
رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين وهو ضعيف: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب»
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ. وواحدة في شأن سارة إذ قال:
لسارة أختي، وذلك ليدفع بقوله مكروها».
ثم قال إبراهيم: سلوهم إن نطقوا، فإنهم يصدقون، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. ويتضمن هذا الكلام اعترافا بأنه هو الفاعل.
فقد احتج عليهم بأمرين: الأول: قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وشأن الكبير حماية الأتباع والصغار، أو لأنه غضب أن تعبد معه هذه الصغار، فكسرها.
والثاني: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ليقولوا: إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون، فيقول لهم: فلم تعبدونهم؟ فتقوم عليهم الحجة منهم.
ولما ألزمهم بحجته أقروا بأنهم هم الظالمون بعبادة من لا ينطق بكلمة، ولا يملك لنفسه شيئا، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يرد عن رأسه الفأس، ثم عادوا لجهلهم وعنادهم، فقالوا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ.
- ٣- الانتصار الساحق لإبراهيم- نجاته من النار
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)

البلاغة:
يَنْفَعُكُمْ يَضُرُّكُمْ بينهما طباق.
كُونِي بَرْداً مجاز مرسل، من إطلاق المصدر، وإرادة اسم الفاعل، أي باردة أو ذات برد.
المفردات اللغوية:
مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بدله. ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من رزق وغيره. ولا يضركم شيئا إذا لم تعبدوه. أُفٍّ هو صوت المتضجر، ومعناه: نتنا وقبحا، ويستعمل للدلالة على أن القائل متضجر، والمراد هنا أن إبراهيم تضجر على إصرارهم على الباطل البيّن. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره. أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنعكم، وأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، ولا تصلح لها، وإنما يستحقها الله تعالى.
قالُوا: حَرِّقُوهُ أخذوا في المضارّة لما عجزوا عن المحاجة، أي حرقوا إبراهيم، فإن النار أهول ما يعاقب به. وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقه والانتقام لها. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا. والقائل منهم: رجل من أكراد فارس، اسمه (هينون) خسف به الأرض، وقيل: نمروذ. فجمعوا له الحطب الكثير، وأضرموا فيه النار، وأوثقوا إبراهيم، ورموه في منجنيق في النار.
قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني ذات برد وسلام، أي ابردي بردا غير ضار، فلم تحرق منه غير وثاقه، وذهبت حرارتها، وبقيت إضاءتها، وسلم من الموت ببردها.
كَيْداً أي تحريقا ومكرا في إضراره، والكيد: المكر الخديعة. الْأَخْسَرِينَ في مرادهم، أي أخسر من كل خاسر، لما عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنهم على الباطل، وإبراهيم على الحق، وموجبا لمزيد درجته، واستحقاقهم أشد العذاب.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثالث والخاتمة المدهشة من قصة إبراهيم مع قومه عبدة الأصنام، فإنه لما أقروا على أنفسهم بأن لا جدوى من عبادة آلهتهم، وألزمهم إبراهيم الحجة، اندفع كالسيل الهادر يعلن ضرورة إنها هذه العبادة الخرافية، التي تقوم على الأوهام، والتي يترفع عنها العقلاء، فقال:

قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟ أي قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بأن تلك الآلهة لا تنطق: أتعبدون بدلا عن الله أشياء لا تنفعكم شيئا إذا علّقتم الأمل بها، ولا تضركم شيئا إذا عاديتموها أو خفتم منها.
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تبّا لكم وقبحا لآلهتكم، وهذا التأفف والتضجر لكم ولها لعبادتكم إياها غير الله تعالى.
أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الذي لا يدين به إلا كل جاهل ظالم فاجر.
ولما تفوق إبراهيم بحجته عليهم، وظهر الحق واندحر الباطل، لم يجدوا مناصا إلا اللجوء للأذى والمضارّة:
قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي قال بعضهم لبعض، والمشهور أن القائل: نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح، وقيل: إنه رجل من الكرد من أعراب فارس: احرقوا إبراهيم بالنار، وانصروا آلهتكم إن كنتم ناصريها نصرا مؤزرا، فجمعوا حطبا كثيرا جدا، ورموا إبراهيم من كفة منجنيق.
قُلْنا: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي قال الله تعالى المتكفل بحفظ أنبيائه وعصمتهم من أذى الناس: يا نار كوني بردا، وسلاما على إبراهيم، أي ابردي بردا غير ضار، فكانت وسطا لا حامية ولا باردة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقال أبو العالية: ولو لم يقل بَرْداً وَسَلاماً لكان بردها أشد عليه من حرّها. وبرودتها حدثت بنزع الله عنها طبعها من الحر والإحراق، مع بقائها على الإضاءة والإشراق والاشتعال كما كانت، والله على كل شيء قدير.

روى البخاري عن ابن عباس أن إبراهيم لما ألقوه في النار قال: «حسبي الله ونعم الوكيل، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» [آل عمران ٣/ ١٧٣].
وروى الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك».
وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أن إبراهيم حين قيدوه وألقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد، ولك الملك لا شريك لك» قال: ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع، فاستقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم؟ ألك حاجة؟ قال: «أما إليك فلا» فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» فقال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ «١».
وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً، فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي وأراد قوم إبراهيم به مكرا وتدبيرا يؤذيه ويقتله، فجعلناهم المغلوبين الأسفلين، ونجاه الله من النار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، إنها تمثل موقف المجاهد الصابر في سبيل دعوته إلى التوحيد والحق والفضيلة، وموقف المعادي الجاهل المناصر للباطل والشرك والوثنية.
لقد دبّر قوم إبراهيم له طريقا للخلاص منه، وأرادوا إحراقه وتعذيبه بأشد أهوال العذاب، ومعاقبته بالنار لأنها أشد العقوبات، وجمعوا الحطب وأوقدوا

النار، واشتعلت واشتدت، ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. وهذا من أشد وأعتى ما يفعله البشر، ولكن أين الله؟! لقد كانت النتيجة مروعة مذهلة مدعاة للعجب والاستغراب، وفوق حدود التصورات البشرية، فسلخ الله تعالى من النار خاصية الإحراق، ونجا إبراهيم وخرج من النار كأنه يخرج من حمام أمام الجموع الغفيرة المشاهدة، ولم تحرق النار إلا وثاقه في أول ملامستها له، وتلك معجزة تدعو إلى الإيمان بحق، وتستدعي التأمل في تدبير البشر ومكرهم، وفي تدبير الله الأعظم الذي يبدد كل تدبير، ويحبط كل مسعى شرير، فنجاه الله من النار، وجعلهم الأخسرين المغلوبين الأسفلين لأنهم أرادوا به التحريق، فخاب مرادهم.
روى ابن أبي حاتم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار، لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ «١»، فإنه كان ينفخ على إبراهيم».
وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار، جاء ملكهم لينظر إليه، فطارت شرارة، فوقعت على إبهامه، فأحرقته مثل الصوفة.
آمنت بالله وحده لا شريك له، فهو صاحب القدرة المطلقة، إذا أراد شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ.