آيات من القرآن الكريم

لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ

﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (١٠٢) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَقُودُهَا، يَعْنِي كَقَوْلِهِ: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٦].
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ بِمَعْنَى: شَجَرِ جَهَنَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ يَعْنِي: حَطَبَ جَهَنَّمَ، بِالزِّنْجِيَّةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ: حَطَبُهَا. وَهِيَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ أَيْ: مَا يُرْمَى بِهِ فِيهَا.
وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ. وَالْجَمِيعُ قَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ أَيْ: دَاخِلُونَ.
﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾ يَعْنِي: لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً صَحِيحَةً لَمَا وَرَدُوا النَّارَ، وَلَمَا دَخَلُوهَا، ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أَيِ: الْعَابِدُونَ وَمَعْبُودَاتُهُمْ، كُلُّهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾، كَمَا قَالَ: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ [هُودٍ: ١٠٦]، وَالزَّفِيرُ: خُرُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، وَالشَّهِيقُ: وُلُوجُ أَنْفَاسِهِمْ، ﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسيّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْل، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِي: الْمَسْعُودِيَّ-عَنِ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا بَقِيَ مَنْ يَخْلُدُ فِي النَّارِ، جُعلوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ، فِيهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ يُعَذَّبُ فِي النَّارِ غَيْرُهُ، ثُمَّ تَلَا

صفحة رقم 377

عَبْدُ اللَّهِ: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبّاب (١)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ : قَالَ عِكْرِمَةُ: الرَّحْمَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: السَّعَادَةُ، ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ وَعَذَابَهُمْ بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، عَطَفَ بِذِكْرِ السُّعَدَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ ورسُله (٢)، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ، وَأَسْلَفُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يُونُسَ: ٢٦] : وَقَالَ ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ [الرَّحْمَنِ: ٦٠]، فَكَمَا أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا، أَحْسَنَ اللَّهُ مَآلَهُمْ وَثَوَابَهُمْ، فَنَجَّاهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وحَصَل (٣) لَهُمْ جَزِيلُ الثَّوَابِ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ أَيْ: حَرِيقَهَا فِي الْأَجْسَادِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ (٤)، عَنِ أَبِي عُثْمَانَ: ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾، قَالَ: حَيَّاتٌ عَلَى الصِّرَاطِ (٥) تَلْسَعُهُمْ، فَإِذَا لَسَعَتْهُمْ قَالَ: حَسَ حَسَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ فَسَلَّمَهُمْ مِنَ الْمَحْذُورِ وَالْمَرْهُوبِ، وَحَصَلَ لَهُمُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَحْبُوبُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيج، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عَمِّ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ -وسَمَرَ مَعَ عَلِيٍّ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَرَأَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ، وَعُمَرُ مِنْهُمْ، وَعُثْمَانُ مِنْهُمْ، وَالزُّبَيْرُ مِنْهُمْ، وَطَلْحَةُ مِنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْهُمْ -أَوْ قَالَ: سَعْدٌ مِنْهُمْ-قَالَ: وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ، وَأَظُنُّهُ يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ الْمَكِّيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ (٦) قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ قَالَ: عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ -وَلَيْسَ بِابْنِ مَاهَكَ-عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَهُ وَلَفْظُهُ: عُثْمَانُ مِنْهُمْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ : فَأُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا جِثيًا.

(١) في ت: "ابن حبان".
(٢) في ت: "ورسوله".
(٣) في ت: "وجعل".
(٤) في ت، ف، أ: "عن أبي عثمان الجريري".
(٥) في ت: "على الصراط المستقيم".
(٦) في ت: "خاطب".

صفحة رقم 378

فَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتِ اسْتِثْنَاءً مِنَ الْمَعْبُودِينَ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ، كَمَا قَالَ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ فَيُقَالُ (١) : هُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَعِيسَى، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ (٢).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وعُزَير، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَيْسَرَة، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَير، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَرِيف، عَنِ الْأَصْبَغِ، عَنْ عَليّ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ إِلَّا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾، قَالَ: عِيسَى، وعُزَيْر، وَالْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِيسَى، وَمَرْيَمُ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَأَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ الرُّخَّاني، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُغيث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ قَالَ: عِيسَى، وعُزَير، وَالْمَلَائِكَةُ (٣).
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قِصَّةَ ابْنِ الزِّبَعْرَى ومناظرةَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ الْأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ -يَعْنِي: ابْنَ أَبَانٍ-عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنَزَلَ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾، فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: قَدْ عُبدت الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْمَلَائِكَةُ، وعُزَير وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ مَعَ آلِهَتِنَا؟ فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا (٤) بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾، ثُمَّ نَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾. رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ "الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ".

(١) في ف: "فقال".
(٢) في ت: "وابن ماجه وابن جريج".
(٣) وفي إسناده سعيد بن مسلمة وشيخه ليث بن أبي سليم وهما ضعيفان.
(٤) في ت: "مثلا".

صفحة رقم 379

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا قَبِيصة بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -يَعْنِي: الثَّوْرِيَّ-عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ أَصْحَابِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ قال المشركون: فالملائكة (١)، عُزَير، وَعِيسَى يُعْبَدون مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾، الْآلِهَةُ الَّتِي يُعْبَدُونَ، ﴿وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وَرُوِيَ عَنِ أَبِي كُدَيْنَة، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقَالَ فَنَزَلَتْ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.
وَقَالَ [الْإِمَامُ] (٢) مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ (٣)، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ "السِّيرَةِ": وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -فِيمَا بَلَغَنِي-يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ (٤) غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ، وَتَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾ (٥)، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزبَعْرَى السَّهْمِيُّ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آنِفًا وَلَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ أنَّا وَمَا نَعْبُدُ (٦) مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصمته، فَسَلُوا مُحَمَّدًا: كُلُّ مَا يُعْبَد (٧) مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَده، فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ، مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى، وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ احْتَجَّ وَخَاصَمَ.
فَذُكر ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "كُلُّ مَنْ أحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ (٨) وَمَنْ أمَرَتْهُم (٩) بِعِبَادَتِهِ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ أَيْ: عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبدوا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَاتَّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ، أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٦ -٢٩]، وَنَزَلَ فِيمَا ذُكر مَنْ أَمْرِ عِيسَى، وَأَنَّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وعَجَب الْوَلِيدِ وَمَنْ حَضَره مِنْ حُجَّته وَخُصُومَتِهِ: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ [الزخرف: ٥٧ -٦١]

(١) في ت: "والملائكة".
(٢) زيادة من ف، أ.
(٣) في ت: "ابن بشار".
(٤) في ف: "المجلس".
(٥) في ت، ف: "أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ. لَهُمْ فِيهَا زفير وهم فيها لا يسمعون".
(٦) في ت: "تعبدون".
(٧) في ت: "يعبدون".
(٨) في ت، ف: "الشيطان".
(٩) في ف: "أمرهم".

صفحة رقم 380

أَيْ: مَا وَضَعْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ، فكَفى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ، يَقُولُ: ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٦١] (١).
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ الزِّبَعْرَى خَطَأٌ كَبِيرٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ الَّتِي هِيَ جَمَادٌ لَا تَعْقِلُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا لِعَابِدِيهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ فَكَيْفَ يُورِدُ عَلَى هَذَا الْمَسِيحَ وَالْعُزَيْرَ (٢) وَنَحْوَهُمَا، مِمَّنْ (٣) لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَمْ يَرْضَ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُ. وعَوّل ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ "مَا" لِمَا لَا يَعْقِلُ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَقَدْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ. وَكَانَ يُهَاجِي الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا ثُمَّ قَالَ مُعْتَذِرًا:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ، إِنَّ لِسَانِي... رَاتقٌ مَا فتَقْتُ إذْ أنَا بُورُ...

إذْ أجَاري الشَّيطَانَ فِي سَنَن الغَي وَمَنْ مَالَ مَيْلَه مَثْبُور (٤)
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ﴾ قِيلَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَوْتُ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْفَزَعِ الْأَكْبَرِ: النَّفْخَةُ فِي الصُّورِ. قَالَهُ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سِنَان سَعِيدُ (٥) ابن سِنَانٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَقِيلَ: حِينَ يُؤْمَر بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ. قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
وَقِيلَ: حِينَ تُطبق النَّارُ عَلَى أَهْلِهَا. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَابْنُ جُرَيج.
وَقِيلَ: حِينَ يُذبَح الْمَوْتُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ (٦)، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، يَعْنِي: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، تُبَشِّرُهُمْ يَوْمَ مَعَادِهِمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ: ﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أَيْ: قابلوا (٧) ما يسركم.
(١) السيرة النبوية لابن هشام (١/٣٥٨)، ورواه الطبري في تفسيره (١٧/٧٦).
(٢) في ف: "وعزير".
(٣) في ت: "وممن".
(٤) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (٢/٤١٩).
(٥) في ت، ف، أ: "سعد".
(٦) في ف، أ: "الهمداني".
(٧) في ت: "فأملوا".

صفحة رقم 381
تفسير القرآن العظيم
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي
تحقيق
سامي سلامة
الناشر
دار طيبة للنشر والتوزيع
سنة النشر
1420
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
8
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية