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبى بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول الله بدرا.
روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قول فى عائشة ما قال

صفحة رقم 88
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية