الأضحية، بل هي سنة مستحبة لما
جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «١»
ولأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، فأسقط ذلك وجوبها عنهم،
وقال: «إنها سنة أبيكم إبراهيم»
وقال أبو سريحة: كنت جارا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما.
وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره»
ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب.
وروى أحمد والحاكم والدارقطني عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هنّ علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى» «٢».
وروى الترمذي: «أمرت بالنحر، وهو لكم سنة».
دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
(٢) سكت عنه الحاكم، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني.
الإعراب:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا في موضع جر صفة لقوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين أخرجوا. ويكون قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فصلا بين الصفة والموصوف، مثل: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ، عَظِيمٌ [الواقعة ٥٦/ ٧٦] أي: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، أي لكن لقولهم:
ربنا الله.
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بدل بعض من الناس.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ.. إما في موضع جر، صفة أخرى لقوله: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وإما منصوب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي هم.
وقوله: إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ شرط وجزاء، وهما صلة الموصول.
البلاغة:
خَوَّانٍ كَفُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه حذف لدلالة السياق عليه، أي أذن بالقتال للذين يقاتلون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، أي لا ذنب لهم إلا هذا، على طريقة قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، وقرئ: يدفع أي غائلة المشركين خَوَّانٍ في أمانته وأمانة الله أي كثير الخيانة كَفُورٍ لنعمته، وهم المشركون، والمعنى: أنه يعاقبهم، وصيغة المبالغة لبيان واقع المشركين.
أُذِنَ رخّص لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من قبل المشركين وهم المؤمنون، أي للمؤمنين أن يقاتلوا، والمأذون فيه وهو القتال محذوف لدلالته عليه، وقرئ بالبناء للمعلوم يُقاتَلُونَ أي صفحة رقم 224
عدوهم المشركين. ذكر جماعة من المفسرين: أن هذه أول آية نزلت في الجهاد بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا بظلم الكافرين إياهم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر كما وعدهم بدفع أذى الكفار عنهم.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني مكة بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير موجب في الإخراج استحقوا به إِلَّا أَنْ يَقُولُوا أي بقولهم رَبُّنَا اللَّهُ وحده، وهذا القول حق، فالإخراج به إخراج بغير حق، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين لَهُدِّمَتْ لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، والقراءة بالتشديد للتكثير، وقرئ بالتخفيف صَوامِعُ للرهبان وهي الأديرة، جمع صومعة وَبِيَعٌ كنائس للنصارى، جمع بيعة وَصَلَواتٌ كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: أصلها: صلوتا بالعبرانية، فعرّبت وَمَساجِدُ معابد للمسلمين، جمع مسجد، والأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلم مسجدا، وتربتها طهورا. يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يذكر في المواضع الأربعة المذكورة، وتنقطع العبادة بخرابها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه، وقد أنجز وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ القوي: القادر على كل شيء، ومنه نصرهم، والعزيز: المنيع في سلطانه وقدرته، لا يغلبه غالب.
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بنصرهم على عدوهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إليه مرجعها في الآخرة.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٨) :
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ: روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
نزول الآية (٣٩) :
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية: أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه وابن سعد عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فقال
أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنّ، فأنزل الله:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، ثم بيّن مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أردف ذلك ببيان ما يزيل الصدّ، ويؤمن معه التمكن من الحج، وهو دفع الله غائلة المشركين، والإذن بالقتال مع إيضاح الحكمة منه وأسباب مشروعيته، كالدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.
التفسير والبيان:
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، شر الأشرار، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق ٦٥/ ٣] وقوله: يُدافِعُ صيغة مفاعلة إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط لأن صيغة المفاعلة تدل على تكرر الفعل.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي إنه تعالى لا يحب خائن العهد والميثاق والأمانة، جاحد النعم الذي لا يعترف بها، والمراد أن المؤمنين هم أحباء الله، وأن الله سيعاقب أعداءهم، فهو تعليل للوعد وللوعيد لأن نفي المحبة كناية عن البغض الموجب للعقاب. وخيانة الأمانة إما جميع الأمانات، وإما أمانة الله وهي أوامره ونواهيه.
وهذه الآية إما وعيد ضمنا، وبيان عاقبة الصادين عن المسجد الحرام الذين
ذكرهم الله قبل آيات الحج، فتكون كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ... وإما وعد للمؤمنين الذين تعطشوا إلى رؤية الحرم المقدس بعد منع المشركين لهم، فتكون كلاما متصلا بما قبله مباشرة، فإنهم أخرجوا رسول الله من وطنه الذي تعلق قبله به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
والظاهر أن الآية وعد من الله عز وجل وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم وتمكينهم من عدوهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي رخّص للمؤمنين المعتدى عليهم بالقتال بسبب ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وإيذاء بعضهم بالضرب والشج، فكانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج في رأسه، ويشتكون إليه، فيأمرهم بالصبر، ويقول لهم: «إني لم أومر بقتالهم» حتى هاجر فنزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.
وهي في رأي كثير من السلف كابن عباس وعائشة ومجاهد والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة والزهري: أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وهو الظاهر، ويؤيده سبب النزول المتقدم ذكره، وذكرت الآية بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت في القتال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. [البقرة ٢/ ١٩٠].
وفي الإكليل للحاكم: إن أول آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. [التوبة ٩/ ١١١].
فعلى القول الأول للأكثرين: يكون المقصود بالآية: أُذِنَ.. إباحة القتال ومشروعيته، والمأذون فيه هو القتال حقيقة، وحذف لدلالة السياق عليه، والمراد بهم المهاجرون، بدليل وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق.
وعلى القول الثاني لبعضهم: يكون المراد حكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية.
وعلى قراءة المبني للمجهول يُقاتَلُونَ يكون وصفهم بالقتال الواقع عليهم فعلا على حقيقته، سواء قيل: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا لأن قتال المشركين واضطهادهم لهم، كان حاصلا على كل حال.
وعلى قراءة المبني للمعلوم يقاتلون إذا قيل: إنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون وصفهم بالقتال على حقيقته أيضا، وأما إذا قيل: إنها أول آية نزلت في الجهاد فيكون وصفهم بالقتال إما على معنى أو على تقدير: إرادة القتال، أي يريدون قتال المشركين ويحرصون عليه، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، أي ما سيعدون أنفسهم عليه من لقاء المشركين.
وعلى كل حال يكون المراد بالآية بيان سبب الإذن في القتال وهو دفع الظلم والإيذاء، فإن المشركين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأشد أنواع الإيذاء الأدبية والجسدية، فإنهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ووضعوا التراب على رأسه، وألقوا سلا جزور على كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه، وأغرت ثقيف سفهاءهم حتى رموه بالحجارة وأدموه واختضب نعلاه بالدم. وآذوا أيضا أتباعه وأنصاره فعذبوهم بالضرب والجلد، والقتل، والإلقاء في حر الشمس في بطحاء مكة، ووضعوا الحجارة على صدورهم، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، فلم يزدهم التعذيب إلا إصرارا على التمسك بعقيدتهم، فلا يصدر عنهم إلا القول: أحد أحد.
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أي جنب كان في الله مصرعي |