عن أهل الجنة فلا يقرؤون منه شيئا إلا سورة «طه» و «يس» فإنهم يقرؤون بهما في الجنة
، إلى غير ذلك من الآثار.
فخمها (١) على الأصل ابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب وهو إحدى الروايتين عن قالون وورش والرواية الأخرى أنهما فخما الطاء وأمالا الهاء وهو المروي عن أبي عمرو وأمال الحرفين حمزة والكسائي وأبو بكر ولعل إمالة الطاء مع أنها من حروف الاستعلاء والاستعلاء يمنع الإمالة لأنها تسفل لقصد التجانس وهي من الفواتح التي تصدر بها السور الكريمة على إحدى الروايتين عن مجاهد بل قيل: هي كذلك عند جمهور المتقنين، وقال السدي: المعنى يا فلان، وعن ابن عباس في رواية جماعة عنه والحسن وابن جبير وعطاء وعكرمة وهي الرواية الأخرى عن مجاهد أن المعنى يا رجل، واختلفوا فقيل: هو كذلك بالنبطية، وقيل: بالحبشية، وقيل: بالعبرانية، وقيل بالسريانية.
وقيل: بلغة عكل، وقيل: بلغة عك. وروي ذلك عن الكلبي قال: لو قلت في عك: يا رجل لم يجب حتى تقول:- طاها- وأنشد الطبري في ذلك قول متمم بن نويرة:
دعوت بطاها في القتال فلم يجب | فخفت عليه أن يكون موائلا |
إن السفاهة طاها من خلائقكم | لا بارك الله في القوم الملاعين |
طاء فقالوا: في ياطا واختصروا هذا واقتصروا على ها. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه ولم يقل ذلك نحوي. وذكر في البيت الأخير أنه إن صح فطه فيه قسم بالحروف المقطعة أو اسم السورة على أنه شعر إسلامي كقوله «حم لا ينصرون».
وتعقب بأنه احتمال بعيد وهو كذلك في المثال وقد رواه النسائي مرفوعا. ولفظ الخبر إذا لقيكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون وليس في سياقه دليل على ذلك، ويحتمل أن يكون لا ينصرون مستأنفا والشعار التلفظ بحم فقط كأنه قيل: ماذا يكون إذا كان شعارنا ذلك فقيل: لا ينصرون، وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه، وعن أبي جعفر أنه من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأت فرقة منهم أبو حنيفة والحسن وعكرمة وورش «طه» بفتح الطاء وسكون الهاء كبل فقيل: معناه يا رجل أيضا، وقيل: أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه عليه الصلاة والسّلام كما
روي عن الربيع بن أنس كان إذا صلى قام على رجل واحدة فأنزل الله تعالى طه
إلخ،
وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه لما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ١، ٢] قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل عليه السّلام فقال طه الآية
والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء كما قالوا في إياك وارقت ولانك هياك وهرقت ولهنك أو قلبت الهمزة في فعله الماضي والمضارع ألفا كما في قول الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشية | فارعي فزارة لا هناك المرتع |
واعترض بهذا أيضا على تفسيره بيا رجل ونحوه، وقيل: توجيه ذلك على هذا الأصل ويعلم منه توجيه آخر لقراءة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومن معه أن يقال: اكتفى من طأ بطاء متحركة ومن ها الضمير بهاء ثم عبر عنهما باسميهما فها ليست ضميرا بل هي كالقاف في قوله:
قلت لها قفي فقالت قاف واعترض أيضا بأنه كان ينبغي على هذا أن لا تكتب صورة المسمى بل صورة الاسم. وأجيب بأن كتابة الأسماء بصور المسميات أمر مخصوص بحروف التهجي. وتعقب بأن ما ذكر لا يقطع مادة الإيراد إذ لو كان كذلك لانفصل الحرفان في الخط بأن يكتبان هكذا ط هـ. فإن قيل: إن خط المصحف لا ينقاس قيل عليه ما قيل، والحق أن دعوى أن خط المصحف لا ينقاس قوية جدا وما قيل عليها لا يعول عليه، وما صح عن السلف يقبل ولا يقدح فيه عدم موافقة القياس، وإن كانت الموافقة هي الأصل.
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه. والربيع بن أنس أنهما فسرا طه بطأ الأرض بقدميك يا محمد
ولم أقف على طعن في الرواية والله أعلم.
واختلف في إعرابه حسب الاختلاف في المراد منه فهو على ما نقل عن الجمهور من أن المراد منه طائفة من صفحة رقم 465
حروف المعجم مسرودة على نمط التعديد افتتحت بها السورة لا محل له من الإعراب، وكذا ما بعده من قوله تعالى:
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى فإنه استئناف مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى، ومنه المثل أشقى من رائض مهر، وقول الشاعر:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله | وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم |
فجوز فيه أن يكون محله الرفع على الابتداء والجملة بعده خبره، وقد أقيم فيها الظاهر أعني القرآن مقام الضمير الرابط لنكتة وهو أن القرآن رحمة يرتاح لها فكيف ينزل للشقاء، وقيل: الخبر محذوف، وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف. والجملة على القولين مستأنفة. وجوز أن يكون محله النصب على إضمار اتل. وقيل: على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب بفعله مضمرا نحو قوله: إن على الله أن تبايعا وجوز أن يكون محله الجر بتقدير حرف القسم نظير قوله من وجه أشارت كليب بالأكف الأصابع والجملة بعده على تقدير إرادة القسم جواب القسم.
وجوزت هذه الاحتمالات على تقدير أن يكون المراد منه السورة. وأمر ربط الجملة على تقدير ابتدائيته وخبريتها إن كان القرآن خاصا بهذه السورة باعتبار كون تعريفه عهديا حضوريا ظاهر. وإن كان عاما فالربط به لشموله للمبتدأ كما قيل في نحو زيد نعم الرجل.
ومنع بعضهم إرادة السورة مطلقا لاتفاق المصاحف على ذكر سورة في العنوان مضافة إلى طه وحينئذ يكون التركيب كإنسان زيد وقد حكموا بقبحه وفيه بحث لا يكاد يخفى حتى على بهيمة الأنعام، وبعضهم إرادة ذلك على تقدير الأخبار بالجملة بعد قال: لأن نفي كون إنزال القرآن للشقاء يستدعي وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما إذا أريد به التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة، ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إنزال ما أنزل من قبل وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار اتحاد القرآن بالسورة فظاهر، وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال: هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى، ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل اه ولا يخلو عن حسن، وعلى ما روي عن أبي جعفر من أنه من أسمائه صلّى الله عليه وسلّم يكون منادى وحكمه مشهور، والجملة جواب النداء، ومحله على ما أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن الحبر من أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه تباركت أسماؤه النصب أو الجر على ما سمعت آنفا.
وعلى ما
روي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. والربيع يكون جملة فعلية
وقد مر لك تفصيل ذلك، والجملة صفحة رقم 466
بعده مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا كأنه قيل لم أطؤها؟ فقيل: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وقرأ طلحة «ما نزّل عليك القرآن» بتشديد الفعل وبنائه للمفعول وإسناده إلى القرآن إِلَّا تَذْكِرَةً نصب على الاستثناء المنقطع أي ما أنزلناه لشقائك لكن تذكيرا لِمَنْ يَخْشى أي لمن شأنه أن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قليه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف والجار والمجرور متعلق بتذكرة أو بمحذوف صفة لها، وخص الخاشي بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم لتنزيل غيره منزلة العدم فإنه المنتفع به.
وجوز الزمخشري كون «تذكرة» مفعولا له لأنزلنا، وانتصب لاستجماع الشرائط بخلاف المفعول الأول لعدم اتحاد الفاعل فيه، والمشهور عن الجمهور اشتراطه للنصب فلذا جر، ويجوز تعدد العلة بدون عطف وإبدال إذا اختلفت جهة العمل كما هنا لظهور أن الثاني مفعول صريح والأول جار ومجرور، وكذا إذا اتحدت وكانت إحدى العلتين علة للفعل والأخرى علة له بعد تعليله نحو أكرمته لكون غريبا لرجاء الثواب أو كانت العلة الثانية علة للعلة الأولى نحو لا يعذب الله تعالى التائب لمغفرته له لإسلامه فما قيل عليه من أنه لا يجوز تعدد العلة بدون اتباع غير مسلم.
وفي الكشف أن المعنى على هذا الوجه ما أنزلناه عليك لتحتمل مشاقه ومتاعبه إلا ليكون تذكرة، وحاصله أنه نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا، ويرجع المعنى إلى ما أدبتك بالضرب إلا للإشفاق كذلك المعنى هنا ما أشقيناك بإنزال القرآن إلا للتذكرة، وحاصله حسبك ما حملته من متاعب التبليغ ولا تنهك بدنك ففي ذلك بلاغ اه. واعترض القول بجعله نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا بأنه يجب في ذلك أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما في المثال المذكور، وفي قولك: ما شافهته بالسوء ليتأذى إلا زجرا لغيره فإن التأديب في الأول مسبب عن الإشفاق والتأذي في الثاني سبب لزجر الغير وما بين الشقاء والتذكرة تناف ظاهر، ولا يجدي أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان إِلَّا تَذْكِرَةً إلا تكثيرا لثوابك فإن الأجر بقدر التعب كما في الحديث انتهى.
ولعل قائل ذلك يمنع وجوب أن يكون بين العلتين الملابسة المذكورة أو يدعي تحققها بينهما في الآية بناء على أن التذكرة أي التذكير سبب للتعب كما يشعر بذلك قول المدقق في الحاصل الأخير حسبك ما حملته من متاعب التبليغ إلخ، وقد خفي المراد من الآية على هذا الوجه على ابن المنير فقال: إن فيه بعدا لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول وإن لم تكن اللام سببية وكانت للصيرورة مثلا لم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلّى الله عليه وسلّم من نهيه عن الشقاء والحزن على الكفرة وضيق الصدر بهم وكأن مضمون الآية منافيا لقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: ٦] اه، وأنت تعلم بعد الوقوف على المراد أن لا منافاة. نعم بعد هذا الوجه وكون الآية نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا مما يشهد به الذوق، ويجوز أن تكون حالا من الكاف أو الْقُرْآنَ والاستثناء مفرغ، والمصدر مؤول بالصفة أو قصد به المبالغة.
وجوز الحوفي كونها بدلا من الْقُرْآنَ. والزجاج كونها بدلا من محل لِتَشْقى لأن الاستثناء من غير الموجب يجوز فيه الإبدال. وتعقب بأن ذلك إذا كان متصلا بأن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والبدلية حينئذ البدلية البعضية في المشهور، وقيل: بدلية الكل من الكل، ولا يخفى عدم تحقق ذلك بين التذكرة والشقاء. والقول ببدلية الاشتمال في مثل ذلك لتصحيح البدلية هنا بناء على أن التذكرة تشتمل على التعب مما لم يقله أحد من النحاة.
واعتبارها لهذا الاشتمال من جنس الشقاء فكأنها متحدة معه لا يجعل الاستثناء متصلا كما قيل، وقد سمعت اشتراطه، وبالجملة هذا الوجه ليس بالوجيه وقد أنكره أبو علي على الزجاج.
وجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا ولِتَشْقى ظرف مستقر في موضع الصفة للقرآن أي ما أنزلنا القرآن الكائن أو المنزل لتعبك إلا تذكرة، وفيه تقدير المتعلق مقرونا باللام وحذف الموصول مع بعض صلته وقد أباه بعض النحاة، وكون أل حرف تعريف خلاف الظاهر، وقيل: هي نصب على المصدرية لمحذوف أي لكن ذكرناه به تذكرة، وقوله تعالى: تَنْزِيلًا كذلك أي نزل تنزيلا، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها. وقيل: لما تفيده الجملة الاستثنائية فإنها متضمنة لأن يقال: إنا أنزلناه للتذكرة والأول أنسب لما بعده من الالتفات. وقيل: منصوب على المدح والاختصاص.
وقيل: بيخشى على المفعولية. واستبعدهما أبو حيان وعد الثاني في غاية البعد لأن «يخشى» رأس آية فلا يناسب أن يكون تَنْزِيلًا مفعوله. وتعقب أيضا بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود. نعم قد تعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونحوه كما في قوله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: ٦٤].
وأنت تعلم أن المعنى على هذا الوجه إلا تذكرة لمن يخشى المنزل من قادر قاهر وهو مما لا خلل فيه، وأمر عدم المعهودية سهل. وقيل: هو بدل من تَذْكِرَةً بناء على أنها حال من الكاف أو الْقُرْآنَ كما نقل سابقا وهو بدل اشتمال. وتعقبه أبو حيان بأن جعل المصدر حالا لا ينقاس، ومع هذا فيه دغدغة لا تخفى، ولم تجوز البدلية منها على تقدير أن تكون مفعولا له ل. نزلنا لفظا أو معنى لأن البدل هو المقصور فيصير المعنى أنزلناه لأجل التنزيل وفي ذلك تعليل الشيء بنفسه إن كان الإنزال والتنزيل بمعنى بحسب الوضع أو بنوعه إن كان الإنزال عاما والتنزيل مخصوصا بالتدريجي وكلاهما لا يجوز.
وقرأ ابن عبلة «تنزيل» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى متعلق بتنزيل. وجوز أن يكون متعلقا بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبة الإنزال إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى شأنه بحسب الأفعال والصفات إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق تقرير. واحتمال كون أَنْزَلْنا إلخ حكاية لكلام جبرائيل والملائكة النازلين معه عليهم السّلام بعيد غاية البعد.
وتخصيص خلق الأرض والسموات بالذكر مع أن المراد خلقهما بجميع ما يتعلق بهما كما يؤذن به قوله تعالى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية لأصالتهما واستتباعهما لما عداهما، وقيل: المراد بهما ما في جهة السفل وما في جهد العلو، وتقديم خلق الأرض قيل لأنه مقدم في الوجود على خلق السموات السبع كما هو ظاهر آية حم السجدة أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: ٩] الآية. وكذا ظاهر آية [البقرة: ٢٩] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ الآية.
ونقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السموات مقدم، واختاره كثير من المحققين لتقديم السموات على الأرض في معظم الآيات التي ذكرا فيها واقتضاء الحكمة تقديم خلق الأشرف والسماء أشرف من الأرض ذاتا وصفة مع ظاهر آية [النازعات: ٢٧] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها الآية، واختار بعض المحققين أن خلق السموات بمعنى إيجادها بمادتها قبل خلق الأرض وخلقها بمعنى إظهارها بآثارها بعد خلق الأرض وبذلك يجمع بين الآيات التي يتوهم تعارضها، وتقديم السموات في الذكر على الأرض تارة والعكس أخرى بحسب اقتضاء المقام وهو أقرب إلى التحقيق، وعليه وعلى ما قبله فتقديم خلق الأرض هنا قيل لأنه أوفق بالتنزيل الذي هو من أحكام رحمته تعالى كما ينبىء عنه ما بعد وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: ١، ٢] ويرمز إليه ما قبل فإن الانعام على الناس بخلق الأرض أظهر وأتم
وهي أقرب إلى الحس. وقيل: لأنه أوفق بمفتتح السورة بناء على جعل طه جملة فعلية أي طأ الأرض بقدميك أو لقوله تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى بناء على أنه جملة مستأنفة لصرفه صلّى الله عليه وسلّم عما كان عليه من رفع إحدى رجليه عن الأرض في الصلاة كما جاء في سبب النزول، ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا كالكبرى تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى مسوق لتعظيم شأن المنزل عز وجل المستتبع لتعظيم المنزل الداعي إلى استنزال المتمردين عن رتبة العلو والطغيان واستمالتهم إلى التذكر والإيمان.
الرَّحْمنُ رفع على المدح أي هو الرحمن.
وجوز ابن عطية أن يكون بدلا من الضمير المستتر في خَلَقَ وتعقبه أبو حيان فقال: أرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ولا يحل هاهنا لئلا يلزم خلو الصلة من العائد اه، ومنع بعضهم لزوم اطراد الحلول ثم قال: على تسليمه يجوز إقامة الظاهر مقام الضمير العائد كما في قوله:
وأنت الذي في رحمة الله أطمع نعم اعتبار البدلية خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ واللام للعهد والإشارة إلى الموصول وخبره قوله تعالى عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ويقدر هو ويجعل خبرا عنه على احتمال البدلية، وعلى الاحتمال الأول يجعل خبرا بعد خبر لما قدر أولا على ما في البحر وغيره، وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ «الرحمن» بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه صفة لمن. وتعقبه أبو حيان بأن مذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها كمن وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما فعندهم لا يجوز هذا التخريج فالأحسن أن يكون الرَّحْمنُ بدلا من (من) وقد جرى في القرآن مجرى العلم في وقوعه بعد العوامل، وقيل: إن «من» يحتمل أن تكون نكرة موصوفة وجملة خَلَقَ صفتها والرَّحْمنُ صفة بعد صفة وليس ذاك من وصف الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها غاية ما في الباب أن فيه تقديم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو جائز اه وهو كما ترى.
وجملة عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى على هذه القراءة خبر هو مقدرا، والجار والمجرور على كل الاحتمالات متعلق باستوى قدم عليه لمراعاة الفواصل، والْعَرْشِ في اللغة سرير الملك وفي الشرع سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السّلام فوق السموات مثل القبة، ويدل على أن له قوائم ما
أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي فقال النبي عليه الصلاة والسّلام: ادعوه فقال: لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر فقلت: يا خبيث وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فأخذتني غضبة فلطمته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السّلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور
، وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السّلام قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر: ٧].
وما
رواه أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة»
وعلى أنه فوق السموات مثل القبة ما
رواه أبو داود أيضا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فقال رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال:
ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب»
ومن شعر أمية ابن أبي الصلت:
مجدوا الله فهو للمجد أهل | ربنا في السموات أمسى كبيرا |
بالبناء العالي الذي بهر النا | س وسوى فوق السماء سريرا |
شرجعا (١) لا يناله طرف الع | ين ترى حوله الملائك صورا (٢) |
أخرجا في الصحيحين عن جابر أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ»
والفلك التاسع عندهم متحرك دائما بحركة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد باهتزازه استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على أن سياق الحديث ولفظه كما نقل عن أبي الحسن الطبري. وغيره بعيد عن ذلك الاحتمال، وأيضا جاء في صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحارث ما يدل على أنه له زنة هي أثقل الأوزان والفلك عندهم لا ثقيل ولا خفيف، وأيضا العرب لا تفهم منه الفلك والقرآن إنما نزل بما يفهمون.
وقصارى ما يدل عليه خبر أبي داود عن جبير بن مطعم التقبيب وهو لا يستلزم الاستدارة منجميع الجوانب كما في الفلك ولا بد لها من دليل منفصل. ثم إن القوم إلى الآن بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الأفلاك في تسعة ولا على أن التاسع أطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسي على الصحيح
فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض».
وروى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وقد روي مرفوعا
والصواب وقفه على الحبر، وقيل: العرش كناية عن الملك والسلطان. وتعقبه ذلك البعض بأنه تحريف لكلام الله تعالى وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: ١٧] أيقول ويحمل ملكه تعالى يومئذ ثمانية،
وقوله عليه الصلاة والسلام «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش»
أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك وكلا القولين لا يقولهما من له أدنى ذوق، وكذا يقال: أيقول في
«اهتز عرش الرحمن» الحديث
اهتز ملك الرحمن وسلطانه، وفيما
رواه البخاري. وغيره عن أبي هريرة مرفوعا لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي
فهو عنده سبحانه وتعالى فوق الملك والسلطان وهذا كذينك القولين، والاستواء
(٢) جمع أصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو اه منه.
على الشيء جاء بمعنى الارتفاع والعلو عليه وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:
٤٤] ولِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف: ١٣] وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلا عليه تعالى قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء كما في قوله:
قد استوى بشر على العراق وتعقب بأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضا إنما يقال: استولى فلان على كذا إذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضا، وأيضا إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة.
وأجاب الإمام الرازي بأنه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف، وقال الزمخشري: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: جواد ومنه قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ [المائدة: ٦٤] الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط انتهى، وتعقبه الإمام قائلا: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون أيضا: المراد من قوله تعالى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: ١٢] الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله تعالى يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: ٦٩] المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة. وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه انتهى، ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعي لها هناك والداعي للتأويل بما ذكره الزمخشري قوي عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فإن ما اختاره أجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقيا للاستواء كما هو ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازيا كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلا، واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه. الأول أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنيا عنه. الثاني أن المستقر على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعلى في نفسه مؤلفا وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث. الثالث أن المستقر على العرش إما أن يكون متمكنا من الانتقال والحركة ويلزم حينئذ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكنا من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل أسوأ حالا منه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الرابع أنه إن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه، وإن قيل بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم ما لا يقوله عاقل. الخامس أن قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] عام في نفي المماثلة فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ تبطل الآية.
السادس أنه تعالى لو كان مستقرا على العرش لكان محمولا للملائكة لقوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمانِيَةٌ
[الحاقة: ١٧] وحامل حامل الشيء حامل لذلك الشيء وكيف يحمل المخلوق خالقه. السابع أنه لو كان المستقر في المكان إلها ينسد باب القدح في إلهية الشمس والقمر الثامن أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى آخرين وبالعكس فيلزم من إثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه إثبات الجهة المقابلة لها أيضا بالنسبة إلى بعض، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال: المعبود تحت.
التاسع أن الأمة أجمعت على أن قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: ١] من المحكمات وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام فلا يكون سبحانه وتعالى أحدا في الحقيقة فيبطل ذلك المحكم.
العاشر أن الخليل عليه السلام قال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: ٧٦] فلو كان تعالى مستقرا على العرش لكان جسما آفلا أبدا فيندرج تحت عموم هذا القول انتهى. ثم إنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بأنا نقطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به الظاهر بل مراده سبحانه شيء آخر ولكن لا نعين ذلك المراد خوفا من الخطا بأنه عز وجل لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وأنه غير جائز.
وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: ١٩] ولِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: ٤٤] وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وفيه توسط في المسألة.
وقد توسط ابن الهمام في المسايرة وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامي في رد المختار حاشية الدر المحتار توسطا أخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله وجوب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:
فلما علونا واستوينا عليهم | جعلناهم مرعى لنسر وطائر |
ونقل أحمد زروق عن أبي حامد أنه قال: لا خلاف في وجوب التأويل عند تعيين شبهة لا ترتفع إلا به. وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا مع نفي التشبيه والتجسيم منهم الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي ومحمد بن الحسن وسعد بن معاذ المروزي وعبد الله بن المبارك وأب معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري والترمذي وأبو داود السجستاني.
ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ولا يقول فيه برأيه شيئا تبارك الله تعالى رب العالمين. صفحة رقم 472
وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم، وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذي نرتضيه رأيا وندين به عقدا اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة وقد اختاره أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة وهو آخر مصنفاته فيما، قيل: وقال البيضاوي في الطوالع: والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء- يعني المتشابهات- ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى انتهى.
وعلى ذلك جرى محققو الصوفية فقد نقل عن جمع منهم أنهم قالوا: إن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وإذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق خلقه وذلك محال.
وعن الشعراني أن من احتاج إلى التأويل فقد جهل أولا وآخرا أما أولا فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخرا فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه وتعالى.
وفي الدرر المنثورة له أن المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجثماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول الشاعر: قد استوى البيت وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه وتعالى على العرش فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه ويكل معنى كلامه إليه عز وجل.
ونقل الشيخ إبراهيم الكوراني في تنبيه العقول عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الفتوحات أثناء كلام طويل عجب فيه من الأشاعرة والمجسمة: الاستواء حقيقة معقولة معنوية تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهره، والفقير قد رأى في الفتوحات ضمن كلام طويل أيضا في الباب الثالث منها ما نصه ما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: لا ندري كان يكفيهم قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ثم ذكر بعد في الكلام على
قوله صلّى الله عليه وسلّم: الذي رواه مسلم: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف شاء
التخيير بين التفويض لكن بشرط نفي الجارحة ولا بد وتبيين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه، وذكر أن
هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعي مجسم مشبه، وقال أيضا فيما رواه عنه تلميذه المحقق إسماعيل ابن سود كين في شرح التجليات: ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلي كأخبار النزول وغيره لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة وقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام أرسل ليبين للناس ما أنزل إليهم ثم رأيناه صلّى الله عليه وسلّم مع فصاحته وسعة علمه وكشفه لم يقل لنا إنه تنزل رحمته تعالى ومن قال تنزل رحمته فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية والحق ذاته مجهولة فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معنى، والعرب تفهم نسبة النزول مطلقا فلا تقيده بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء يحصل لها المعنى مطلقا منزها وربما يقال لك هذا يحيله العقل فقل الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول فإنه حينئذ تمضي عليه سبحانه وتعالى أحكامها انتهى، وقال تلميذه الشيخ صدر الدين القونوي في مفتاح الغيب بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها أن التغاير بين الذوات يستدعي التغاير في نسبة الأوصاف إليها ما نصه:
وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها عرف سر الآيات والأخبار التي توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتي التأويل والتشبيه وعاين الأمر كما ذكر مع كمال التنزيه انتهى، وخلاصة الكلام في هذا المقام أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة ألفاظ توهم التشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه فضلوا وأضلوا ونكبوا عن سواء السبيل وعدلوا وذهب جمع إلى أنهم هالكون وبربهم كافرون، وذهب آخرون إلى أنهم مبتدعون وفصل بعض فقال: هم كفرة إن قالوا: هو سبحانه وتعالى جسم كسائر الأجسام ومبتدعة إن قالوا: جسم لا كالأجسام وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا إليه وعولوا في عقائدهم عليه فأثبتت طائفة منهم ما ورد كما ورد مع كمال التنزيه المبرأ عن التجسيم والتشبيه فحقيقة الاستواء مثلا المنسوب إليه تعالى شأنه لا يلزمها ما يلزم في الشاهد فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه وتعالى عنه وحمله بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسة له أو انفصال مسافي بينه تعالى وبينه ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا: إنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلا فيه ولا خارجا عنه مع أن البداهة تكاد تقضي ببطلان ذلك بين شيء وشيء صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة. فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل فلا يقبل حكمه إلا فيما كان في طور الفكر فإن القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعاني الجزئية ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم آخر بينه وبين هذه الأشياء مناسبة وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا وبين شيء لا يستنتج من المقدمات التي يرتبها العقل معرفة الحقيقة فأكف الكيف مشلولة وأعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة وأقدام السعي إلى التشبيه مكبلة وأعين الأبصار والبصائر عن الإدراك والإحاطة مسملة:
مرام شط مرمى العقل فيه | ودون مداه بيد لا تبيد |
واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جدا ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم صفحة رقم 474
العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدري معناه، وأيضا قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك،
فقد أخرج أبو نعيم عن الطبراني قال: حدثنا عياش بن تميم حدثنا يحيى بن أيوب المقابري حدثنا سلم بن سالم حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله تعالى يضحك من يأس عباده وقنوطهم وقرب الرحمة منهم» فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أو يضحك ربنا؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليضحك
قلت: فلا يعدمنا خيرا إذا ضحك فإنها رضي الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكه تعالى معنى لم تقل ما قالت.
وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا، ففي صحيح البخاري قال مجاهد: استوى على العرش علا على العرش وقال أبو العالية: استوى على العرش ارتفع، وقيل: إن السلف قسمان قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر، المعرى عن اللوازم وقسم رأوا صحة تعيين ذلك وصحة تعيين معنى آخر لا يستحيل عليه تعالى كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب فقالوا: لا ندري ما معنى ذلك أي المعنى المراد له عز وجل والله تعالى أعلم بمراده.
وذهبت طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفي اللوازم بل المراد معنى معين هو كذا وكثيرا ما يكون ذلك معنى مجازيا وقد يكون معنى حقيقيا للفظ وهؤلاء جماعة من الخلف وقد يتفق لهم تفويض المراد إليه جل وعلا أيضا وذلك إذا تعددت المعاني المجازية أو الحقيقة التي لا يتوهم منها محذور ولم يقم عندهم قرينة ترجح واحدا منها فيقولون: يحتمل اللفظ كذا وكذا والله تعالى أعلم بمراده من ذلك. ومذهب الصوفية على ما ذكره الشيخ إبراهيم الكوراني وغيره إجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم والتنزيه بليس كمثله شيء كمذهب السلف الأول وقولهم بالتجلي في المظاهر على هذا النحو، وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه أولا مع ما ذكره في الفصل الثاني من الباب الثاني من الفتوحات فإنه قال في عد الطوائف المنزهة: وطائفة من المنزهة أيضا وهي العالية وهم أصحابنا فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها وقالوا: حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفة ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر فأشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤولوا بل قالوا: ما فهمنا فقال أصحابنا بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا: لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد منه تعالى حتى يكون الحق سبحانه وتعالى متولي تعليمنا بالكشف والتحقق لما سمعوه تعالى يقول وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: ٢٨٢] وإِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: ٢٩] قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: ٦٥] فعند ما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز وجل ولجأت إليه سبحانه وتعالى وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة فعند ما كان منهم هذا الاستعداد تجلى لهم الحق عيانا معلما فاطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة فعرفوا المعنى التنزيهي الذي سيقت له ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات إيرادها وهذا حال طائفة منا وحال طائفة أخرى منا أيضا ليس لهم هذا التجلي لكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتاب وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم فيخبرون بما خوطبوا به وبما ألهموا وما ألقي إليهم أو كتب اه المراد منه.
ولعل من يقول بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفية طائفة لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء. هذا بقي هل يسمى ما عليه السلف تأويلا أم لا المشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلا وسماه بعضهم تأويلا كالذي عليه الخلف، قال اللقاني: أجمع الخلف ويعبر عنهم بالمؤولة والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيهه تعالى عن المعنى المحال الذي دل عليه الظاهر وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهره المحال وعلى الإيمان به بأنه من عند الله تعالى جاء به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإنما اختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح وعدم تعيينه بناء على أن الوقف على قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: ٧] أو على قوله سبحانه إِلَّا اللَّهُ ويقال لتأويل السلف إجمالي ولتأويل الخلف تفصيلي انتهى ملخصا.
وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول: ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤولة تأويلان، ولعله راجع إلى ما سمعت، وأما ما عليه القائلون بالظواهر مع نفي اللوازم فقد قيل: إن فيه تأويلا أيضا لما فيه من نفي اللوازم وظاهر الألفاظ أنفسها تقتضيها ففيه إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، وإخراج اللفظ عن ذلك لدليل ولو مرجوحا تأويل. ومعنى كونهم قائلين بالظواهر أنهم قائلون بها في الجملة، وقيل: لا تأويل فيه لأنهم يعتبرون اللفظ من حيث نسبته إليه عز شأنه وهو من هذه الحيثية لا يقتضي اللوازم فليس هناك إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، ألا ترى أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على رؤية الله تعالى في الآخرة مع نفي لوازم الرؤية في الشاهد من المقابلة والمسافة المخصوصة وغيرهما مع أنه لم يقل أحد منهم: إن ذلك من التأويل في شيء، وقال بعض الفضلاء: كل من فسر فقد أول وكل من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير فمن عدا المفوضة مؤولة وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بناء على أن الوقف على إِلَّا اللَّهُ ولا يخفى أن القول بأن القائلين بالظواهر مع نفي اللوازم من المؤولة الغير الداخلين في الراسخين في العلم بناء على الوقف المذكور لا يتسنى مع القول بأنهم من السلف الذين هم هم وقد يقال: إنهم داخلون في الراسخين والتأويل بمعنى آخر يظهر بالتتبع والتأمل، وقد تقدم الكلام في المراد بالمتشابهات وذكرنا ما يفهم منه الاختلاف في معنى التأويل وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى الله تعالى مثل قوله سبحانه سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن:
٣١] وقوله عز وجل يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠] كما في بعض القراءات وكذا
قوله صلّى الله عليه وسلّم إن صح: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه»
فاجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته تعالى كما قال السلف في اليمين وأرى من يقول بالظواهر ونفي اللوازم في الجميع بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذي قاله محققو الصوفية مثل ما بين سواد العين وبياضها، وأميل أيضا إلى القول بتقبيب العرش لصحة الحديث في ذلك، والأقرب إلى الدليل العقلي القول بكريته ومن قال بذلك أجاب عن الأخبار السابقة بما لا يخفى على الفطن.
وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من الفتوحات: إنه ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولا أبينها إلى آخر ما قال، ويفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، وصرح بأنه أحد حملته وأنه أنزل عند أفضل القوائم وهي خزانة الرحمة، وذكر أن العمى محيط به وأن صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية، وأطال الكلام في هذا الباب وأتى فيه بالعجب العجاب، وليس له في أكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومنه ما لا يجوز لنا أن نقول بظاهره، والظاهر أن العرش واحد، وقال من قال من الصوفية بتعدده، ولا يخفى ما في نسبة الاستواء إليه
تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا وسبحان من وسعت رحمته كل شيء.
وجعل فاعل الاستواء ما في قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ولَهُ متعلق به على ما يقتضيه ما روي عن ابن عباس من أن الوقف على الْعَرْشِ ويكون المعنى استقام له تعالى كل ذلك وهو على مراده تعالى بتسويته عز وجل إياه كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] أو استوى كل شيء بالنسبة إليه تعالى فلا شيء أقرب إليه سبحانه من شيء كما يشير إليه
«لا تفضلوني على ابن متى»
مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، والرواية عن ابن عباس غير صحيحة، ولعل الذي دعا القائل به إليه الفرار من نسبة الاستواء إليه جل جلاله، ويا ليت شعري ماذا يصنع بقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وهو بظاهره الذي يظن مخالفته لما يقتضيه عقله مثل الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى بل لَهُ خبر مقدم وما فِي السَّماواتِ مبتدأ مؤخر أي له عز وجل وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالا من حيث الملك والتصرف والإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام جميع ما في السموات والأرض سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما وَما بَيْنَهُما من الموجودات الكائنة في الجو دائما كالهواء والسحاب وخلق لا نعلمهم هو سبحانه يعلمهم أو أكثريا كالطير الذي نراه وَما تَحْتَ الثَّرى أي ما تحت الأرض السابعة على ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب، وأخرج عن السدي أنه الصخرة التي تحت الأرض السابعة وهي صخرة خضراء،
وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل ما تحت الأرض؟ قال: الماء قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل:
فما تحت الهواء؟ قال: الثرى قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق.
وأخرج ابن مردويه عنه نحوه من حديث طويل، وقال غير واحد الثرى التراب الندي أو الذي إذا بل لم يصر طينا كالثريا ممدودة، ويقال: في تثنيته ثريان وثروان وفي جمعه أثراء ويقال: ثريت الأرض كرضى تثري ثرى فهي ثرية كغنية وثرياء إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس وأثرت كثر ثراؤها وثرى التربة تثرية بلها والمكان رشه وفلانأ ألزم يده الثرى، وفسر بمطلق التراب أي وله تعالى ما واراه التراب وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير، وإذا كان ما في الأرض ما هو عليها فالأمر ظاهر، وما تقدم من الإشارة إلى أن المراد له تعالى كل ذلك ملكا وتصرفا هو الظاهر.
وقيل: المعنى له علم ذلك أي إن علمه تعالى محيط بجميع ذلك، والأول هو الظاهر وعليه يكون قوله تعالى:
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ إلخ بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان شمول قدرته تعالى لجميع الكائنات، والخطاب على ما قاله في البحر للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته عليه الصلاة والسّلام، وجوز أن يكون عاما أي وإن ترفع صوتك أيها الإنسان بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أي ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع صوتك به وَأَخْفى أي وشيئا أخفى منه وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تنفوه به أصلا، وروي ذلك عن الحسن وعكرمة أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها
وروي ذلك عن سعيد بن جبير وروي عن السيدين الباقر والصادق السر ما أخفيته في نفسك والأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته.
وقيل: أَخْفى فعل ماض عطف على يَعْلَمُ يعني أنه تعالى يعلم أسرار العباد وأخفى ما يعلمه سبحانه عنهم وهو كقوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: ١١٠]، وروي ذلك أبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم وهو خلاف الظاهر جدا فالمعول عليه أنه أفعل تفضيل والتنكير للمبالغة في الخفاء، والمتبادر من القول ما يشمل ذكر الله تعالى وغيره وإليه ذهب بعضهم، وخصه جماعة بذكره سبحانه ودعائه على أن
التعريف للعهد لأن استواء الجهر والسر عنده سبحانه المدلول عليه في الكلام يقتضي أن الجهر المذكور في خطابه عز وجل، وعلى القولين قوله تعالى فَإِنَّهُ إلخ قائم مقام جواب الشرط وليس الجواب في الحقيقة لأن علمه تعالى السر وأخفى ثابت قبل الجهر بالقول وبعده وبدونه.
والأصل عند البعض وإن يجهر بالقول فاعلم أن الله تعالى يعلمه فإنه يعلم السر وأخفى فضلا عنه. وعند الجماعة وإن تجهر فاعلم أن الله سبحانه غني عن جهرك فإنه إلخ، وهذا على ما قيل إرشاد للعباد إلى التحري والاحتياط حين الجهر فإن من علم أن الله تعالى يعلم جهره لم يجهر بسوء، وخص الجهر بذلك لأن أكثر المحاورات ومخاطبات الناس به، وقيل: إرشاد للعباد إلى أن الجهر بذكر الله تعالى ودعائه ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة وغير ذلك، وقيل: نهي عن الجهر بالذكر والدعاء كقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: ٢٠٥] وأنت تعلم أن القول بأن الجهر بالذكر والدعاء منهي لا ينبغي أن يكون على إطلاقه.
والذي نص عليه الإمام النووي في فتاويه أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعيا مشروع مندوب إليه بل هو أفضل من الإخفاء في مذهب الإمام الشافعي وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد وإحدى الروايتين عن الإمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو قول لقاضيخان في فتاويه في ترجمة مسائل كيفية القراءة وقوله في باب غسل الميت: ويكره رفع الصوت بالذكر، فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية لا مطلقا كما تفهمه عبارة البحر الرائق وغيره وهو قول الإمامين في تكبير عيد الفطر كالأضحى، ورواية عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله تعالى عنه بل في مسنده ما ظاهره استحباب الجهر بالذكر مطلقا، نعم قال ابن نجيم في البحر نقلا عن المحقق ابن الهمام في فتح القدير ما نصه قال أبو حنيفة: رفع الصوت بالذكر بدعة مخالفة للأمر من قوله تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الآية فيقتصر على مورد الشرع، وقد ورد به في الأضحى وهو قوله سبحانه وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: ٢٠٣].
وأجاب السيوطي في نتيجة الذكر عن الاستدلال بالآية السابقة بثلاثة أوجه، الأول أنها مكية ولما هاجر صلّى الله عليه وسلّم سقط ذلك، الثاني أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير حملوا الآية على الذكر حال قراءة القرآن وأنه أمر له عليه الصلاة والسّلام بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ [الأعراف: ٢٠٤] الآية، الثالث ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الكامل المكمل وأما غيره عليه الصلاة والسّلام ممن هو محل الوساوس فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيرا في دفعها وفيه ما فيه.
واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلا في المأمور به، فقد صح ما يزيد على عشرين حديثا في أنه صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما كان يجهر بالذكر.
وصح عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون»
وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه لذلك، وما
في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنه
معكم إنه سميع قريب»
محمول على أن النهي المستفاد التزاما من أمر اربعوا الذي بمعنى ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم مراد به النهي عن المبالغة في رفع الصوت، وبتقسيم الجهر واختلاف أقسامه في الحكم يجمع بين الروايتين المختلفتين عن الإمام أبي حنيفة، وما ذكر في الواقعات عن ابن مسعود من أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد لا يصح عند الحفاظ من الأئمة المحدثين، وعلى فرض صحته هو معارض بما يدل على ثبوت الجهر منه رضي الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ أو محمول على الجهر البالغ،
وخبر خير الذكر الخفي وخير الرزق أو العيش ما يكفي
صحيح.
وعزاه الإمام السيوطي إلى الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص، وعزاه أبو الفتح في سلاح المؤمن إلى أبي عوانة في مسنده الصحيح أيضا، وهو محمول على من كان في موضع يخاف فيه الرياء أو الإعجاب أو نحوهما، وقد صح أيضا أنه عليه الصلاة والسّلام جهر بالدعاء وبالمواعظ لكن قال غير واحد من الأجلة: إن إخفاء الدعاء أفضل. وحد الجهر على ما ذكره ابن حجر الهيتمي في المنهج القويم أن يكون بحيث يسمع غيره والاسرار بحيث يسمع نفسه. وعند الحنفية في رواية أدنى الجهر إسماع نفسه وأدنى المخافتة تصحيح الحروف وهو قول الكرخي.
وفي كتاب الإمام محمد إشارة إليه، والأصح كما في المحيط قول الشيخين الهندواني والفضلي وهو الذي عليه الأكثر أن أدنى الجهر إسماع غيره وأدنى المخافتة إسماع نفسه. ومن هنا قال في فتح القدير: إن تصحيح الحروف بلا صوت إيماء إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف إذ الحروف كيفية تعرض للصوت فإذا انتفى الصوت المعروض انتفى الحرف العارض وحيث لا حرف فلا كلام بمعنى المتكلم به فلا قراءة بمعنى التكلم الذي هو فعل اللسان فلا مخافتة عند انتفاء الصوت كما لا جهر انتهى محررا، وقد ألف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمى أولاهما- نشر الزهر في الذكر بالجهر- وثانيتهما- بإتحاف المنيب الأواه بفضل الجهر بذكر الله- رد فيها على بعض أهل القرن التاسع من علماء الحنفية من أعيان دولة ميرزا ألغ بيك بن شاه دخ الكوركاني حيث أطلق القول بكون الجهر بالذكر بدعة محرمة وألف في ذلك رسالة، ولعله يأتي إن شاء الله تعالى زيادة بسط لتحقيق هذه المسألة والله تعالى الموفق.
وقوله سبحانه اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما ذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود الحق أي ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله عز وجل، وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تحقيق للحق وتصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه فإن ما أسند إليه عز شأنه من خلق جميع الموجودات والعلو اللائق بشأنه على جميع المخلوقات والرحمانية والمالكية للعلويات والسفليات والعلم الشامل مما يقتضيه اقتضاء بينا، وقوله تبارك اسمه لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى بيان لكون ما ذكر من الخالقية وغيرها أسماءه تعالى وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى وجاء الاسم بمعنى الصفة ومنه قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: ٣٣] والحسنى تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة، وقيل: تضمنها الإشارة إلى عدم التعدد حقيقة بناء على عدم زيادة صفاته تعالى على ذاته واتحادها معها وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في غاية الظهور، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبره وجملة لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى خبر بعد خبر، وظاهر صنيعه يقتضي اختياره لأنه المتبادر للذهن، ولا يخفى على المتأمل أولية ما تقدم، وقوله تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه
مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء عليهم السّلام كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه السّلام حيث قيل له إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: ١٤] وبه ختم عليه السّلام مقاله حيث قال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [طه: ٩٨] وقيل: مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم كقوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [بناء على ما نقل عن مقاتل في سبب النزول إلا أن الأول تسلية له عليه الصلاة والسّلام برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بأن إخوانه من الأنبياء عليهم السّلام قد عراهم من أممهم ما عراهم وكانت العاقبة لهم وذكر مبدأ نبوة موسى عليه السّلام نظير ما ذكر إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسّلام.
وقيل: مسوق لترغيب النبي صلّى الله عليه وسلّم في الائتساء بموسى عليه السّلام في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ أحكام الرسالة بعد ما خاطبه سبحانه بأنه كلفه التبليغ الشاق بناء على أن معنى قوله تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة فالواو كما قاله غير واحد لعطف القصة على القصة ولا نظر في ذلك إلى تناسبهما خيرا وطلبا بل يشترط التناسب فيما سيقاتله مع أن المعطوف هاهنا قد يؤول بالخبر.
ولا يخفى أن ما تقدم جار على سائر الأوجه والأقوال في الآية السابقة، وسبب نزولها ولا يأباه شيء من ذلك، والاستفهام تقريري، وقيل: هل بمعنى قد وقيل: الاستفهام إنكاري ومعناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى عليه السّلام ونحن الآن مخبروك بها والمعول عليه الأول، والحديث الخبر ويصدق على القليل والكثير ويجمع على أحاديث على غير قياس.
قال الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث، وقال الراغب: الحديث كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه ويكون مصدرا بمعنى التكلم. وحمله بعضهم على هذا هنا بقرينة فَقالَ إلخ، وعلق به قوله تعالى إِذْ رَأى ناراً ولم يجوز تعلقه على تقدير كونه اسما للكلام والخبر لأنه حينئذ كالجوامد لا يعمل، والأظهر أنه اسم لما ذكر لأنه هو المعروف مع أن وصف القصة بالإتيان أولى من وصف التحدث والتكلم به وأمر التعلق سهل فإن الظرف يكفي لتعلقه رائحة الفعل، ولذا نقل الشريف عن بعضهم أن القصة والحديث والخبر والنبأ يجوز إعمالها في الظروف خاصة وإن لم يرد بها المعنى المصدري لتضمن معناها الحصول والكون.
وجوز أن يكون ظرفا لمضمر مؤخر أي حين رأن نارا كان كيت وكيت، وأن يكون مفعولا لمضمر متقدم أي فاذكر وقت رؤيته نارا. روي أن موسى عليه السّلام استأذن شعيبا عليه السّلام في الخروج من مدين إلى مصر لزيارة أمه وأخيه وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره فأذن له وكان عليه السّلام رجلا غيورا فخرج بأهله ولم يصحب رفقة (١) لئلا ترى امرأته وكانت على أتان وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت ومعه غنم له وأخذ عليه السّلام على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ابن في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فبينما هو كذلك إذ رأى نارا على يسار الطريق من جانب الطور فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه السّلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال، والخطاب
قيل: للمرأة والولد والخادم، وقيل: للمرأة وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قول من قال:
وإن شئت حرمت النساء سواكم وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية «لأهله امكثوا» بضم الهاء إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه، ومن ذلك إنسان العين والإنس خلاف الجن، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به، وقيل: هو بمعنى الوجدان، قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وقد راعها القن | اص يوما وقد دنا الإمساء |
وقال أبو البقاء: الجيد أن تكتب بالألف ولا تمال لأن الألف بدل التنوين في القول المحقق، وقد أمالها قوم وفيه ثلاثة أوجه، الأول أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد، الثاني أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شيء في النصب، والثالث أن يكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال انتهى، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعلى على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على النار مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سبويه في مررت بزيد: إنه لصوق بمكان يقرب منه، وقال غير واحد: إن الجار والمجرور في موضع الحال من هُدىً وكان في موضع الصفة له فقدم والتقدير أو أجد هاديا أو ذا هدى مشرفا على النار، والمراد مصطليا بها وعادة المصطلي الدنو من النار والإشراف عليها.
وعن ابن الأنباري أن على هاهنا بمعنى عند أو بمعنى مع أو بمعنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جيء بالظاهر تصريحا بما هو كالعلة لوجدان الهدى إذ النار لا تخلو من أناس عندها، وصدرت الجملة بكلمة الترجي لما أن الإتيان وما عطف عليه ليسا محققي الوقوع بل هما مترقبان متوقعان. وهي على ما في إرشاد العقل السليم إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والأخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم، وإما حال من فاعله أي فاذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية، وقيل: هي صفة لنارا، ومتى جاز جعل جملة الترجي صلة كما في قوله:
وإني لراج نظرة قبل التي | لعلي وإن شطت نواها أزورها |
وأخرج الإمام أحمد في الزهد. وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما صفحة رقم 481
رأى موسى عليه السّلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا فوقف ينظر لا يدري علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق وأوقد إليها بوقد فنالها فاحترقت وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء بأوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال: هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال إن لهذه لشأنا ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بم أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا أشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى عليه السّلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى.
وروي أنه عليه السّلام كان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة وكان ما كان.
وقالوا: النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه السّلام. وقالوا أيضا هي أربعة أنواع: نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا، ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار. ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم. ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه السّلام بل قال بعضهم: إنها لم تكن نارا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه السّلام وليس في أخباره عليه السّلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان وإليه ذهب الماوردي.
وقال سعيد بن جبير هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل واستدل له بما
روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
ذكر ذلك البغوي وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه السّلام حين أتاها نُودِيَ من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الأخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجيء والنداء، وأنت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثل ما ذكر، وزعم أيضا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبأ إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السّلام، وعندنا أن ذلك من الإرهاص الذي ينكره المعتزلة، والظاهر أن القائم مقام فاعل نُودِيَ ضمير موسى عليه السّلام، وقيل: ضمير المصدر أي نودي النداء، وقيل: هو قوله تعالى:
يا مُوسى إلخ وكأن ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وإرادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل: إن الجملة لا تكون فاعلا ولا قائما مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل.
وفي البحر مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين إضمار القول في مثل هذه الآية أي نودي فقيل: يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ولذلك كسرت همزة إن في قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
بفتحها على تقدير حرف الجر أي بأني، والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء. وغيره متعلق بنودي والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي:
ناديت باسم ربيعة بن مكرم | إن المنوه باسمه الموثوق |
وقيل: على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى. واختير أن الكلام على تقدير العلم أي اعلم أني إلخ، وتكرير ضمير المتكلم لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة، واستظهر أن علمه عليه السّلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه، وقيل: بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق، وقيل: بما حصل له من ذلك بعد النداء،
فقد روي أنه عليه السّلام لما نودي يا موسى قال عليه السّلام: من المتكلم؟
فقال: أنا ربك فوسوس إليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه السّلام: أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء،
والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الأعضاء التي من شأنها السماء والتي لم يكن من شأنها، وقيل: الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الأعضاء، وهو المراد بالسماع من جميع الجهات، وأيّا ما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم أر له سندا يعول عليه، وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه السّلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد. والمعتزلة أوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخارق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما بالضرورة لخرج موسى عليه السّلام عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالاتفاق أنه عليه السّلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف.
وقال بعضهم: لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخارق ما هو،
وأخرج أحمد وغيره عن وهب أنه عليه السّلام لما اشتد عليه الهول نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالإنس فقال: لبيك مرارا إني لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت: قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى عليه السّلام علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فأيقن به فقال:
كذلك أنت يا إلهي فكلامك أسمع أم رسولك؟ قال: بل أنا الذي أكلمك،
ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وأنه لا يحصل الإيقان بمجرد سماع ما لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة، ثم إن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه السّلام سمع الكلام اللفظي منه تعالى بلا واسطة ولذا اختص عليه السّلام باسم الكليم وهو مذهب جماعة من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم. وأجابوا عن استلزام اللفظ الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضي بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهي اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعة واحدة كما يشاهد في الحروف المرسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمهم أن يؤولوا قوله تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ إلخ بأن يقولوا: المراد فلما أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك وإلا فمجيء النار حادث والمرتب على الحادث حادث، ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام أن هذا الكلام الذي سمعه موسى عليه السّلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة، وأهل البدعة أجمعوا على أن الكلام اللفظي حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز، وزعم أن الذي سمعه موسى عليه السّلام خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها. صفحة رقم 483
وقال الأشعري: إن الله تعالى أسمع موسى عليه السّلام كلامه النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك، وقد حققه بعضهم بأنه عليه السّلام تلقى ذلك الكلام تلقيا روحانيا كما تتلقى الملائكة عليهم السّلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم أفاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور ألفاظ مخصوصة فصار لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم، ووجه وقوف الشيطان المار في الخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك، ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه السّلام على هيئة المصغي المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى، وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتأمل، واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أزلهما من رجليك والنعل معروفة وهي مؤنثة يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل: بفتح العين أنشد الفراء:
له نعل لا يطبى الكلب ريحها | وإن وضعت بين المجالس شمت |
وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والضحاك والكلبي، وروي كونهما من جلد حمار في حديث غريب.
فقد أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان على موسى عليه السّلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف أي قلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار»
، وعن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج أنهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه السّلام بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس.
وقال الأصم: لأن الحفوة أدخل في التواضع. وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بأفضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار، ولعل الأصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه.
وقال أبو مسلم: لأنه تعالى أمنه من الخوف وأوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه السّلام إنما لبسهما اتقاء من الإنجاس وخوفا من الحشرات، وقيل: المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال. وقيل: من الدنيا والآخرة.
ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به، وغلب على ما ذكر تحقيرا، ولذا أطلق على الزوجة نعل كما في كتب اللغة، ولا يخفى عليك أنه بعيد وإن وجه بما ذكر وهو أليق بباب الإشارة، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه السّلام من موجبات الأمر ودواعيه، وقوله تعالى إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ تعليل لموجب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها. روي أنه عليه السّلام حين أمر خلعهما وألقاهما وراء الوادي طُوىً بضم الطاء غير منون.
وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيصن بكسرها منونا وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون وهو علم لذلك الوادي فيكون بدلا أو عطف بيان، ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل طُوىً المضموم الطاء الغير المنون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم، وقيل: للعلمية والعجمة وقال قطرب: يقال طوى من الليل أي ساعة أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودي فيكون معمولا للمقدس، وفي العجائب للكرماني قيل: هو معرب معناه ليلا وكأنه أراد قول قطرب، وقيل: هو رجل بالعبرانية وكأنه على هذا منادى، وقال الحسن: طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظا ومعنى، وهو عنده معمول للمقدس أيضا أي قدس مرة بعد أخرى، وجوز أن يكون معمولا لنودي أي نودي نداءين، وقال ابن السيد: إنه ما يطوى من جلد الحية ويقال: فعل صفحة رقم 484
الشيء طوى أي مرتين فيكون موضوعا موضع المصدر، وأنشد الطبرسي لعدي بن زيد:
أعاذل إن اللوم في غير كنهه | على طوى من غيك المتردد |
وجوز أبو البقاء أن يكون بتقدير اللام وهو متعلق بما بعده أي لأنا اخترناك فَاسْتَمِعْ وهو كما ترى، والفاء في قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لترتيب الأمر والمأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه السّلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمر به، واللام في قوله سبحانه لِما يُوحى متعلقة باستمع، وجوز أن تكون متعلقة باخترناك، ورده أبو حيان بأنه يكون حينئذ من باب الأعمال ويجب أو يختار حينئذ إعادة الضمير مع الثاني بأن يقال: فاستمع له لما يوحى.
وأجيب بأن المراد جواز تعلقها بكل من الفعلين على البدل لا على أنه من الأعمال. واعترض على هذا بأن قوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا بدل من ما يُوحى ولا ريب في أن اختياره عليه السّلام ليس لهذا فقط والتعلق باخترناك كيفما كان يقتضيه. وأجيب بأنه من باب التنصيص على ما هو الأهم والأصل الأصيل، وقيل: هي سيف خطيب فلا متعلق لها كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: ٧٢] وما موصولة.
وجوز أن تكون مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي، وفي أمره عليه السّلام بالاستماع إشارة إلى عظم ذلك وأنه يقتضي التأهب له، قال أبو الفضل الجوهري: لما قيل لموسى عليه السّلام استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره وأصغى بشراشره.
وقال وهب: أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع لما يحب الله تعالى، وحذف الفاعل في يُوحى للعلم به ويحسنه كونه فاصلة فإنه لو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة، والفاء في قوله تعالى فَاعْبُدْنِي لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به تعالى شأنه من موجبات تخصيص العبادة به عز وجل، والمراد بها غاية التذلل والانقياد له تعالى في جميع ما يكلفه به، وقيل: المراد بها هنا التوحيد كما في قوله سبحانه وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] والأول أولى وَأَقِمِ الصَّلاةَ خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره، وقد سماها الله تعالى إيمانا في قوله سبحانه وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣].
واختلف العلماء في كفر تاركها كسلا كما فصل في محله، وقوله تعالى لِذِكْرِي الظاهر أنه متعلق بأقم أي أقم الصلاة لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار، وروي ذلك عن مجاهد، وقريب منه ما قيل أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، وفرق بينهما بأن المراد بالإقامة على الأول تعديل الأركان، وعلى الثاني الإدامة وجعلت الصلاة في الأول مكانا للذكر ومقره وعلته، وعلى الثاني جعلت إقامة الصلاة أي إدامتها علة لإدامة الذكر كأنه قيل أدم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمك في الذكر كقوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥]. صفحة رقم 485
وجوز أن يكون متعلقا باعبدني أو بأقم على أنه من باب الأعمال أي لتكون ذاكرا لي بالعبادة وإقامة الصلاة، وإذا عمم الذكر ليتناول القلبي والقالبي جاز اعتبار باب الأعمال في الأول أيضا وهو خلاف الظاهر.
وقيل: المراد أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي ولا تقصد بها غرضا آخر كقوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ [الكوثر: ٢] أو لأن أذكرك بالثناء أي لأثني عليك وأثيبك بها أو لذكري إياها في الكتب الإلهية وأمري بها أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلوات فاللام وقتية بمعنى عند مثلها في قوله تعالى يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: ٢٤] وقولك: كان ذلك لخمس ليال خلون، ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها، وروي ذلك عن أبي جعفر، واللام حينئذ وقتية أو تعليلية، والمراد أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل تذكرها والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتي أو يقال: إن ذكر الصلاة سبب لذكر الله تعالى فأطلق المسبب على السبب أو أنه وقع ضمير الله تعالى موقع ضمير الصلاة لشرفها أو أن المراد للذكر الحاصل مني فأضيف الذكر إلى الله عز وجل لهذه الملابسة، والذي حمل القائل على هذا الحمل أنه
ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال: من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها
فإن الله تعالى قال:
أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فظن هذا القائل أنه لو لم يحمل هذا الحمل لم يصح التعليل وهو من بعض الظن فإن التعليل كما في الكشف صحيح والذكر على ما فسر في الوجه الأول وأراد عليه الصلاة والسّلام أنه إذا ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له وهو ذكر الله تعالى فيحمله على إقامتها، وقال بعض المحققين: إنه لما جعل المقصود الأصلي من الصلاة ذكر الله تعالى وهو حاصل مطلوب في كل وقت فإذا فاته الوقت المحدود له ينبغي المبادرة إليه ما أمكنه فهو من إشارة النص لا من منطوقه حتى يحتاج إلى التمحل فافهم.
وإضافة «ذكر» إلى الضمير تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى مفعوله وأن تكون من إضافة المصدر إلى فاعله حسب اختلاف التفسير.
وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء «للذكرى» بلام التعريف وألف التأنيث، وقرأت فرقة «لذكري» بألف التأنيث بغير لام التعريف، وأخرى «للذكر» بالتعريف والتذكير وقوله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة، وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين أَكادُ أُخْفِيها أقرب أن أخفي الساعة ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية ولولا أن في الأخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت، وحاصله أكاد أبالغ في إخفائها فلا أجمل كما لم أفصل، والمقاربة هنا مجاز كما نص عليه أبو حيان أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره وإلى ذلك ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم ومن مجيء كاد بمعنى أراد كما قال ابن جني في المحتسب قوله:
كادت وكدت وتلك خير إرادة | لو عاد من لهو الصبابة ما مضى |
ويؤيده أن في مصحف أبي كذلك، وروى ابن خالويه عنه ذلك بزيادة فكيف أظهركم عليها، وفي بعض القراءات بزيادة فكيف أظهرها لكم، وفي مصحف عبد الله بزيادة فكيف يعلمها مخلوق وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي ومن ذلك قوله:
أيام تصحبني هند وأخبرها | ما كدت أكتمه عني من الخبر |
فإن تدفنوا الداء لا نخفه | وإن توقدوا الحرب لا نقعد |
هممت ولم أفعل وكدت وليتني | تركت على عثمان تبكي حلائله |
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه | فما أن يكاد قرنه يتنفس |
ولا يخفى ما فيه، وقيل: ما موصولة أي بالذي تسعى فيه، وفيه حذف العائد المجرور بالحرف مع فقد شرطه.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون القائل لا يشترط، وقيل: يقدر منصوبا على التوسع فَلا يَصُدَّنَّكَ خطاب لموسى صفحة رقم 487