إِهْلَاكِهِمْ وَالنَّجَاةِ مِنْهُمْ كَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَامِ: ٤٥] وَإِنَّمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ اسْتِوَاءَهُمْ عَلَى السَّفِينَةِ نَجَاةً مِنَ الْغَرَقِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ كَانَ عَرَّفَهُ أَنَّهُ بِذَلِكَ يُنْجِيهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، فَيَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: نَجَّانا مِنْ حَيْثُ جَعَلَهُ آمِنًا بِهَذَا الْفِعْلِ وَوَصَفَ قَوْمَهَ بِأَنَّهُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْهُمْ ظُلْمٌ لِأَنْفُسِهِمْ لِقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَانَ: ١٣] ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِالْحَمْدِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَقُرِئَ مُنْزَلًا بِمَعْنَى إِنْزَالًا أَوْ مَوْضِعَ إِنْزَالٍ كَقَوْلِهِ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مَدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُنْزَلِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ نَفْسُ السَّفِينَةِ فَمَنْ رَكِبَهَا خَلَّصَتْهُ مِمَّا جَرَى عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُنْزِلَهُ اللَّه بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ مِنَ الْأَرْضِ مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِي حَالِ اسْتِقْرَارِهِ فِي السَّفِينَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْزَلُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي الْأَمْكِنَةِ قَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اللَّه كَمَا يَقَعُ مِنَ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ كَانَ هُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرَ مَنْ أَنْزَلَ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَنْ أَنْزَلَهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْمَكَارِهَ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ وَالْحِكْمَةُ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ وَقَوْمِهِ لَآيَاتٍ وَدَلَالَاتٍ وَعِبَرًا فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ فَإِنَّ إِظْهَارَ تِلْكَ الْمِيَاهِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ الْإِذْهَابَ بِهَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَظُهُورُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ الْعَظِيمِ وَإِفْنَاءُ الْكُفَّارِ وَبَقَاءُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْعِبَرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فِيمَا قَبْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ/ يَكُونَ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ كَالْحَقِيقَةِ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ احْتَمَلَ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْ فَيَجِبُ فِيمَنْ كَلَّفْنَاهُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَمُعَاقِبِينَ لِمَنْ سَلَكَ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ طَرِيقَةِ قَوْمِ نُوحٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَمَا نُعَاقِبُ مَنْ كَذَّبَ بِالْغَرَقِ وَغَيْرِهِ فَقَدْ نَمْتَحِنُ بِالْغَرَقِ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْذِيبِ، لِكَيْ لَا يُقَدَّرَ أَنَّ كُلَّ الغرق يجري على وجه واحد.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٣١ الى ٤١]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ- قِصَّةُ هُودٍ أَوْ صَالِحٍ عَلَيْهِمَا السلام
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ هِيَ قِصَّةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِحِكَايَةِ اللَّه تَعَالَى قَوْلَ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَافِ: ٦٩] وَمَجِيءُ قِصَّةِ هُودٍ عَقِيبَ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِهِمْ صَالِحٌ وَثَمُودُ، لِأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ هُمُ الَّذِينَ هَلَكُوا بِالصَّيْحَةِ، أَمَّا كَيْفِيَّةُ الدَّعْوَى فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: حَقُّ (أرسل) أن يتعدى بإلى كَأَخَوَاتِهِ الَّتِي هِيَ وَجَّهَ وَأَنْفَذَ وَبَعَثَ فَلِمَ عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ [الْأَعْرَافِ: ٩٤] فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٢] أَيْ فِي عَادٍ، وَفِي مَوْضِعٍ آخر وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: ٥٠] ؟ الجواب:
لم يعد بفي كما عدى بإلى وَلَكِنَّ الْأُمَّةَ أَوِ الْقَرْيَةَ جُعِلَتْ مَوْضِعًا لِلْإِرْسَالِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ بَعَثَ فِي قَوْلِهِ:
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً [الْفُرْقَانِ: ٥١].
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أَفَلا تَتَّقُونَ غَيْرُ مَوْصُولٍ بِالْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَذَّبُوهُ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ بَعْدَ إِقَامَةِ الحجة عَلَيْهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ مُخَوِّفًا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ أَفَلا تَتَّقُونَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مَخَافَةَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ؟ الْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنْ رَآهُمْ مُعْرِضِينَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه مُشْتَغِلِينَ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّه وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ إِقْبَالِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى صِفَاتِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ وَحَكَى كَلَامَهُمْ، أَمَّا الصِّفَاتُ فَثَلَاثٌ هِيَ شَرُّ الصِّفَاتِ: أَوَّلُهَا: الْكُفْرُ بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كَفَرُوا وَثَانِيهَا: الْكُفْرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَثَالِثُهَا: الِانْغِمَاسُ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أَيْ نَعَّمْنَاهُمْ فَإِنْ قِيلَ ذَكَرَ اللَّه مَقَالَةَ قَوْمِ هُودٍ فِي جَوَابِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَسُورَةِ هُودٍ بِغَيْرِ وَاوٍ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الْأَعْرَافِ: ٦٦]، قَالُوا مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا [هُودٍ: ٢٧] وَهَاهُنَا مَعَ الْوَاوِ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا الَّذِي بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى تَقْدِيرِ سُؤَالِ سَائِلٍ قَالَ فَمَا قَالَ قَوْمُهُ؟ فَقِيلَ لَهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَأَمَّا الَّذِي مَعَ الْوَاوِ فَعَطْفٌ لِمَا قَالُوهُ عَلَى مَا قَالَهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ هَذَا الْكَلَامُ الْحَقُّ وَهَذَا الْكَلَامُ الْبَاطِلُ. وَأَمَّا شُبُهَاتُ الْقَوْمِ فَشَيْئَانِ: أَوَّلُهُمَا: قَوْلُهُمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ/ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَقَدْ مَرَّ شَرْحُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى وَقَوْلُهُ: مِمَّا تَشْرَبُونَ أَيْ مِنْ مَشْرُوبِكُمْ أَوْ حُذِفَ مِنْهُ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فَجَعَلُوا اتِّبَاعَ الرَّسُولِ خُسْرَانًا، وَلَمْ يَجْعَلُوا عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ خُسْرَانًا، أَيْ لَئِنْ كُنْتُمْ أَعْطَيْتُمُوهُ الطَّاعَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ بِإِزَائِهَا مَنْفَعَةٌ فَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي صِحَّةِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِسَبَبِ إِتْيَانِهِ بِذَلِكَ. أَمَّا الطَّعْنُ فِي
صِحَّةِ الْحَشْرِ فَهُوَ قَوْلُهُمْ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مُعَادُونَ أَحْيَاءً لِلْمُجَازَاةِ، ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ حَتَّى قَرَنُوا بِهِ الِاسْتِبْعَادَ الْعَظِيمَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ ثُمَّ أَكَّدُوا الشُّبْهَةَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَلَمْ يُرِيدُوا بِقَوْلِهِمْ نَمُوتُ وَنَحْيَا الشَّخْصَ الْوَاحِدَ، بَلْ أَرَادُوا أَنَّ الْبَعْضَ يَمُوتُ وَالْبَعْضَ يَحْيَا، وَأَنَّهُ لَا إِعَادَةَ وَلَا حَشْرَ. فَلِذَلِكَ قَالُوا: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعْنِ فِي صِحَّةِ الْحَشْرِ بَنَوْا عَلَيْهِ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّتِهِ، فَقَالُوا لَمَّا أَتَى بِهَذَا الْبَاطِلِ فَقَدَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ثُمَّ لَمَّا قَرَّرُوا الشُّبْهَةَ الطَّاعِنَةَ فِي نُبُوَّتِهِ قَالُوا: وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَالتَّبَعِ لَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَا أَجَابَ عَنْ هَاتَيْنِ الشُّبْهَتَيْنِ لِظُهُورِ فَسَادِهِمَا أَمَّا الشُّبْهَةُ الْأُولَى: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضَعْفِهَا وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا الْحَشْرَ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ الْحَشْرُ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الْإِعَادَةُ لَكَانَ تَسْلِيطُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ فِي الدُّنْيَا ظُلْمًا. وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَكِيمِ عَلَى مَا قَرَّرَهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: ثَنَّى «١» إِنَّكُمْ لِلتَّوْكِيدِ وَحَسُنَ ذَلِكَ الْفَصْلُ ما بين الأول والثاني بالظرف، ومخرجون خَبَرٌ عَنِ الْأَوَّلِ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون: ٣٥].
المسألة الثَّانِيَةُ: قُرِئَ هَيْهاتَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، كُلُّهَا بِتَنْوِينٍ وَبِلَا تَنْوِينٍ، وَبِالسُّكُونِ عَلَى لَفْظِ الْوَقْفِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: هِيَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ضَمِيرٌ لَا يُعْلَمُ مَا يُعْنَى بِهِ إِلَّا بِمَا يَتْلُوهُ مِنْ بَيَانِهِ وَأَصْلُهُ: إِنِ الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ وَضَعَ هِيَ مَوْضِعَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَمِنْهُ [قُوْلُ الشَّاعِرِ] :
هِيَ النَّفْسُ مَا حَمَّلْتَهَا تَتَحَمَّلُ
وَالْمَعْنَى لَا حَيَاةَ إِلَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ، وَلِأَنَّ إِنْ النَّافِيَةَ دَخَلَتْ عَلَى هِيَ الَّتِي فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْجِنْسِ فَنَفَتْهَا، فَوَازَنَتْ لَا الَّتِي نَفَتْ مَا بَعْدَهَا نَفْيَ الْجِنْسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ لَمَّا يَئِسَ مِنْ قَبُولِ الْأَكَابِرِ وَالْأَصَاغِرِ فَزِعَ إِلَى رَبِّهِ وَقَالَ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فَأَجَابَهُ اللَّه تَعَالَى فِيمَا سَأَلَ وقال: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [المؤمنون: ٤٠] / وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ عَلَامَاتُ الْهَلَاكِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْهُمُ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَامَةُ عَلَى تَرْكِ الْقَبُولِ، وَيَكُونُ الْوَقْتُ وَقْتَ إِيمَانِ الْيَأْسِ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِالنَّدَامَةِ، وَبَيَّنَ تَعَالَى الْهَلَاكَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ وَذَكَرُوا فِي الصَّيْحَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحَ بِهِمْ، وَكَانَتِ الصَّيْحَةُ عَظِيمَةً فَمَاتُوا عِنْدَهَا وَثَانِيهَا: الصَّيْحَةُ هِيَ الرَّجْفَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَثَالِثُهَا: الصَّيْحَةُ هِيَ نَفْسُ الْعَذَابِ وَالْمَوْتِ كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ يَمُوتُ: دُعِيَ فَأَجَابَ عَنِ الْحَسَنِ وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ الْعَذَابُ الْمُصْطَلِمُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكٍ صَيْحَةً | خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ |