
وقال كَعْبُ الأَحْبَارِ «١» : الربوة بيت المَقْدِسِ، وزعم أَنَّ في التوراة أَنَّ بيتَ المقدس أَقْرَبُ الأرض إلى السماء وأَنَّهُ يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلاً.
قال ع «٢» : ويترجَّحُ: أَنَّ الربوة في بَيْتِ لَحْمٍ من بيت المقدس لأَنَّ ولادة عيسى هنالك كانت، وحينئذٍ كان الإيواءُ، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : اختلف الناس في تعيين هذه الربوة على أقوال منها: ما تُفسِّرُ لغةً ومنها: ما تُفَسَّرُ نقلاً، فيفتقر إلى صحة سندهِ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، إلّا أنّ هاهنا نُكْتَةً، وذلك أَنَّه إذا نُقِلَ لِلنَّاسِ نَقْلَ تواتر أَنَّ هذا موضِعُ كذا، وأَنَّ هذا الأَمرَ جرى كذا- وقع العلم به، ولَزِمَ قبولهُ، لأَنَّ الخبر المتواتر ليس من شرطه الإِيمانُ، وخبرَ الآحاد لا بدَّ من كون المُخْبِرِ به بصفة الإيمان لأَنَّهُ بمنزلة الشاهد، والخَبَرَ المتواتر بمنزلة العيانِ، وقد بَيَّنَا ذلك في «أصول الفقه «٣» »، والذي شاهدتُ عليه الناسَ ورأيتهم يعينونه تعيينَ تواترٍ- مَوْضِعٌ في سفح الجبل في غربيِّ دمشق، انتهى، وما ذكره:
من أَنَّ التواتُرَ ليس من شرطه الإيمانُ هذا هو الصحيح، وفيه خلاف إلاَّ أَنَّا لا نُسَلِّم أَنَّ هذا متواتر لاختلال شرطه، انظر «المنتهى» لابن الحاجب.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤٥).
(٣) ينظر: الكلام عن المتواتر في «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٢٣١)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٥٦٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٢/ ١٤)، «نهاية السول» للإسنوي (٣/ ٥٤)، «منهاج العقول» للبدخشي (٢/ ٢٩٦)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٩٥)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢/ ٩٥)، «المنخول» للغزالي (٢٣١)، «المستصفى» له (١/ ١٣٢)، «حاشية البناني» (٢/ ١١٩)، «الإبهاج» لابن السبكي (٢/ ٢٦٣)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ٢٠٦)، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (٢/ ١٤٧)، «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٨٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (١/ ١٠١)، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (٣/ ٢٣٢)، «كشف الأسرار» للنسفي (٢/ ٤)، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (٢/ ٣)، «شرح المنار» لابن ملك (٧٨)، «ميزان الأصول» للسمرقندي (٢/ ٦٢٧)، «تقريب الوصول» لابن جزي (١١٩)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (٤٦).

وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ يحتمل أنْ يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسلُ، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ للنّبي صلى الله عليه وسلّم.
قال ع «١» : والوجه في هذا أَنْ يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، وخرج بهذه الصيغة، لِيُفْهَمَ وجيزاً أَنَّ المقالة قد خُوطِبَ بها كُلُّ نبيٍّ، أو هي طريقتُهم التي ينبغي لهم الكونُ عليها كما تقول لعالم: يا علماءٌ إنَّكُم أَئمَّةٌ يُقْتَدَى بكم فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبريُّ «٢» : الخطاب لعيسَى- عليه السلام-.
قلت: والصحيح في تأويل الآية: أَنَّه أمر للمُرْسَلِينَ كما هو نَصٌّ صريح في الحديث الصحيح فلا معنى للتردد في ذلك، وقد روى مسلم والترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ طَيِّب وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ ٣١ ب عَلِيمٌ/ [المؤمنون: الآية ٥١]. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ [البقرة: ١٧٢]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ [حرامٌ] «٣» وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» «٤» اهـ.
وقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ، وهذه الآية تُقَوَّى أَنَّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إنَّما هو مخاطبة لجميعهم، وأَنَّه بتقدير حضورهم، وإذا قدّرت: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلّم- قلق اتصال هذه واتصال قوله: فَتَقَطَّعُوا، ومعنى الأُمَّةِ هنا: المِلّةُ والشريعة، والإِشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة مِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإسلام.
(٢) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٢٠).
(٣) سقط في ج.
(٤) أخرجه مسلم (٢/ ٧٠٣) كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، حديث (٦٥/ ١٠١٥)، والترمذي (٥/ ٢٢٠) كتاب التفسير: باب ومن سورة البقرة، حديث (٢٩٨٩)، والدارمي (٢/ ٣٠٠)، وأحمد (٢/ ٣٢٨) كلهم من طريق الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وإنما نعرفه من حديث فضيل بن مرزوق.

وقوله سبحانه: فَتَقَطَّعُوا يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مُطَاوِعٍ كما تقول: تقطع الثوبُ بل هو فعل مُتَعَدٍّ بمعنى قطعوا، وقرأ نافع «١» :«زُبُراً» جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين:
أحدهما: أَنَّ الأممَ تنازعت كتباً مُنَزَّلَةً فَاتَّبَعَتْ فرقة الصُّحُفَ، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجِيلَ، ثم حَرَّفَ الكُلُّ وَبَدَّلَ، وهذا قول قتادة «٢» - والثاني: أنَّهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالةً ألَّفُوها قاله ابن زيد «٣»، وقرأ أبو عمرو «٤» بخلاف: «زُبَراً» بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها: فرقاً كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكرُ الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش- خاطب الله سبحانه نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلّم في شأنهم مُتَّصلاً بقوله: فَذَرْهُمْ أي: فذِرْ هؤلاء الذين هم بمنزلة مَنْ تقدم، والغمرة: ما عَمَّهُمْ من ضلالهم وفُعِلَ بهم فعلَ الماء الغمر بما حصل فيه، والخيراتُ هنا نَعِمُ الدنيا.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ... الآية: أسند الطبريُّ «٥» عن عائشة أنها قالت: قلتُ: يا رسولَ الله، قوله تعالى: يُؤْتُونَ مَا آتَوْا أَهي في الذي يَزْنِي وَيَسْرِقُ؟ قال: «لا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هِيَ في الرَّجُلِ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وقلبه وجل، يخاف ألّا يتقبّل منه» «٦».
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢١) برقم (٢٥٥٣٣) وذكره الغوي (٣/ ٣١١)، وابن عطية (٤/ ١٤٧)، والسيوطي (٥/ ٢٠)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٢٢) برقم (٢٥٥٣٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٤٧)، والسيوطي (٥/ ٢٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه.
(٤) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(٥) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٢٥) رقم (٢٥٥٦٢).
(٦) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٢٧- ٣٢٨) كتاب التفسير: باب ومن سورة المؤمنين، حديث (٣١٧٥)، وابن ماجه (٢/ ١٤٠٤) كتاب الزهد: باب التوقي على العمل، حديث (٤١٩٨)، وأحمد (٦/ ١٥٩، ٢٠٥)، والطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٢٢٥) رقم (٢٥٥٦٠)، والحاكم (٢/ ٣٩٣- ٣٩٤) كلهم من طريق مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني عن عائشة به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢١)، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «نعت الخائفين»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان». [.....]