
فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ويزيل الوساوس من بعض قلوب الناس ثم يحكم الله آياته البينات، حتى تكون محكمة سديدة عند من يؤمن بها، والله عليم بخلقه حكيم في صنعه، يعلم خلقه وما هم عليه.
ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة وضلالا للذين في قلوبهم مرض، من شك ونفاق وحسد وبغضاء: وانظر إلى عبارة القرآن فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمراد استقر وسكن حتى أصبح طبعا وغريزة، والقاسية قلوبهم، وهم المشركون المكذبون، وإن الظالمين من المنافقين والمشركين لفي شقاق بعيد الغور، كبير الخطر، ولهم عذاب مقيم...
وليعلم الذين أوتوا العلم، وهدوا إلى الصراط المستقيم، وهم المؤمنون القانتون أنه الكتاب المحكم الآيات، البعيد عن الشبهات، هو الحق من ربك، لا شك فيه تنزيل من حكيم حميد، فيؤمنوا به إيمانا صادقا لا شبهة معه، فتخبت له قلوبهم، وتخشع وتسكن مخلصة مطمئنة، وإن الله لهادى الذين آمنوا بهذا القرآن إلى صراط مستقيم، وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء.
ولا يزال الذين كفروا في شك منه مهما أتتهم الأدلة، وتوالت عليهم الحجج، لا يزالون هكذا، في شك وحيرة حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لا خير فيه.
ولا غرابة في هذا لأن الملك يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار. يحكم بينهم، وهو الحكم العدل- جل شأنه-، يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات خالدين فيها، ولهم فيها نعيم مقيم.
والذين كفروا، وكذبوا بآياتنا فأولئك أصحاب الجحيم، ولهم عذاب ذو إهانة لهم.
جزاء ما عملوا من سيئ الأعمال، وما ارتكبوا من بوائق السيئات...
فضله كبير على الناس جميعا وخاصة المؤمنين [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٦]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)

المفردات:
هاجَرُوا تركوا أوطانهم في سبيل الله مُدْخَلًا مكانا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة عاقَبَ جازى الظالم بمثل ما ظلمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يدخل

الليل في النهار بزيادة وقته على حساب النهار مُخْضَرَّةً ذات خضرة سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ذلل لكم ما في الأرض تنتفعون به وتذللونه.
المعنى:
- الملك يومئذ لله يحكم بين عباده فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياته لهم العذاب المقيم خالدين فيه أبدا.
والذين هاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وديارهم في سبيله وكرسوا حياتهم للجهاد مع رسوله، وإنما خص هؤلاء بالذكر لسمو قصدهم وعلو مكانتهم عند ربهم، وهؤلاء الذين هاجروا ثم قتلوا بعد ذلك أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا، وانظر إلى علو مكانتهم عند ربهم إذا قتلوا أو ماتوا.
ليرزقهم الله رزقا حسنا من عنده. وهو خير الرازقين إذ يعطى بغير حساب وينفق كما يشاء، وكل عطاء فهو من فضل عطائه، ليدخلنهم مدخلا يرضونه يوم القيامة، وهذا المدخل الكريم ما أعد لهم في الجنة من النعيم المقيم، وهذه الجملة بيان للرزق الحسن إذ لا يعقل أن يكون رزقا في الدنيا بعد الموت أو القتل إلا على التأويل، ولا غرابة في ذلك فالله هو العليم بأسرار النفوس، وطوايا القلوب، حليم بعباده لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويغفر، ويمهل ولا يهمل.
الأمر ما قصصناه عليك من إنجاز ما وعدنا المهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا. أى الأمر ذلك.
روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ورضى عنهم قالوا: يا رسول الله: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ أى فما حالنا لو متنا بلا قتل؟!! فأنزل الله هاتين الآيتين- وهما يفيدان التسوية بين من مات على فراشه ومن قتل في سبيل الله... وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج ٦٠].
ووضع هذه الآية هنا يفيد معناها: أن هؤلاء المهاجرين المقاتلين في سبيل الله مع إكرامى لهم في الآخرة بما عرفتم لا أدعهم بل أنصرهم في الدنيا على أعدائهم، وهذا مشروط بنصرهم لله إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمد آية ٧].

والمعنى من قاتل من قاتله ظلما وبغيا، لينصرنه الله ويؤيده بروح من عنده واعلموا أن الله عفو غفور فلا تلجئوا للحرب والقتال إلا إذا وقفوا ضدكم، وحاربوا دعوتكم، فإن تركوكم وشأنكم، ولم يعتدوا عليكم فمن الخير ألا تبدءوا بالقتال بل عليكم بالعفو فالله كثير العفو والمغفرة والعقوبة إنما تكون بعد فعل وقع. فهي جزاء منه، وسمى الله ابتداء الظلم عقوبة مشاكلة لتسمية الجزاء وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى آية ٤٠] فسمى عقوبة الجزاء سيئة للمشاكلة، والمراد بالمثلية عدم الزيادة.
ذلك أى: المذكور كله بسبب أنه- سبحانه- قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر فالقادر على ذلك قادر بلا شك على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع ومجازاة العاصي، وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء، بصير بكل عمل فلا يعزب عنه شيء.
ذلك أى ما تقدم من اتصافه- سبحانه وتعالى- بكمال القدرة، وتمام العلم بسبب أنه هو الحق، الموجود بلا شك، الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وهو صاحب الدين الحق، فعبادته حق، ونصره لأوليائه حق، ووعده حق، وهو الحق لا شك فيه، وأن ما تدعون من دونه هو الباطل الذي لا ثبوت له، ولا وجود، والحال أن الله هو العلى المتعالي على الكل بقدرته، وقدسيته تنزهه عن الأشباه والأنداد والنظائر.
ثم أخذ القرآن يلفت نظرنا إلى الأدلة الكونية التي تثبت ذلك.
ألم تعلموا أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ بقدرة الله، فالله- سبحانه- هو الذي أنزل من السماء ماء فأصاب الأرض الميتة فأحياها بالخضرة والنبات، أو سلكه ينابيع في الأرض ثم يرفع بالآلات الرافعة فأصبحت به مخضرة ذات خضرة وبهجة.
إن الله لطيف بعباده يدبر لهم أمر المعاش ونظام الدنيا خبير بهم، وبحالهم، وبنظام معاشهم ولا غرابة في ذلك كله إذ له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، والكل محتاج إليه، وأن الله هو الغنى فلا يحتاج إلى شيء، الحميد المحمود في السموات والأرض.
وهذه نعمة أخرى.