
بين فرث ودم فغذاء الحيوان يتحول إلى دم ولبن وفرث، كل ذلك بواسطة شعيرات دقيقة منتشرة في الجسم ومتجاورة، ومع هذا يخرج اللبن صافيا لا كدرة فيه، فسبحان من خلق هذا!! ولكم فيها منافع كثيرة، تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وتحرث الأرض وتأخذون أصوافها وأوبارها فتجعلونه لباسا وأساسا، ومتاعا ومن أولادها ولحومها نتغذى ونأكل، وعليها وعلى السفن التي تسير في البحر نركب وننتقل حسبما نشاء أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس الآيات ٧١- ٧٣].
أفلا يدل هذا على وجود الصانع المختار، الحكيم القادر؟ جل شأنه، وأنه قادر على إعادة الحياة بعد فنائها ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
أليس من الفلاح والسعادة للبشر أن يؤمنوا بهذا الإله الذي خلق فسوى وأنعم وتفضل؟!
العبرة من قصة نوح- عليه السلام-[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)

المفردات:
الْمَلَأُ هم أشراف القوم الذين يملؤون العيون بهجة يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يسودكم ويشرف ويتعاظم عليكم جِنَّةٌ جنون وضعف في العقل فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ فانتظروا به ريب المنون بِأَعْيُنِنا برعايتنا التَّنُّورُ مكان يصنع على هيئة خاصة توقد فيه النار لطهى الخبز، وهو معروف فَاسْلُكْ أدخل فيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى من كل حيوان موجود وقتئذ مُنْزَلًا إنزالا مباركا أى فيه الخير والبركة.
اعلم أن الله- سبحانه وتعالى- لما بين دلائل التوحيد، ووصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم التام بما ذكر من خلق الأشياء السابقة وأطوارها ليدعم مبدأ الإيمان بالله، أردف ذلك بذكر بعض القصص للأنبياء، وفيها آية كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه ومن آمن معهم، ويهلك أعداءهم، وبدأ بقصة نوح الأب الثاني للبشر وهو من أولى العزم.
ومن هنا تدرك السر في سياق القصة هنا، وبهذا الشكل لأنها سيقت لغرض خاص ولون معين، وقد تقدمت في سورة هود مطولة.

المعنى:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده فهو صاحب الفضل عليكم، ولا يستحق العبادة غيره، لأن غيره لم ينفع أحدا بل قد يضره. وعلى هذا فليس لكم إله غير الله يستحق العبادة، أفلا تتقون؟!! هكذا دعاهم نوح إلى عبادة الله، ولكن أشراف قومه يكرهون ذلك: لخوفهم من الدين الجديد الذي يزيل الفوارق، ويعامل الناس على السواء، كرهوا من نوح أن يدعو إلى عبادة الله، إذ هو سيكون متبوعا، وهم تابعون، وهذا شيء يؤلمهم. فدفعهم الكبر والغرور، والحسد والحقد، إلى أن يتزعموا الخارجين على الدعوة المناوئين لنوح- عليه السلام- ويقولون: ما هذا- أى نوح- إلا بشر مثلكم من عامة الناس يريد أن يتفضل عليكم، ويستأثر بالتعاظم وحده عليكم حيث يدعى أنه رسول الله إليكم، وهو بشر مثلكم لم يزد عنكم في شيء فكيف تسلمون له بالزعامة والقيادة؟
ولو شاء الله حقيقة- كما يدعى نوح- أن يرسل رسولا لأنزل ملائكة من السماء رسلا عنه فإن هذا أدعى للإيمان، وأدل على الصدق، فهم لقصر عقولهم وسوء تفكيرهم يعتقدون أنه لا يمكن أن تكون الرسالة مع البشر، على أنا ما سمعنا بهذا الذي يدعيه نوح في آبائنا الأولين، فما الذي جرى حتى يأتى نوح ويدعى الرسالة؟! وما نوح إلا رجل مجنون حيث يدعى ذلك فتربصوا به ريب المنون، وانتظروا موته، وهو آت بلا شك وستستريحون منه.
وهكذا كانت شبههم، وهي أوهى من بيت العنكبوت، ولذا لم يعن القرآن بالرد عليها، لأن بطلانها ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
فلما ضاق صدر نوح منهم ومن أعمالهم دعا ربه أنى مغلوب فانتصر، وقال: رب انصرني وأهلكهم بسبب تكذيبهم لي، فأوحينا إليه أن اصنع السفينة بأعيننا وتحت رعايتنا وكلاءتنا، وهذا وحينا جبريل يهديك ويعلمك كيف تصنع السفينة؟
فإذا جاء أمرنا، وشأننا العظيم، وقد فار التنور، وزاد الماء، وبلغ الربى فأدخل في السفينة من كل حيوان زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى التناسل في الدنيا، واحمل فيها أهلك الذين آمنوا فقط لكن من سبق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون فلا تحملهم