آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕ

الأضحية، بل هي سنة مستحبة لما
جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «١»
ولأنه صلّى الله عليه وسلم ضحى عن أمته، فأسقط ذلك وجوبها عنهم،
وقال: «إنها سنة أبيكم إبراهيم»
وقال أبو سريحة: كنت جارا لأبي بكر وعمر، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما.
وروى الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره»
ففيه تعليق الأضحية بالإرادة، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب.
وروى أحمد والحاكم والدارقطني عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث هنّ علي فرائض، وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وصلاة الضحى» «٢».
وروى الترمذي: «أمرت بالنحر، وهو لكم سنة».
دفاع الله عن المؤمنين وأسباب مشروعية القتال
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)

(١) رواه ابن ماجه عن فاطمة بنت قيس، وهو ضعيف.
(٢) سكت عنه الحاكم، وفيه راو ضعيف ضعفه النسائي والدارقطني.

صفحة رقم 223

الإعراب:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا في موضع جر صفة لقوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين أخرجوا. ويكون قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فصلا بين الصفة والموصوف، مثل: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ، عَظِيمٌ [الواقعة ٥٦/ ٧٦] أي: وإنه لقسم عظيم لو تعلمون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، أي لكن لقولهم:
ربنا الله.
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بدل بعض من الناس.
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ.. إما في موضع جر، صفة أخرى لقوله: لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ وإما منصوب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي هم.
وقوله: إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ شرط وجزاء، وهما صلة الموصول.
البلاغة:
خَوَّانٍ كَفُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعول.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه حذف لدلالة السياق عليه، أي أذن بالقتال للذين يقاتلون.
إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، أي لا ذنب لهم إلا هذا، على طريقة قول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
المفردات اللغوية:
يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، وقرئ: يدفع أي غائلة المشركين خَوَّانٍ في أمانته وأمانة الله أي كثير الخيانة كَفُورٍ لنعمته، وهم المشركون، والمعنى: أنه يعاقبهم، وصيغة المبالغة لبيان واقع المشركين.
أُذِنَ رخّص لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ من قبل المشركين وهم المؤمنون، أي للمؤمنين أن يقاتلوا، والمأذون فيه وهو القتال محذوف لدلالته عليه، وقرئ بالبناء للمعلوم يُقاتَلُونَ أي

صفحة رقم 224

عدوهم المشركين. ذكر جماعة من المفسرين: أن هذه أول آية نزلت في الجهاد بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا بظلم الكافرين إياهم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر كما وعدهم بدفع أذى الكفار عنهم.
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني مكة بِغَيْرِ حَقٍّ أي بغير موجب في الإخراج استحقوا به إِلَّا أَنْ يَقُولُوا أي بقولهم رَبُّنَا اللَّهُ وحده، وهذا القول حق، فالإخراج به إخراج بغير حق، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين لَهُدِّمَتْ لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل، والقراءة بالتشديد للتكثير، وقرئ بالتخفيف صَوامِعُ للرهبان وهي الأديرة، جمع صومعة وَبِيَعٌ كنائس للنصارى، جمع بيعة وَصَلَواتٌ كنائس اليهود، سميت بها لأنها يصلى فيها، وقيل: أصلها: صلوتا بالعبرانية، فعرّبت وَمَساجِدُ معابد للمسلمين، جمع مسجد، والأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلم مسجدا، وتربتها طهورا. يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يذكر في المواضع الأربعة المذكورة، وتنقطع العبادة بخرابها وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه، وقد أنجز وعده، بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم، وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ القوي: القادر على كل شيء، ومنه نصرهم، والعزيز: المنيع في سلطانه وقدرته، لا يغلبه غالب.
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بنصرهم على عدوهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إليه مرجعها في الآخرة.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٨) :
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ: روي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
نزول الآية (٣٩) :
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية: أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه وابن سعد عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم من مكة، فقال

صفحة رقم 225

أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! ليهلكنّ، فأنزل الله:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، ثم بيّن مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أردف ذلك ببيان ما يزيل الصدّ، ويؤمن معه التمكن من الحج، وهو دفع الله غائلة المشركين، والإذن بالقتال مع إيضاح الحكمة منه وأسباب مشروعيته، كالدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.
التفسير والبيان:
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أي إن الله يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه، شر الأشرار، وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق ٦٥/ ٣] وقوله: يُدافِعُ صيغة مفاعلة إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط لأن صيغة المفاعلة تدل على تكرر الفعل.
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي إنه تعالى لا يحب خائن العهد والميثاق والأمانة، جاحد النعم الذي لا يعترف بها، والمراد أن المؤمنين هم أحباء الله، وأن الله سيعاقب أعداءهم، فهو تعليل للوعد وللوعيد لأن نفي المحبة كناية عن البغض الموجب للعقاب. وخيانة الأمانة إما جميع الأمانات، وإما أمانة الله وهي أوامره ونواهيه.
وهذه الآية إما وعيد ضمنا، وبيان عاقبة الصادين عن المسجد الحرام الذين

صفحة رقم 226

ذكرهم الله قبل آيات الحج، فتكون كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ... وإما وعد للمؤمنين الذين تعطشوا إلى رؤية الحرم المقدس بعد منع المشركين لهم، فتكون كلاما متصلا بما قبله مباشرة، فإنهم أخرجوا رسول الله من وطنه الذي تعلق قبله به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
والظاهر أن الآية وعد من الله عز وجل وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم وتمكينهم من عدوهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي رخّص للمؤمنين المعتدى عليهم بالقتال بسبب ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وإيذاء بعضهم بالضرب والشج، فكانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج في رأسه، ويشتكون إليه، فيأمرهم بالصبر، ويقول لهم: «إني لم أومر بقتالهم» حتى هاجر فنزلت هذه الآية في السنة الثانية من الهجرة.
وهي في رأي كثير من السلف كابن عباس وعائشة ومجاهد والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة والزهري: أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وهو الظاهر، ويؤيده سبب النزول المتقدم ذكره، وذكرت الآية بعد الوعد بالمدافعة والنصر.
وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت في القتال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ.. [البقرة ٢/ ١٩٠].
وفي الإكليل للحاكم: إن أول آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. [التوبة ٩/ ١١١].

صفحة رقم 227

فعلى القول الأول للأكثرين: يكون المقصود بالآية: أُذِنَ.. إباحة القتال ومشروعيته، والمأذون فيه هو القتال حقيقة، وحذف لدلالة السياق عليه، والمراد بهم المهاجرون، بدليل وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق.
وعلى القول الثاني لبعضهم: يكون المراد حكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية.
وعلى قراءة المبني للمجهول يُقاتَلُونَ يكون وصفهم بالقتال الواقع عليهم فعلا على حقيقته، سواء قيل: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا لأن قتال المشركين واضطهادهم لهم، كان حاصلا على كل حال.
وعلى قراءة المبني للمعلوم يقاتلون إذا قيل: إنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون وصفهم بالقتال على حقيقته أيضا، وأما إذا قيل: إنها أول آية نزلت في الجهاد فيكون وصفهم بالقتال إما على معنى أو على تقدير: إرادة القتال، أي يريدون قتال المشركين ويحرصون عليه، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، أي ما سيعدون أنفسهم عليه من لقاء المشركين.
وعلى كل حال يكون المراد بالآية بيان سبب الإذن في القتال وهو دفع الظلم والإيذاء، فإن المشركين آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأشد أنواع الإيذاء الأدبية والجسدية، فإنهم اتهموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ووضعوا التراب على رأسه، وألقوا سلا جزور على كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه، وأغرت ثقيف سفهاءهم حتى رموه بالحجارة وأدموه واختضب نعلاه بالدم. وآذوا أيضا أتباعه وأنصاره فعذبوهم بالضرب والجلد، والقتل، والإلقاء في حر الشمس في بطحاء مكة، ووضعوا الحجارة على صدورهم، وحاولوا فتنتهم عن دينهم، فلم يزدهم التعذيب إلا إصرارا على التمسك بعقيدتهم، فلا يصدر عنهم إلا القول: أحد أحد.

صفحة رقم 228

ثم وعد الله تعالى هؤلاء المعذبين المستضعفين بالنصر فقال:
وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ أي إن الله وحده هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال، ولكنه يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، وهو حينئذ معهم يؤيدهم بنصره، وقد فعل، فأعزهم وأهلك أعداءهم. هذا رأي ابن كثير «١». ويكون المقصود تنبيه المسلمين إلى أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنهم مدعوون للجهاد والكفاح، وإثبات الكفاءة والذات، وأن الجزاء مرتبط بالعمل. وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا وعد بالنصر، وتأكيد للوعد في الآية المتقدمة بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأن الوعد السابق لا يراد منه مجرد تخليصهم من أيدي أعدائهم، بل نصرهم عليهم.
وإنما تأخر تشريع القتال إلى ما بعد الهجرة وإلى الوقت المناسب لأن المؤمنين في مكة كانوا قلة، وكان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمون- وهم أقل من العشر- بقتال المشركين، لشق عليهم.
ثم وصف الله تعالى حال هؤلاء المؤمنين بقوله:
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ أي إن هؤلاء المؤمنين المعتدى عليهم هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق، وهم محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كان لهم من إساءة إلى قومهم، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ١] وقال سبحانه في قصة أصحاب الأخدود: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج ٨٥/ ٨].
هذا أول أسباب المشروعية وهو الطرد من الأوطان بغير حق، ثم ذكر تعالى

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٢٥

صفحة رقم 229

سببا آخر وهو الدفاع عن حرية العبادة في الأرض، وحماية الأماكن المقدسة، فقال:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ.. هذه هي سنة التدافع من أجل الحفاظ على التوازن بين البشر، والقتال مشروع لحماية أماكن العبادة، وإقرار مبدأ حرية العبادة. والمعنى: لولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكفّ شرور أناس من غيرهم، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود والحرمات، لهدّمت مواطن العبادة، سواء كانت معابد للرهبان أو للنصارى أو لليهود أو للمسلمين، التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا.
ويلاحظ وجود التنقل في بيان مواضع العبادة من الأقل إلى الأكثر، ومن الأضيق إلى الأوسع، فإن المساجد أكثر ارتيادا، وأصح عبادة وأسلم قصدا.
وكذلك قدمت الصوامع والبيع في الكلام على المساجد لأنها أقدم وجودا. قال بعض العلماء: هذا ترقّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد، وهي أكثر عمّارا، وأكثر عبّادا، وهم ذوو القصد الصحيح «١».
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي وليؤيّدنّ الله بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ورفع لواء دينه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ، وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد ٤٧/ ٧- ٨].
وهذا إخبار من الله عز وجل عن مغيبات المستقبل وعما ستكون عليه سيرة المهاجرين رضي الله عنهم إن مكنهم في الأرض، وبسط لهم في الدنيا، وكيف يقومون بأمر الدين «٢».

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ٢٢٦
(٢) الكشاف: ٢/ ٣٥٠

صفحة رقم 230

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي إن الله هو القوي القادر على نصر أهل طاعته المجاهدين في سبيله، وهو المنيع الذي لا يقهر، ولا يغلبه غالب، كقوله تعالى:
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧١- ١٧٣]. وقوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١].
ثم وصف الله تعالى المهاجرين المؤمنين الجديرين بالنصر فقال:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ.. أي إن هؤلاء المهاجرين الذين بوأهم الله السلطة على الناس، وأعطاهم النفوذ بين العالم إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطة، فإنهم يأتون بالأمور الأربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو ما أمر به شرعا وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو ما حظر شرعا وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله. وهذه الآية كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥].
وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي إن مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره في الثواب والعقاب على ما عملوا، كقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف ٧/ ١٢٨] وفيه تأكيد لما وعد تعالى من نصر أوليائه وإعلاء كلمتهم.
فمن تأمل النصر على الأعداء من اليهود وغيرهم، فليعمل بهذه الأوصاف الأربعة التي التزمها المهاجرون والمجاهدون الأولون.
ومجمل الآيات أنه إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب مع الناس إلا أن يعبدوا الله، وأنهم إذا ظهروا في الأرض أقاموا الصلاة.

صفحة رقم 231

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى غرر الأحكام التالية:
١- وعد الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى بالمدافعة عن المؤمنين، وبحفظهم وصونهم من شر الأشرار وكيد الفجار، وبنصرهم على أعدائهم، ثم نهى نهيا صريحا عن الخيانة والغدر وكفران النعم.
٢- أباح الله تعالى القتال لمن يصلح له لدفع أذى الكفار واعتدائهم، ودفاعا عن النفس وحق الحياة العزيزة الكريمة. قال الضحّاك: استأذن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قتال الكفار إذ آذوهم بمكة، فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ، فلما هاجر نزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وهذا- كما يقول العلماء القدامى- ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح، وهي أول آية نزلت في القتال.
وكانت قريش قد اضطهدت المسلمين حتى فتنوهم عن دينهم، ونفوهم عن بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذّب، وبين هارب في البلاد مغرّب، فمنهم من فرّ إلى أرض الحبشة، ومنهم من خرج إلى المدينة، ومنهم من صبر على الأذى»
. والخلاصة: لقد أذنوا بالقتال بسبب كونهم مظلومين، وكان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديدا، وكانوا يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه، فيقول لهم: اصبروا، فإني لم أومر بقتال، حتى هاجر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية «٢».
وفي هذه الآية دليل على أن الإباحة من الشرع، خلافا للمعتزلة لأن قوله: أُذِنَ معناه أبيح، وهو لفظ موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع.

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٢٨٥
(٢) تفسير الرازي: ٢٣/ ٣٩

صفحة رقم 232

٣- إن من مظاهر ظلم المشركين للمؤمنين هو إخراجهم من أوطانهم، لا لشيء، لكن لقولهم: ربنا الله وحده، فإن أهل الأوثان أخرجوهم من ديارهم بتوحيدهم.
وفي هذه الآية دليل على جواز نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه لأن الله تعالى نسب الإخراج إلى الكفار، كما في آية: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة ٩/ ٤٠].
٤- ومن أسباب مشروعية القتال: الدفاع عن الحرمات وأماكن العبادات، فلولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك على نواصي الأمور، وأشاعوا الفوضى، ودمروا مواضع العبادات، وتغلبوا على الحق في كل أمة.
وهذا يدل على أن الجهاد أمر قديم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، وارتفعت به راية التوحيد، وظهرت بوادر الصلاح، ونواة التقدم والحضارة، وأرسيت معالم حرية الدين، وبرزت معالم الأخلاق القويمة والتهذيب البشري.
٥- تضمنت هذه الآية المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم، لكن لا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن، ولا يزيدون في البنيان لا سعة ولا ارتفاعا، ولا ينبغي للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها. وجاز أن ينقض المسجد ليعاد بنيانه وقد فعله عثمان رضي الله عنه بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلم.
٦- إن الله تعالى القوي القادر، العزيز المنيع الجليل الشريف ينصر في حكمه وشرعه من ينصر دينه ونبيه، والله لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه، فقير إليه، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور، وعدوه هو المقهور.
٧- إن المسلمين في جهادهم دعاة بناء ومجد وحضارة، وإصلاح وتقويم، فهم

صفحة رقم 233
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي