المخلوقات، وإنما فائدة الطاعة تعود على الطائعين أنفسهم، فأجدر بهم أن يطيعوه، وأولى بهم أن يعبدوه، بل يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه لأن كل المكلفين في السماء والأرض عبيده، وهو الخالق لهم، والمنعم عليهم بأصناف النعم.
توبيخ المشركين وإثبات الوحدانية
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٢٩]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
الإعراب:
مِنَ الْأَرْضِ صفة لآلهة، أو متعلقة بالفعل، على معنى الابتداء، وفائدتها التحقير لا التخصيص.
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ: إِلَّا: في موضع (غير) وهي وصف ل آلِهَةٌ وتقديره: غير الله، ولهذا أعربت إعراب الاسم الواقع بعد إِلَّا وهو الرفع. ولا يجوز أن يكون الرفع على البدل لأن البدل إنما يكون في النفي لا في الإثبات، وهذا في حكم الإثبات. وذهب الفراء إلى أن إِلَّا بمعنى «سوى».
ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ذكر غير منون: مضاف إلى مِنْ الذي هو مضاف إليه. ويقرأ بتنوين على تقدير محذوف، أي ذكر ذكر من معي.
لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ منصوب بيعلمون. وقرأ الحسن الْحَقَّ بالرفع بتقدير مبتدأ محذوف، أي هو الحق.
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عِبادٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: بل هم عباد مكرمون.
وأجاز الفراء: بل عبادا مكرمين على تقدير: بل خلقهم عبادا مكرمين.
البلاغة:
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ طباق السلب.
قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ تبكيت للخصم.
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ فيهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَمِ اتَّخَذُوا أي بل اتخذوا، للانتقال، والهمزة لإنكار اتخاذهم آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ أي آلهة كائنة من الأرض، كحجر وذهب وفضة هُمْ يُنْشِرُونَ أي الآلهة يحيون الموتى من قبورهم، من أنشره: أي أحياه؟ لا، فلا يكون إلها إلا من يحيي الموتى، فالنشر: إحياء الموتى من قبورهم، والحشر: سوقهم إلى أرض المحشر.
لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض إِلَّا اللَّهُ غيره لَفَسَدَتا لبطلتا وخربتا وخرجتا عن نظامهما المشاهد لما يكون بينهما من الاختلاف والتمانع، على وفق العادة، فإنه عند تعدد الحاكم والاتفاق في المراد، يحدث التنافر في القدرات، إذ بأي قدرة لهما سيوجد؟! وعند الاختلاف يحدث التمانع في الشيء وعدم وجوده، مثلا لو اختلفا في تحريك زيد وتسكينه، فلا يمكن حدوث المرادين لاستحالة الجمع بين الضدين، ولا يمكن حدوث أحد المرادين لمعارضة الآخر، وإذا حدث كان أحد الإلهين قادرا والآخر عاجزا، والعجز نقص، وهو على الله محال.
فَسُبْحانَ اللَّهِ تنزيها لله عما وصفوه به رَبِّ الْعَرْشِ خالق الكرسي عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزيها لله عما يصف الكفار الله به من الشريك له، وغير ذلك.
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته وقوة سلطانه وتفرده بالألوهية والسلطنة الذاتية وَهُمْ يُسْئَلُونَ عن أفعالهم لأنهم مملوكون مستعبدون، والضمير للآلهة المزعومة أو للعباد.
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً أي بل اتخذوا من دون الله تعالى أي سواه آلهة، وفيه استفهام توبيخ، وكرره استعظاما لكفرهم، وتبكيتا، وإظهارا لجهلهم، والمعنى: أوجدوا آلهة ينشرون الموتى، فاتخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواص الألوهية، أو وجدوا في الكتب الإلهية الأمر بإشراكهم، فاتخذوهم تنفيذا للأمر، ثم أبان فساد الأول عقلا، والثاني نقلا، فقال:
قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أحضروا برهانكم على ذلك من العقل أو النقل، فإنه لا يصح القول بما لا دليل عليه.
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي هذا هو القرآن المنزل على من معي أي على أمتي أي عظة لهم وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي والكتب السماوية المنزلة على الأمم قبلي وهي عظة لهم، وهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، ليس في واحد منها أن مع الله إلها، مما قالوا. وإنما فيها الأمر بالتوحيد، والنهي عن الإشراك. وإضافة الذكر إليهم لأنه عظتهم.
لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي توحيد الله، ولا يميزون بين الحق والباطل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التوحيد واتباع الرسول من أجل ذلك، وعن النظر الموصل إليه.
فَاعْبُدُونِ أي وحدوني وَلَداً من الملائكة سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي بل هم عِبادٌ مخلوقون، عنده مُكْرَمُونَ: مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، فليسوا بأولاد.
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون حتى يأمرهم، ولا يأتون بقولهم إلا بعد قوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون قط ما لم يأمرهم به، ويعملون بعد أمره يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا، وهو كالعلة لما قبله، والتمهيد لما بعده، وبذلك يضبطون أنفسهم، ويراقبون أحوالهم. وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أن يشفع له، مهابة منه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ أي من عظمته ومهابته تعالى مُشْفِقُونَ خائفون مرتعدون.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة أو من الخلائق إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي غير الله وهو إبليس، دعا إلى عبادة نفسه، وأمر بطاعتها فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ هذا تهديد للمشركين بتهديد مدعي الربوبية كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المشركين أي من أظلم بالإشراك وادعاء الربوبية.
المناسبة:
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات، وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد، ونفي الشريك.
التفسير والبيان:
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ أي بل اتخذ المشركون آلهة من الأرض من دون الله يحيون الموتى من قبورهم، أي لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! قال الزمخشري: وأَمِ هنا- أي مع الاستفهام- هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» الإضرابية، والهمزة قد آذنت بالإضراب عما قبلها، والإنكار لما بعدها، وهو اتخاذهم آلهة ينشرون الموتى.
والمراد بالآية التذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم، فإن المشركين وإن لم يصرحوا بذلك، فإنهم بادعائهم الألوهية لها يثبتون تلك الصفة لها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض. وهذا تهكم بهم وتوبيخ وتجهيل لهم.
ثم أثبت الله تعالى التوحيد ونفي وجود إله غير الله، فقال:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أي لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامها لأنهما إذا اختلفا وقع الاضطراب والخلل والفساد، وإن اتفقا في التصرف في الكون، فلا داعي للتعدد لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدور من خالقين قادرين على مخلوق واحد، وهذا محال لأنه يجعل وقوع المقدور والمراد للاثنين، لا لواحد منهما، وهذا لا يصح لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين.
وبناء عليه يكون جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل وحدانية الله تعالى، لذا قال:
فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تنزه الله تعالى وتقدس عن الذي يفترون ويقولون: إن له ولدا أو شريكا، وتعالى عما يأفكون علوا كبيرا، فهو رب العرش المحيط بهذا الكون.
ونظير الآية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٩١].
وتأكيدا لهذا التنزيه قال تعالى:
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ أي لا يسأل تعالى عن أفعاله، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم، ما عملوا وما سيعملون، وهذا كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر ١٥/ ٩٢- ٩٣] وقوله سبحانه: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ [المؤمنون ٢٣/ ٨٨].
ثم كرر تعالى الإنكار على المشركين استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم فقال: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة دون الله، ويصفوا الله بأن له شريكا؟ فإن وصفتم الله تعالى بأن له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك، إما من العقل وإما من الوحي، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل إلا وفيه تقرير توحيد الله وتنزيهه عن الشركاء، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين، وأشار فيما يأتي إلى الدليل النقلي فقال:
هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي هذا الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، ورد علي، كما ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر
أي عظة للذين معي أي أمتي، وعظة للذين من قبلي أي أمم الأنبياء السابقين عليهم السلام. وبذلك اتفق القرآن وجميع الكتب السماوية السابقة على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وهذا تبكيت للمشركين يتضمن نقيض مدّعاهم.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق، ويعرضون عنه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع فيهم الأدلة والبراهين.
فَهُمْ مُعْرِضُونَ أي فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم هو أصل الشر والفساد كله، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
وتأكيدا لمضمون الكتب والرسالات السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك قال:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.. أي لم نرسل رسولا سابقا من عهد آدم عليه السلام إلى قومه إلا أوحينا إليه ألا معبود إلا الله، فاعبدوه مخلصين له العبادة، وخصوه بالألوهية، فرسالات جميع الأنبياء قائمة على التوحيد، وكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ونظير الآية قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ٤٥] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦].
والخلاصة: أنه لا دليل للمشركين على ما زعموا، فلا برهان لهم، وحجتهم داحضة لأن الفطرة تشهد بتوحيد الله، وكذلك العقل السليم، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد.
وبعد التنزيه عن الشريك، نفى تعالى اتخاذ الولد فقال:
وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً أي وقال بعض العرب وهم بطون من خزاعة وجهينة وبني سلمة: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم بقوله:
سُبْحانَهُ أي تنزيها له عن الولد، فإن الولد يشبه أباه في شيء، ويخالفه في أشياء، فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، وخالفه من وجوه أخرى، فيقع التركيب في ذات الله تعالى، والله سبحانه منزه عن مشابهة الحوادث، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق.
ولما نزه سبحانه نفسه عن الولد، أخبر عن الملائكة بقوله:
بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ أي ليس الملائكة بنات الله، بل هم عباد مخلوقون له، مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، إلا أنهم مفضلون على سائر العباد.
ومن خصائصهم أنهم:
١- لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى عالم محيط علمه بهم، فلا يخفى عليه منهم خافية، كما قال:
٢- يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي يعلم ما تقدم منهم من عمل، وما هم عاملون في المستقبل، أي كما أن قولهم تابع لقول الله، فعملهم أيضا مبني على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجميع ما يأتون ويذرون في علم الله واطلاعه، وهو مجازيهم عليه، فلا يزالون يراقبونه في جميع أحوالهم، ويضبطون أنفسهم عن أي مخالفة لأمره.
٣- وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله، وأهّله للشفاعة، فلا تعلقوا الآمال على شفاعتهم بغير رضا الله تعالى.
٤- وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي إنهم مع هذا كله من خوف الله ورهبته خائفون حذرون مراقبون ربهم.
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، ووصفهم بتلك الأفعال السنية، فاجأ من أشرك منهم بالوعيد الشديد، وأنذرهم بعذاب جهنم، فقال:
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ: إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ أي ومن يدّعي منهم على سبيل الافتراض أنه إله من دون الله، أي مع الله، كإبليس حيث ادعى الألوهية، ودعا إلى عبادة نفسه، فجزاؤه جهنم على ما ادّعى. وأما الملائكة فلم يقل أحد منهم: إني إله غير الله.
كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من ظلم نفسه، وقال ذلك، وهم المشركون. قال ابن كثير: وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف ٤٣/ ٨١]. وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٦٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة أخرى مع الله، وتوبيخ المشركين على اتخاذهم آلهة ليس لها خواص الألوهية، ومنها الإحياء بعد الإماتة وهو النشر.
٢- إن تعدد الآلهة سبب مؤد لفساد نظام العالم والكون من السموات والأرض، وتخريبها وهلاك من فيهما بوقوع التنازع والاختلاف الواقع بين الشركاء عادة، لذا نزّه الله تعالى نفسه، وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.
وقد استدل الرازي بأدلة أخرى عقلية ونقلية على وحدانية الله تعالى، وهي اثنان وعشرون دليلا، أربعة عشر منها عقلية، وثمانية نقلية سمعية، وأقوى الأدلة العقلية: أنه لو فرضنا وجود إلهين، لافتقر أحدهما إلى الآخر لأنه يصبح مركبا من ذاته ومما يشاركه به الآخر، وكل مركب هو مفتقر إلى جزئه، وكل مفتقر إلى غيره ممكن، والإله واجب الوجود لذاته غير ممكن لذاته، فإذن ليس واجب الوجود إلا الواحد، وكل ما عداه مفتقر إليه، وكل مفتقر إلى غيره فهو محدث، فكل ما سوى الله تعالى محدث.
ومن الأدلة النقلية هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وهو كقوله: وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون ٢٣/ ٩١] وقد صرح الله تعالى بكلمة: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن، وصرح بالوحدانية في موضعين فقط، وهما قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة ٢/ ١٦٣] وقوله: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص ١١٢/ ١] «١».
٣- لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أي لا يسأله الخلق عن قضائه في خلقه، وهو يسأل الخلق عن عملهم لأنهم عبيد. وهذا يدل على أن من يسأل غدا عن أعماله، كالمسيح والملائكة لا يصلح للألوهية، وعلى كون المكلفين مسئولون عن أفعالهم.
روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له: يا أمير المؤمنين: أيحب ربنا أن يعصى؟ قال: أفيعصى ربّنا قهرا؟ قال- أي الرجل-: أرأيت إن منعني الهدى، ومنحني الردى أأحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله، فهو فضله يؤتيه من يشاء، ثم تلا: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
وعن ابن عباس قال: لما بعث الله عز وجل موسى وكلّمه، وأنزل عليه التوراة، قال: اللهم إنك رب عظيم، لو شئت أن تطاع لأطعت، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تعصى، فكيف هذا يا ربّ؟ فأوحى الله إليه: إني لا أسأل عما أفعل، وهم يسألون.
٤- أعاد الله تعالى في الآيات التعجب من اتخاذ الآلهة من دون الله، مبالغة في التوبيخ، على وصفهم المتقدم في الإنشاء والإحياء، فتكون أَمِ بمعنى هل، أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من دون الله؟ فليأتوا بالبرهان على ذلك.
وقيل: إن التعجب الأول: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ احتجاج من حيث المعقول لأنه قال: هُمْ يُنْشِرُونَ أي يحيون الموتى.
والثاني أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً احتجاج بالمنقول، أي هاتوا برهانكم من الكتب السماوية، ففي أي كتاب نزل هذا؟ في القرآن، أم في الكتب المنزلة على سائر الأنبياء؟! ٥- إن الجهل هو المصدر الأصيل في فساد عقائد المشركين: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.
٦- جميع الرسل والأنبياء أوحى الله إليهم أنه لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول. قال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد. أي إن دعوة الرسل جميعا جاءت لبيان التوحيد.
٧- ردّ الله تعالى على بعض العرب الذين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله بتنزيه نفسه عن اتخاذ الولد، قيل: نزلت آية وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
سُبْحانَهُ
في خزاعة، حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وكانوا يعبدونهم طمعا في شفاعتهم لهم.
وبعد التنزيه ذكر الله خمس صفات للملائكة تدل على العبودية ونفي الولادة وهي:
أ- المبالغة في طاعة الله، فهم لا يقولون قولا ولا يفعلون فعلا إلا بأمر الله، وهذه صفات العبيد، لا صفات الأولاد.
ب- إن الله تعالى يعلم أسرارهم، وهم لا يعلمون أسراره، فهو المستحق للعبادة، لا هم.
ج- إنهم لا يشفعون إلا بإذن الله ورضاه، ومن كان إلها لا يحتاج لإذن أحد.
د- إنهم أشد الخلق خوفا من الله، وذلك من صفات العبيد.
هـ- الملائكة وإن أكرموا بالعصمة، فهم كسائر المكلفين مسئولون موجه لهم الوعد والوعيد، فلا يتصور كونهم آلهة. وهذه الآية تدل على كون الملائكة مكلفين، وعلى أنهم معصومون، وعلى أنهم متوعدون.
٨- كما يجزي الله تعالى بالنار كل من ادعى الشركة مع الله، ودعا إلى عبادة نفسه كإبليس، فكذلك يجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.