
وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: يصير لهم همهمة كنباح الكلاب (١).
وقال القرظي: إذا (٢) قيل لهم: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ انقطع عند ذلك رجاؤهم ودعاؤهم، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض، وأطبقت عليهم (٣).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي﴾ الآية. يعني المؤمنين.
وقال ابن عباس: يريد المهاجرين (٤).
١١٠ - ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ وقرئ بكسر السين هاهنا وفي سورة "ص". وأجمعوا على الضم في سورة الزخرف (٥).
قال الليث: السُّخْرِيّ والسُّخْرِيَّة مصدران. يقال: سخر منه وبه سُخْرِيَّة وسُخْرِيّا (٦). وزاد أبو زيد: سَخرَا (٧). ومنه قوله:
(٢)) إذا): ساقطة من (أ).
(٣) رواه الطبري ١٨/ ٥٧ - ٥٨.
(٤) ذكره عنه ابن الجوزي ٥/ ٤٩٢.
(٥) قرأ نافع، وحمزة، والكسائي: "سُخريا" بضمّ السين هنا، وفي قوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ﴾ [ص: ٦٣].
وقرأ الباقون: "سخريا" بكسر السين في السورتين.
وأجمعوا على الضم في قوله: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: ٣٢].
"السبعة" ص ٤٤٨، "التبصرة" ص ٢٧١، "التيسير" ص ١٦٠.
(٦) "تهذيب اللغة" للأزهري ٧/ ١٦٧ "سخر". وهو في "العين" ٤/ ١٩٦ "سخر" بنحوه.
(٧) انظر: "الحجة" ٥/ ٣٠٣، و"النوادر" ص ٢٨٨.

لا عجيب منها ولا سَخَر (١)
قال: ويكون نعتًا كقولك: هم لك سخري وسخرية (٢).
قال القراءة الضم أجود (٣).
وقال الزجاج: كلاهما جيد (٤).
وحكى الكسائي اللغتين جميعًا، قال: وسمعت العرب تقول: بَحْرٌ لُجّي ولجي، ودري ودري، وكرسي وكرسي (٥).
وذهب قوم إلى الفرق (٦) بينهما. قال يونس (٧): سُخريا من السُّخْرة مضموم، ومن الهُزء سُخري (٨).
إني أتاني شيء لا أسربه | من علُ لا عجيب فيه ولا سخرُ |
قال البغدادي في "الخزانة" ١/ ١٩١ - ١٩٢: وقوله "لا عجب" أي لا أعجب منها وإن كانت مصيبة عظيمة، لأن مصائب الدنيا كثيرة، "ولا سخر" بالموت، وقيل لا أقول ذلك سخرية، وهو بفتخين وضمتين.
(٢) انظر: "الحجة" ٥/ ٣٠٣، و"النوادر" ص ٢٨٨.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٤٣.
(٤) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٢٤.
(٥) ذكره عن الكسائي: الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٢٤٣، والنحاس في "إعراب القرآن" ٣/ ١٢٤، وذكره عنه أيضًا الأزهري في "علل القراءات" ٢/ ٤٤٢.
(٦) في (أ): (إلى أن الفرق).
(٧) هو يونس بن حبيب.
(٨) قول يونس في "الحجة" للفارسي ٥/ ٣٠٣، وهو أيضًا في "تهذيب اللغة" للأزهري ٧/ ١٦٨.

وقال أبو عبيدة: سِخريًّا يسخرون منهم، وسُخريًّا يسخرونهم (١).
وهذا قول الحسن وقتادة، قالا: ما كان من العُبُودة (٢) فهو بالضم، وما كان من الهزء فهو بالكسر (٣).
وذكر الزجاج أن الضم والكسر واحد في معنى الهزء (٤). وقال -من عند نفسه-: الكسر أحسن لاتباع الكسر (٥).
قال أبو علي: القراءة بكسر السين أرجح من قراءة من ضَمّ؛ لأنه من الهزء، والأكثر في الهُزء كسر السين فيما حكوه. ونرى (٦) أنَّه إنّما كان أكثر لأنَّ السَّخّر مصدر سَخِرْتُ. حكاه أبو زيد (٧).
وفَعَلٌ وفعلٌ يكونان بمعنى، نحو: المثل والمثل والشَّبَه والشَّبْه، فكذلك السَّخَر والسّخْر إلا أنَّ المكسورة أُلزمت ياء النسب دون المفتوحة كما اتفقوا في القسم على الفتح في: لعمر (٨) الله، ولم يخرج مع إلحاق ياء
(٢) في (أ): (المعبودة)، وهو خطأ. وفي الحجة: العبودية. قال ابن منظور في "لسان العرب" ٣/ ٢٧٠ (عبد): يقال: فلان بين العُبودة والعبودية.
(٣) قولهما في الحجة للفارسي ٥/ ٣٠٣. وذكره عنهما النحاس في "معاني القرآن" ٤/ ٤٨٨ - ٤٨٩، وابن الجوزي ٥/ ٤٩٣.
(٤) قال الزجاج في "معانيه" ٤/ ٢٤ بعد حكايته قول بعض أهل اللغة أن ما كان من الاستهزاء فهو بالكسر وما كان من جهة التسخير فهو بالضم: وكلاهما عند سيبويه والخليل واحد.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ٢٤.
(٦) في (أ): (وقرئ): وفي الحجة: وترى.
(٧) لم أجده في "النوادر" لأبي زيد، فعل أبا علي نقله من كتاب آخر لأبي زيد.
(٨) في (أ): (لعمرو).

النسب عن حكم المصدر، يدلك على ذلك قوله: ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا﴾ (١) فأفرد (٢)، وقد جرى على الجمع كما تفرد المصادر، فكأنَّ ياء النسب لم يقع بها (٣) اعتداد في المعنى، كما لم يُعتدّ بها (٤) ولم يكن حكم للنسب في نحو: أحمر وأحْمري ودؤاري (٥)، فكانت ياء النسب في حكم الزيادة كـ (لا) في قوله: ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد: ٢٩].
وقال الأخفش: سخري إذا أردت من سخرتُ به ففيه لغتان: الضم والكسر (٦). والتي يراد بها السُّخْرة فالضم لا غير، ومن ثمَّ اتفقوا على الضم في التي في الزخرف. وقولهم (٧): اتخذت فلانا سُخريّا وسُخْرة السُّخري مصدر وسُخْرة (٨) ليست بمصدر في الهزء ولكنه كقولهم: ضُحْكَةٌ وهُزْأةٌ إذا كان يُضْحك منه. وأما وجه الضم إذا كان من الهزء فإن سَخَرًا فَعَل، وفَعَل وفُعْل (٩) يتعاقبان علي الكلمة كالحزن والحزن والبخل والبخل (١٠)، كما كان فَعَلٌ وفِعْلٌ كذلك، إلا أنَ المضموم خُصَّ (١١) بالنسب كما خُصَّ
(٢) في (ع): (فرد).
(٣) في (ع): (بعدها). وفي الحجة: به.
(٤) في الحجة: به.
(٥) في (ع): (ودرار ودراري).
(٦) كلام الأخفش ليس في معاني القرآن، وإنَّما هو في "الحجة" لأبي علي ٥/ ٣٠٥.
(٧) في الحجة: فأما ما حكاه أبو زيد من قوله...
(٨) في (أ): (سخر).
(٩) (وفعل) الثانية: ساقطة من (ظ)، (ع).
(١٠) في (أ)، (ظ): (الحِل والحل). مهملة.
(١١) في (أ): (حض).

المكسور به وبقي على حكم المصدر كما بقي عليه المكسور. وإذا ثبت هذا فقوله (سخريا) في القراءتين جميعًا مصدر وصف به ولذلك أفْرد (١).
قال ابن عباس -في هذه الآية-: يريد يستهزئون بهم.
وقال مقاتل: إنّ رؤوس كفار قريش كانوا يستهزئون من بلال وعمار وخَبَّاب وصهيب وسالم وفقراء العرب، ازْدَرَوْهُم (٢).
قوله: ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ﴾ يريد تركتم موعظتي.
وقال مقاتل: ترككم الاستهزاء لا تؤمنون بالقرآن (٣).
قال أبو علي: ﴿أَنْسَوْكُمْ﴾ يجوز (٤) أن يكون منقولًا من الذي بمعنى الترك، ويمكن أن يكون (من) (٥) الذي هو خلاف الذكر، واللفظ على أنهم فعلوا بكم النسيان، والمعنى: أنكم أنها المتخذون عبادي سُخْريا نسيتم ذكري باشتغالكم باتخاذكم إيّاهم سخريا وبالضحك منهم. أي: تركتموه من أجل ذلك، فنسب الإنساء إلى عبادِه المخلصين وإن لم يفعلوه لما كانوا كالسبب لإنسائهم، وهذا كقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] فنسب الإضلال إلى الأصنام لما كانت سببًا في الإضلال (٦).
(٢) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٣ ب.
(٣) "تفسير مقاتل" ٢/ ٣٣ ب.
(٤) في (أ): (ويجوز).
(٥) زيادة من الحجة.
(٦) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٢/ ١٩١ - ١٩٢ عند كلامه على قوله "أو ننسها" [البقر ة: ١٠٦].