
المسألة الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْجِدَالَ مَعَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ حَقٌّ حَسَنٌ عَلَى مَا مَرَّ تَقْرِيرُهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وَبِالْهُدَى الِاسْتِدْلَالُ وَالنَّظَرُ لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَعْرِفَةِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ الْوَحْيُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُجَادِلُ مِنْ غَيْرِ مُقَدِّمَةٍ ضَرُورِيَّةٍ وَلَا نَظَرِيَّةٍ وَلَا سَمْعِيَّةٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ [الْحَجِّ: ٧١] وَقَوْلِهِ: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا [الْأَحْقَافِ: ٤] أَمَّا قَوْلُهُ: ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَاعْلَمْ أَنَّ ثَنْيَ الْعِطْفِ عِبَارَةٌ عَنِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ كَتَصْعِيرِ الْخَدِّ وَلَيِّ الْجِيدِ وَقَوْلُهُ: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِضَمِّ الْيَاءِ فَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُجَادِلَ فَعَلَ الْجِدَالَ وَأَظْهَرَ التَّكَبُّرَ لِكَيْ يَتَّبِعَهُ غَيْرُهُ فَيُضِلَّهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ فَجَمَعَ بَيْنَ الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ وَإِضْلَالِ الْغَيْرِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا أَدَّى جِدَالُهُ إِلَى الضَّلَالِ جُعِلَ كَأَنَّهُ غَرَضُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَحَ حَالَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَوْمُ/ بَدْرٍ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عنهما أنهما نزلت في النضر بن الحرث وَأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يُخَصِّصُوا هَذِهِ الْآيَةَ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ قَالُوا الْمُرَادُ بِالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا مَا أُمِرَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَمِّهِ وَلَعْنِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْخِزْيَ الْمُعَجَّلَ وَذَلِكَ الْعِقَابَ الْمُؤَجَّلَ لِأَجْلِ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَطَالِبَ:
الْأَوَّلُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ الْعِقَابِ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَفِعْلِهِ فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ خَلْقًا للَّه تَعَالَى لَكَانَ حِينَمَا خَلَقَهُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ، وَحِينَمَا لَا يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ مِنْهُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فَإِذَا عَاقَبَهُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ مَحْضَ الظُّلْمِ وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ.
الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِأَجْلِ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فَعَلَ فِعْلًا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَلِكَ الْعِقَابَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَاقَبَهُ لَا بِسَبَبِ فِعْلٍ يَصْدُرُ مِنْ جِهَتِهِ لَكَانَ ظَالِمًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُ الْأَطْفَالِ بِكُفْرِ آبَائِهِمْ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ النَّظَّامُ، وَأَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ خِلَافَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ.
الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَجُوزَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ صِحَّةَ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ لَزِمَ الدَّوْرُ وَالْجَوَابُ: عن الكل المعارضة بالعلم والداعي.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١١ الى ١٣]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
الْقِرَاءَةُ: قُرِئَ: خَاسِرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ فَالنَّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ

مَحْذُوفٍ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّه مَنْ ضَرُّهُ بِغَيْرِ لَامٍ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ الْمُجَادِلِينَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَقِبَهُ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ وَفِي تَفْسِيرِ الْحَرْفِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: مَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْءَ فِي بَابِ الدِّينِ مُعْتَمَدُهُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ فَهُمَا حَرْفَا الدِّينِ، فَإِذَا وَافَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَقَدْ تَكَامَلَ فِي الدِّينِ وَإِذَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ الدِّينَ لِبَعْضِ الْأَغْرَاضِ وَفِي قَلْبِهِ النِّفَاقُ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ يَعْبُدُ اللَّه عَلَى حَرْفٍ الثَّانِي: قَوْلُهُ: عَلى حَرْفٍ أَيْ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الدِّينِ لَا فِي وَسَطِهِ وَقَلْبِهِ، وَهَذَا مَثَلٌ لِكَوْنِهِمْ عَلَى قَلَقٍ وَاضْطِرَابٍ فِي دِينِهِمْ لَا عَلَى سُكُونِ طُمَأْنِينَةٍ كَالَّذِي يَكُونُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْعَسْكَرِ فَإِنْ أَحَسَّ بِغَنِيمَةٍ قَرَّ وَاطْمَأَنَّ وَإِلَّا فَرَّ وَطَارَ عَلَى وَجْهِهِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ لِأَنَّ الثَّبَاتَ فِي الدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ إِصَابَةَ الْحَقِّ وَطَاعَةَ اللَّه وَالْخَوْفَ مِنْ عِقَابِهِ فَأَمَّا إِذَا كَانَ غَرَضُهُ الْخَيْرَ الْمُعَجَّلَ فَإِنَّهُ يُظْهِرُ الدِّينَ عِنْدَ السَّرَّاءِ وَيَرْجِعُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرَّاءِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا مُنَافِقًا مَذْمُومًا وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ [النِّسَاءِ: ١٤٣] وَكَقَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [النِّسَاءِ: ١٤١].
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَعْرَابٍ كَانُوا يَقْدَمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مُهَاجِرِينَ مِنْ بَادِيَتِهِمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا صَحَّ بِهَا جِسْمُهُ وَنَتَجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَكَثُرَ مَالُهُ وَمَاشِيَتُهُ رَضِيَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ وَإِنْ أَصَابَهُ وَجَعٌ وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً أَوْ أُجْهِضَتْ رَمَاكُهُ «١» وَذَهَبَ مَالُهُ وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ مَا جَاءَتْكَ هَذِهِ الشُّرُورُ إِلَّا بِسَبَبِ هَذَا الدِّينِ فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَثَانِيهَا: وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، مِنْهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَدْخُلُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ فَإِنْ أَصَبْنَا خَيْرًا عَرَفْنَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِنْ أَصَبْنَا غَيْرَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ بَاطِلٌ وَثَالِثُهَا:
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: «أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّه أَقِلْنِي فَإِنِّي لَمْ أُصِبْ مِنْ دِينِي هَذَا خَيْرًا، ذَهَبَ بَصَرِي وَوَلَدِي وَمَالِي. فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ، إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَسْبِكُ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ فَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: كَيْفَ قَالَ: وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وَالْخَيْرُ أَيْضًا فِتْنَةٌ لِأَنَّهُ امْتِحَانٌ وَقَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: ٣٥]، وَالْجَوَابُ: مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بَلَاءٌ وَابْتِلَاءٌ لِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الْفَجْرِ: ١٥] وَلَكِنْ إِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَلَاءِ عَلَى مَا يَثْقُلُ عَلَى الطَّبْعِ، وَالْمُنَافِقُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْخَيْرُ إِلَّا الْخَيْرُ الدُّنْيَوِيُّ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ الشَّرُّ إِلَّا الشَّرُّ الدُّنْيَوِيُّ، لِأَنَّهُ لَا دِينَ لَهُ. فَلِذَلِكَ وَرَدَتِ/ الْآيَةُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ، وَإِنْ كَانَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِتْنَةً، لَكِنَّ أَكْثَرَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يشتد ويثقل.
السُّؤَالُ الثَّانِي: إِذَا كَانَتِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى يَنْقَلِبَ وَيَرْتَدَّ؟ وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا كَانَ أَظْهَرَهُ فَصَارَ يَذُمُّ الدِّينَ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَكَانَ مِنْ قَبْلُ يَمْدَحُهُ وَذَلِكَ انْقِلَابٌ فِي الحقيقة.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَيْرُ هُوَ ضِدُّ الشَّرِّ فَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَتِ الشِّدَّةُ لَيْسَتْ بِقَبِيحَةٍ لَمْ يَقُلْ تَعَالَى وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ بَلْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يُفِيدُ فِيهِ الْقُبْحَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخْسَرُ فِي الدُّنْيَا الْعِزَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَإِصَابَةَ الْغَنِيمَةِ وَأَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَلَا يَبْقَى مَالُهُ وَدَمُهُ مَصُونًا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَفُوتُهُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِقَابُ الدائم وذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
أما قوله: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْيَهُودِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّه الْأَصْنَامَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ انْقَطَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ النِّفَاقِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، وَأَرَادَ بِهِ عِظَمَ ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِذَلِكَ بُعْدَ ضَلَالِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ خَطَأٌ فَبَعْضُهُ أَبْعَدُ مِنَ الْحَقِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَاسْتُعِيرَ الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التِّيهِ ضَالًّا وَطَالَتْ وَبَعُدَتْ مَسَافَةُ ضَلَالِهِ.
أَمَّا قوله تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْزَعُونَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَضُرُّوا، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِيهَا ضَارًّا نَافِعًا، فَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَوْثَانَ لَزِمَ التَّنَاقُضُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْوَثَنُ وَأَجَابُوا عَنِ التَّنَاقُضِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِأَنْفُسِهَا وَلَكِنَّ عِبَادَتَهَا سَبَبُ الضَّرَرِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي إِضَافَةِ الضَّرَرِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦] فَأَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا سَبَبًا لِلضَّلَالِ، فَكَذَا هَاهُنَا نَفَى الضَّرَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِمَعْنَى كَوْنِهَا فَاعِلَةً وَأَضَافَ الضَّرَرَ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى أَنَّ عِبَادَتَهَا سَبَبُ الضَّرَرِ. وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثم قال فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ضَارَّةً نَافِعَةً لَكِنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا. وَثَالِثُهَا: كَانَ الْكُفَّارُ إِذَا أَنْصَفُوا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا، فَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ: إِنَّ ضَرَرَكُمْ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِكُمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فَالْمَوْلَى هُوَ الْوَلِيُّ وَالنَّاصِرُ، وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ وَالْمُعَاشِرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِالرُّؤَسَاءِ أَلْيَقُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَوْثَانِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى الَّذِي يَجْمَعُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِلَى طَاعَةِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ ذَمَّ الرُّؤَسَاءَ بِقَوْلِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَالْمُرَادُ ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.