
بعض أعمال الكفار
لم تكن أعمال الكفار قبل مجيء الأنبياء ولا بعد مجيئهم، على نحو مرض، ولا على أساس سليم من الاعتقاد، وإنما هم كسابق عهدهم في ضلال وجهالة وحيرة، وانحراف عن جادة الاستقامة. وربما كانت أحوالهم بعد بعثة نبي لهم أسوأ مما كانوا عليه، بسبب مقاومتهم رسالة الحق والتوحيد والخير، وتحديهم الرسل، وإصرارهم على الباطل، وعنادهم وتصلبهم في تغيير المواقف. وهذا حال كفار قريش الذين ماتوا على الكفر والضلال، وضموا سوءا إلى كفرهم، كالشرك والطعن بالقرآن، والسخرية من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيذاء أهل الإيمان. قال الله تعالى واصفا أعمالهم:
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٣ الى ٧٠]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [المؤمنون: ٢٣/ ٦٣- ٧٠].
هذه نماذج من أعمال الكفار والمشركين في مكة بعد البعثة النبوية، فهم في غمرة، أي حيرة وضلال من بيان القرآن، ومن الأعمال الصالحة التي يعمل بها المؤمنون.
ولهم أعمال سيئة غير الكفر والجهل، عاملون لها قطعا في المستقبل القريب: وهي الطعن في القرآن، وإيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. وهذا من دائرة علم الله تعالى المدون في اللوح المحفوظ، وعلم الله لا يتغير. وحتى: حرف ابتداء، فإن الله تعالى إذا أوقع
(٢) منعّميهم البطرين.
(٣) أي يضجون ويستغيثون.
(٤) أي ترجعون وراءكم.
(٥) أي تتكلمون جماعة سمارا بالليل بالهوس وسوء الكلام في القرآن والنبي.
(٦) أي جنون.

مترفيهم وهم أهل النعمة والبطر في العذاب الشديد والبأس والنقمة، صرخوا وضجوا واستغاثوا صائحين، مما يدل على ضعفهم. ويقال لهم يوم حلول العذاب بهم: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي تقول لهم الملائكة: لا فائدة ولا جدوى من هذا الصراخ والعويل اليوم، فلا يدفع عنكم العذاب الذي وجب عليكم، ولن تجدوا ناصرا ينصركم، ويحول بينكم وبين العقاب الأليم.
وأسباب حجب النصر عنهم ثلاثة وهي:
١- أنهم كانوا إذا تليت عليهم آيات القرآن نفروا منها، وأعرضوا عن سماعها وعن تاليها، أي إنهم يعرضون عن الحق، وإذا دعوا إليه أبوا.
٢- وهم في حال نكوصهم أو إعراضهم عن الحق، تراهم مستكبرين متعالين على الحق، ممتهنين الحق وأهله. وقوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضمير يعود على البيت الحرام، أي الحرم والمسجد، فهم يعتقدون أن لهم بالمسجد والحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله، فهم مستكبرون لذلك. وليس الاستكبار من الحق، كما أن سماع الآيات يحدث لهم كفرا وطغيانا.
٣- وهم سمّار في الليل أو النهار حول البيت الحرام، يتكلمون بسوء القول، ويطعنون بالقرآن والنبي. قال سعيد بن جبير فيما يرويه ابن أبي حاتم: كانت قريش تسمر حول البيت، ولا تطوف به، ويفتخرون به، فأنزل الله: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) والهجر: الهذيان والفحش.
وبواعث هذه الأحوال المرضيّة السيئة لكفار قريش أربعة:
١- أنهم لا يتدبرون القرآن، أي لا يفهمون المراد منه، ولا يدركون غاياته وأهدافه السامية، مع أنهم لمسوا عظمة بيانه، وفصاحة تعبيره، وقوة مضمونه.

٢- وأنهم عرفوا أن الرسل الذين تتابعوا في الأمم كانوا مؤيدين بالمعجزات، ومع ذلك لا يدعوهم هذا إلى تصديق رسولهم النبي العربي الهاشمي.
٣- وهم عرفوا من سيرة هذا النبي قبل البعثة أنه الصادق الأمين، ومع كل هذا كذّبوه وآذوه، وعادوه عداء شديدا. وقوله تعالى: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ توبيخ، والمعنى: ألم يعرفوه صادقا مدة عمره، ولم ينكروا قط وجه هذه المعرفة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
٤- وأكثر من هذا وصفوا هذا الرسول بالجنون، مع أنه أرجح الناس عقلا، وأصوبهم رأيا. ويتلخص سبب رفضهم الإيمان ببعثة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: بأنه على الرغم مما جاءهم من الحق الثابت الأبلج: وهو توحيد الله، والتشريع الأفضل المحقق للسعادة، فإن أكثرهم كارهون لهذا الحق. وإنما قال: أَكْثَرُهُمْ لأن بعضا منهم تركوا الإيمان أنفة واستعلاء، وتخوفا من توبيخ القوم وتعييرهم، لا كراهة للحق ذاته.
الحق واحد لا يتعدد بحسب الأهواء
لقد قامت السماوات والأرض بالحق والعدل، لضمان البقاء واستمرار النظام، وتحقيق حياة الاستقرار للبشرية جمعاء وطبيعة الحق الثابت أنه جوهر واحد، لا يتعدد بحسب الأهواء والنزوات، حتى يظل له هيبته وقدسيته، وحتى لا يفسد نظام الكون في السماء والأرض، ومن أصالة الحق: أن دعوة الأنبياء إلى الله وعبادته دعوة خالصة محضة، لا جزاء عليها من أحد، فلا نظير ولا عوض أو مقابل للدعوة المخلصة، ودعوة رسولنا صلّى الله عليه وسلّم كغيره من دعوات الأنبياء إلى الحق الثابت والطريق القويم، وذلك بخلاف مناهج غير المؤمنين، فإنهم يجافون الحق والحقيقة، ويتنكرون للصراط المستقيم، قال الله تعالى مبينا منهج القرآن ومناهج غير المؤمنين: