آيات من القرآن الكريم

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕ ﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ

المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى إِعراض المشركين عن دعوة الإِيمان، ذكر هنا سبب الإِعراض وهو العناد والطغيان، ثم أردفه بإِقامة الأدلة على التوحيد، ثم ذكر أحوال الآخرة وانقسام الناس إِلى سعداء

صفحة رقم 289

وأشقياء، وختم السورة ببيان الحكمة من حشر الناس إِلى دار الجزاء وأنه لولا لاقيمة لما تميز المطيع من العاصي ولا البرُّ من الفاجر.
اللغَة: ﴿مُبْلِسُونَ﴾ يائسون متحيرون، والإِبلاس: اليأس من كل خير ﴿يُجْيِرُ﴾ يمنع ويحمي من استغاث به يقال: أجرت فلاناً على فلان إِذا أغثته ومنعته منه ﴿هَمَزَاتِ﴾ جمع همزة وهي الدفع والتحريك الشديد وهو كالهز والأزّ، وهمزات الشيطان: كيده بالوسوسة ﴿بَرْزَخٌ﴾ حاجز ومانع قال الجوهري: البرزخ: الحاجز بين الشيئين ﴿كَالِحُونَ﴾ الكلوح: أن تتقلَّص الشفتان وتتباعد الأسنان، وذلك نهاية القبح لوجه الإِنسان.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: نزلت في قصة «ثمامة بن أُثال» لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان: أنشدك الله والرَّحم، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الآيات.
التفسِير: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ﴾ أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء ﴿لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب﴾ أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، وبالقحط والجوع ﴿فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ﴾ أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله ﴿وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم ﴿حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ أي حتى إ ِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ﴿إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود: المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل، والأسر، والجوع وغير ذلك فما رؤي منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم ثم ذكَّرهم تعالى ينعمة ودلائل وحدانيته فقال ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾ أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى
﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٦] وخصَّ هذه

صفحة رقم 290

الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ أي قليلاً تشكرون ربكم، و ﴿مَّا﴾ لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم؟ ﴿وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض﴾ أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل ﴿وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب ﴿وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أي يُحيي الِّمم ويميت الخلائق والأمم ﴿وَلَهُ اختلاف الليل والنهار﴾ أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدلي على وجوده وقدرته ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته، وآثار قهره، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء؟ ﴿بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون﴾ ﴿بَلْ﴾ للإضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعبر، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون ﴿قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ ؟ أي إئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ﴾ أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾ أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال ﴿قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ﴾ ؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه: لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء؟ ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي: يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد، والإِبداع، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك ﴿قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته؟ ﴿قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم﴾ ؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس، والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أي سيقولون: اللهُ خالقه وهو لله ﴿قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام ﴿قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير؟ ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ﴾ أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ أي سيقولون: الملك كله والتدبيرُ لله جلَّ وعلا ﴿قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ﴾ أي قل لهم: فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك؟ قال أبو حيان: والسحر هنا مستعار وهو

صفحة رقم 291

تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ ثم قال ثانياً ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً ﴿فأنى تُسْحَرُونَ﴾ وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق﴾ أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد.
لمَّا بالغ في الحِجاج عليه بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد، ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية ﴿إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ﴾ أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر ﴿وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ﴾ أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لانفرد كلٌ بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾ أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق ﴿فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد ﴿قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا ﴿رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين﴾ هذا جواب الشرط ﴿إِمَّا﴾ وكرَّر قوله ﴿رَّبِّ﴾ مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمة ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلأى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه ﴿وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين﴾ أي أعتصم بك من نزغات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾ أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة ﴿حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت﴾ عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده ﴿قَالَ رَبِّ ارجعون﴾ أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة

صفحة رقم 292

الجمع للتعظيم ﴿لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري ﴿كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾ ﴿كَلاَّ﴾ كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيافليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح ﴿وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور﴾ أي فإِذا نفخ في الصور النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه ﴿وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله
﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الطور: ٢٥] لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ أي زادت سيئاته على حسناته ﴿فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ﴾ أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار﴾ أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء ﴿وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث «تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته» ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن آيات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ ﴿فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها ﴿قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ أي غلبت علينا شقاوتنا ﴿وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ﴾ أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب ابتاعنا للملذّات والأهواء ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا﴾ أي أخرجنا من النار وردُنَّا إلى الدنيا ﴿فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم العدوان.
أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر ﴿قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال في التسهيل: اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين﴾ قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزءون بهم ﴿فاتخذتموهم سِخْرِيّاً﴾ أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم ﴿حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي﴾ أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ

صفحة رقم 293

تَضْحَكُونَ} أي وكنتم تتضحكون عليهم في الدنيا ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا﴾ أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾ أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ﴾ أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا وعمَّرتم فيها من السنين؟ ﴿قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم ﴿فَسْئَلِ العآدين﴾ أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها ﴿قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي: كأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة ﴿لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾ أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء ﴿فَتَعَالَى الله﴾ أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل ﴿الملك الحق﴾ أي صاحب السلطان، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإِعدام، والإِحياء والإِفناء، تنزَّه عن العبث والنقائض وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره ﴿رَبُّ العرش الكريم﴾ أي خالق العرش العظيم وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ﴾ أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه ﴿لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ﴾ أي لا حجة له به ولا دليل ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ أي جزاؤه وعقابه عند الله ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله، افتتح السورة بقوله ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ وختمها بقوله ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون﴾ ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام.
﴿وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين﴾ أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
البّلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الامتنان ﴿وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة﴾.
٢ - التفنن ﴿السمع والأبصار﴾ أفرد السمع وجمع الأبصار تفنناً.
٣ - التنكير للتقليل ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ و ﴿مَّا﴾ تأكيد للقلة المستفادة من التنكير والمعنى شكراً قليلاً وهو كناية عن عدم الشكر.
٤ - الاستفهام الذي غرضه الإِنكار والتوبيخ ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ ؟
٥ - الطباق بين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾.
٦ -

صفحة رقم 294

حذف جواب الشرط ثقةً بدلالة اللفظ عليه ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي إِن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني عنه.
٧ - طباق السلب ﴿وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ﴾.
٨ - تأكيد الكلام بذكر حرف الجر الزائد ﴿مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ﴾ أي ما اتخذ ولداً وكذلك ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾ ذكر ﴿مِنْ﴾ في الجملتين تأكيداً تثبيتاً للنفي.
٩ - الطباق في ﴿عَالِمِ الغيب والشهادة﴾.
١٠ - التأكيد بإِنَّ واللام ﴿وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ لإِنكار المخاطبين لذلك.
١١ - الطباق المعنوي ﴿ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة﴾ لأنه المعنى ادفع بالحسنة السيئة فهو طباق بالمعنى لا بالفظ.
١٢ - واو الجمع للتعظيم ﴿رَبِّ ارجعون﴾ ولم يقل ارجعني تعظيماً لله جل وعلا.
١٣ - المجاز المرسل ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا﴾ أطلق الكلمة على الجملة وهو من إِطلاق الجزء وإرادة الكل.
١٤ - المقابلة اللطيفة بين ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ وبين ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ..﴾ الآيتان.
١٥ - القصر ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون﴾.
١٦ - جناس الاشتقاق ﴿وَأنتَ خَيْرُ الراحمين﴾.
١٧ - السجع الموزون الخالي من التكلف وهو كثير مشهور.

صفحة رقم 295
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية