
الضمير في قوله: (أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ) يعود إلى مشركي مكة الذين كانوا يعاندون النبي - ﷺ -، أو يعود إلى الكفار عامة من حيث إنه بيان لحال الكفار، في أنهم إذا نزلت بهم جائحة أو شديدة خنعوا في وقت نزولها، وما استكانوا لها وما تضرعوا لها وما تضرعوا بعدها وآمنوا. كان تفسير الزمخشري على أن موضوع القول، هم كفار مكة نزلت بهم مجاعة، كما جعل موضوع الآية السابقة والآية التالية أهل مكة، وذكر أن ثمامة بن أثال الحنفي منع الميرة عن أهل مكة، وقال: لا أعطيكم حبة حنطة إلا أن يأذن رسول اللَّه، فأخذهم الله تعالى بالسنين فجاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة، وقال له: أنشدك اللَّه والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين. فقال محمد - ﷺ - بلى، فقال: قتلت الآباء، وجوعت الأبناء فنزلت هذه الآيات الثلاث (١).
وربما يكون هذا الكلام مستقيما لو كانت الآيات بعد غزوة بدر، وبعد الغزوات كلها إلى الحديبية، ولكن السورة كلها مكية ونسقها مكي، فكيف تجيء آية بمعان مدنية لم تتحقق إلا في المدينة، ولم يثبت أن هذه الآيات نزلت بالمدينة استثناء من السورة.
ولذا نقول: إن الآيات الثلاث عامة في وصف غير الكفار في كفرهم من أنهم يخنعون عند الشدائد، ويعودون إلى الاستكبار، فيخنعون، ثم يتمردون، اقرأ قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥).
فاللَّه جل علاه كان ينزل الشدائد على الكافرين، فيذلون عند نزولها، ولكن إذا انكشفت الغمة عادوا إلى كفرهم وطغيانهم، كما رأينا في فرعون وملئه، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن ذلك شأن كل الكافرين يكشف اللَّه تعالى عنهم الضر إذا أصيبوا به، فيخنعون في وقته، ثم يعودون إلى كفرهم بعد كشفه.
________
(١) ذكره بنحو من ذلك: الطبري في جامع البيان: ١٨/ ٣٤، من رواية ابن حميد عن ابن عباس، وراجع سيرة ابن هشام: أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه.

وقوله تعالى: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) " الفاء، للإفصاح، والاستكانة معناها كما أشار الراغب، وبين الزمخشري: الانتقال من كون إلى كون، وحال إلى حال، فهي افتعل من كان، أي فيما انتقلوا من الكَوْن الذي هم فيه وهو الكفر إلى الكون الذي يدعوهم رسولهم إليه، وهو الإيمان باللَّه ورسوله (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي لم ينتقلوا إلى كَوْن الإيمان، وما اتجهوا بالضراعة الدائمة المتجددة للَّه تعالى المستمرة شأن المؤمنين الضارعين لربهم، وكان نفي المضارع لنفي تجدد الضراعة ودوامها في كل أحوال الشخص، لَا في وقت الشدة فقط.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ)، معناها أخذناهم متلبسين بالعذاب، أي أنه سبحانه أخذهم، وهم في حال العذاب وأنقذهم، ومع ذلك استمروا على كفرهم، وأنهم يستمرون في غيهم حتى يجيئهم العذاب الذي لَا يزول؛ ولذا قال تعالى: