
قوله تعالى ذكره: ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾.
أي: ادفع يا محمد فعل هؤلاء المشركين بالخلة التي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلهم، والصبر على أذاهم، وهذا قبل أن يأمره بحربهم. فهو منسوخ بالأمر بالقتال.
والسيئة هنا هي أذى المشركين إياه، وتكذيبهم له.
قال مجاهد: معناه: أعرض عن أذاهم إياك.
وروي عنه أنه قال: هو السلام يسلم عليهم إذا لقيهم.
ثم قال: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾.
أي: ما يصفون الله به جل ذكره من السوء، وهو مجازيهم عليه.
ثم قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾.
أي: رب استجيرك من وسوسة الشياطين ".
وقال ابن زيد: " همزات الشياطين " خنقهم للناس.
﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾.
أي: يحضرون في شيء من أموري.

وقيل: " همزات الشياطين " الجنون الذي يعرض للناس والصرع وكان النبي ﷺ يتعوذ من الشيطان، ويقول: " من همزة ونفثه ونفخه فقيل: يا رسول الله، وما همزه فذكر هيئة الموتة الذي تأخذ الناس، وهو الجنون والصرع، فقيل له: وما نفثه؟ قال: الشِعر. فقيل له: وما نفخه؟ قال: " الكفر ".
ثم قال: ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت﴾.
أي: إذا عاين أحد هؤلاء المشركين الموت ونزل به أمر الله تعالى: ﴿قَالَ﴾ لعظيم ما يعاين من عذاب الله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾ إلى الدنيا ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ قبل اليوم من العمل فضيعته وفرطت فيه. وذلك تندماً منه على ما فات وتلهفاً.
يقول الجبار: ﴿كَلاَّ﴾ أي: لا ترد، وذلك لا ينفعه، لأنه وقت رفع عنه حد التكليف، فلا تنفع فيه توبة، وذلك عند اليقين بالمو، والبشارة بما أعد له من العذاب، والإعلام بما كان عليه من الخطأ في دينه، فإذا عاين ذلك كله، لم ينفعه ندم ولم يتقبل منه توبة ولم يقل من ندامته.
وليست " لعل " في هذا للشك، لم يرد لعلي أعمل أو لا أعمل إنما هي لليقين، أي: إن رددت عملت، وهو لا يرد أبداً.
قال ابن زيد: ذلك حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت.

وروي عن النبي ﷺ أنه قال: إذا حضر الإنسان/ الموت جمع له كل شيء كان يمنعه من ماله من حقه، فجعل بين يديه، فعند ذلك يقول: ﴿رَبِّ ارجعون...﴾ الآية.
وروى ابن جريج " أن النبي ﷺ قال: إذا عاين المؤمنا الملائكة، قالوا: نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، فيقول: بل قدماً إلى الله جل ثناؤه، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ".
قال الضحاك: يعني به أهل الشرك.
وقوله: ﴿رَبِّ ارجعون﴾، بالتوحيد ثم بالجمع فإنما ذلك لأن الكافر ابتدأ سؤاله إلى الله، ثم رجع إلى خطاب الملائكة الذين يتولون القبض روحه، فأتى بلفظ الجمع لأنهم جماعمة، ووحد أولاً لأن الله واحد.
وقيل: إنه إنما جمع لأن الجبار يخبر عن نفسه بلفظ الجمعة تعظيماً، فإذا خوطب جرى أيضاً على ذلك، فجرى أول الكلام على التوحيد وآخره على لفظ الجمع للتعظيم.
وقيل: إنما جاء " ارجعون " بلفظ الجمع، لأنه بمعنى: ارجع ارجع ففيه معنى التكرير، وكذلك قال المازني في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق: ٢٤] قال: معناه: الق الق.

ثم قال: ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾. قال ابن زيد: لابد كل مشرك أن يقولها.
ثم قال تعالى: ﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾.
البرزخ هو مقامهم تحت التراب إلى يوم البعث فهو حاجز بينهم وبين الرجوع.
قال ابن عباس: " برزخ " أجل إلى حين.
وقال ابن جبير: برزخ ما بعد الموت.
وحضر أبو أمامة جنازة، فلما وضعت في اللحد قال: هذا برزخ إلى يوم يُبعثون.
وقال مجاهد: " البرزخ ". ما بين الموت إلى البعث.
وقال الضحاك: " البرزخ " ما بين الدنيا والآخرة.
وحقيقة البرزخ في اللغة أنه كل حاجز بين شيئين.
وقال رجل بحضرة الشعبي رحم الله فلاناً صار من أهل الآخةر فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾.
أي: فإذ نفخ إسرافيل في القرن.

وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة، ومعناه: فإذا نفخ في صور الناس الأرواح.
قال ابن مسعود: " الصور ": قرن.
وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبتهه وأصغى سمعه، ينتظر متى يؤمر ".
ثم قال: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾. وقد قال في موضع آخر: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فمعنى قول ابن عباس فيه، أنه إذا نفخ في الصور أول نفخة، تقطعت الأرحام، وصعق من في السماوات ومن في الأرض، وشغل بعض الناس عن بعض بأنفسهم، فعند ذلك لا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فإذا نفخت النفخة الثانية قاموا ينظرون وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، فذلك في وقتين مختلفين.
وقيل: معناه: لا تفاخر بينهم بالأنسان في القيامة كما يتفاخرون في الدنيا بالأنساب. ولا يتساءلون في الآخرة كما يتساءلون في الدنيا فيقولون من أي قبيلة الرجل.
وعن ابن عباس: أيضاً أن رجلاً سأله عن الآيتين فقال: أما قوله:

﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ فذلك في النفخة الأولى، لا يبقى على الأرض شيء، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وأما قوله: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فإنهم لما دخلوا الجنة، أقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وبذلك قال السدي.
وعن ابن مسعود أن ذلك في الموقف في النفخة الثانية قال: يؤخذ بيد العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين قال وينادي مناد: هذا فلان بن فلان فمن كان له حق قبلهُ فليأت إلى حقه. قال: فتفرح المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو على ابنها أو على أخيها أو على زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلونن فيقول الرب تعالى للعبد: اعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي: رب، فنبت الدنيا، فمن أين أعطيهم، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا كل إنسان مقدار طلبته، فإن كان له فضل/ مثقال حبة من خردل ضاعفها له حتى يدخله بها الجنة، ثم تلا ابن مسعود: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها﴾... الآية، وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: ربنا فنيت حسناه وبقي طالبون كثير، فيقول تعالى: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته، وصكوا له صكاً إلى النار.
وقال ابن جريج في الآية: لا يسأل يومئذ أحد شيئاً، ولا يمت إليهم برحم، ولا يتساءلون.
وقال قتادة: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه