
مراد الله، فأطبقه عليهم دفعة واحدة، وذلك قوله تعالى، «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» ٧٨ كلمة تهويل لكيفية الفرق الذي أصابهم فعلاهم وغمرهم بأمواجه وزبده الناشئ من شدة تلاطم أمواجه بسبب انهيار المياه بعضها على بعض التي كان الله أوقفها كالجبال الشامخة، حيث شق منها اثنى عشر طريقا لكل سبط طريق كما سيأتي بيانه في الآية ٦٠ فما بعدها من سورة الشعراء الآتية، لذلك، بقي منفرجا على حاله ولم ينطبق شيئا فشيئا. قال تعالى «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» ٧٩ نفسه ولا قومه الصواب وأكذب الله قوله «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» كما سيأتي في الآية ٢٩ من سورة المؤمن من ج ٢، ونجى الله موسى وقومه وصدق له وعده بإهلاك عدوه وإعلاء كلمته، ثم شرع يعدد نعمه على بني إسرائيل فقال «يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» فرعون وقومه الذين استرقوكم وأذلوكم «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» حيث وعد الله موسى أنه يأتيه في ذلك المكان المبارك والبقعة المقدسة لينزل عليه التوراة، وإنما نسب المواعدة إليهم لأن منافعها لهم إذ فيها عزهم وفوزهم وشريعتهم ومعالم دينهم «وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» ٨٠ راجع ماهيتها في الآية ١٦٠ من سورة الأعراف المارة،
وقلنا لهم حينما طلبوا منا في التيه أكلا وشربا «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من لذاته وحلاله واشربوا من الماء الذي انبعته لكم من الصخرة وتظللوا بالغمام الذي سخرناه لكم من دون كسب ولا تعب، ولذلك سماه الله طيبا إذ لم تتطرق اليه الشبهة «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» فتتجاوزوا الحد الذي سننّاه لكم فتبطروا بسبب هذا الرزق الطيب المبارك فتكفروا بنعمته بعدم الشكر والرضاء أو تتقووا فيه على المعاصي فيزول عنكم «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» عقوبتي لعدم تقديركم فضلي «وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» ٨١ في النار وهلك هلاكا لا نجاة بعده «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ» كثير المغفرة كما إني شديد العقوبة على الكافر عظيم العفو «لِمَنْ تابَ» من الشرك والمعاصي «وَآمَنَ» بي وبرسولي وكتابي «وَعَمِلَ صالِحاً» بأداء ما فرضته عليه

والشكر بما أنعمت به عليه «ثُمَّ اهْتَدى» ٨٢ بقي مستقيما على الحق شاكرا للنعم حتى الوفاة، ثم ان موسى عليه السلام أمر قومه بالدوام على عبادة الله وأوصى أخاه هرون بمراقبتهم على النحو المبين في الآية ١٤٣ من سورة الأعراف المارة واختار جماعة من أشراف قومه ليذهب بهم إلى مناجاة ربه وتلقي التوراة الشريفة حسبما أمره بذلك وتقدمهم على أن يأتوا بعده على أثره، ولما وصل وناجاه ربه بقوله «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» ٨٣ وقد اخترتهم بأمرى، وأمرتك أن تأتي بهم معك لأشرفك بكتابي «قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» مقبلين إليك يا رب «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ» فقد مر عليهم يا «رَبِّ لِتَرْضى» ٨٤ عليّ زيادة على رضاك وكان تقدمه عليهم بسائق شدة شوقه إلى مناجاة ربه، وأمرهم أن يتبعوه دون توان، وهذا هو الميقات الأول الذي ذكره في الآية ١٤٣ من سورة الأعراف المارة، ولا ميقات غير هذين، وقال بعض العلماء إن المواقيت أكثر من اثنين وأوصلها بعضهم إلى ستة، ولكن لم أقف على ما يثبت ذلك، لأن المواقيت التي عينها الله لموسى هي عبارة عن ميقات تلقي التوراة وميقات طلب المغفرة عن الذين عبدوا العجل فقط، أما المواقيت التي ناجى بها ربه عفوا فقد تزيد على ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة عند ذكر الآيات التي فيها ذكر الميقات إن شاء الله، وبينما سيدنا موسى ينتظر تشريفه بكلام ربه من أجل التوراة، وقد مضت ايام ولم تأت جماعته الذين اختارهم للحضور معه، إذ باغته ربه بقوله جل قوله «قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ» بسبب استعجالك ذلك «وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» ٨٥ موسى بن ظفر وكان منافقا مظهرا للإسلام، وهو من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة الموجود بقاياهم الآن في جبل نابلس، قيل إنهم أربعون بيتا لم يزيدوا ولم ينقصوا حتى الآن حيث صاغ لهم عجلا وزعم أنه آلهتهم وأمرهم بعبادته راجع كيفية صياغته وإضلالهم به في الآية ١٤٨ من سورة الأعراف المارة، وإضافة الإضلال إلى السامري من قبيل اضافة الأشياء إلى مسبب في الظاهر، أما في الحقيقة فإن الموجد لها في الأصل هو الله تعالى وحده. ثم أمره الله أن يعود إليهم وينقذهم مما هم فيه،
صفحة رقم 213
لأنهم عكفوا على عبادته ولم يصغوا، لقول هرون ونقبائهم، قال تعالى حكاية عن حال موسى عليه السلام بعد أن أنزل عليه التوراة الشريفة وأسمعه ما أسمعه من أمر قومه «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» شديد الغضب على ما فاته من كلام ربه وعلى ما وقع من قومه، وكان حاملا صحف التوراة كما تفيده الآية ١٥١ من سورة الأعراف المارة، ولما وصل «قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً» بإنزال الكتاب عليكم، قيل كانت ألف سورة وكل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا إلا أن ظاهر القرآن يخالفه ويفيد أن موسى حملها، بدليل قوله (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) في الآية المارة وقوله (أَخَذَ الْأَلْواحَ) في الآية ١٥٢ من الأعراف أيضا. ثم قال موبخا صنيعهم «أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ» بمفارقتي حتى فعلتم ما فعلتم، ألم أترك عندكم من تسترشدون به، أعصيتم أمره، واشتد غضبه حتى ألقى الألواح على الأرض، وزاد في تقريعهم فقال «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي» ٨٦ الذي أعطيتمونيه بأنكم تبقون على ديني حتى أرجع من ميقات ربي «قالُوا» الذين عبدوا العجل «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا» باختيارنا لأن السامري غلب على أمرنا بكيده ولو أنا ملكنا أمرنا لما خالفناك، وان الذي يفتن لا يملك نفسه «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً» أثقالا هو الحلي الذي استعرناه «مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» القبط
حين خرجنا من مصر فعدها السامري علينا أوزارا وجمعه منا، وأوقد نارا وألقاه فيها، وبقينا ننتظرك حتى تحضر فنرى رأيك فيه، ولم نعلم ما يكنّه لنا ولا ما يؤول إليه أمر الحلي «فَقَذَفْناها» في تلك النار تبعا لأمره «فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ» ٨٧ ما معه في النار أيضا على زعمنا أن ما ألقاه من الحلي، ولم نعلم أنه من تراب وطء فرس جبريل عليه السلام الذي كان احتفظ به قبلا لهذه الغاية «فَأَخْرَجَ لَهُمْ» للقائلين المذكورين «عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» صراخ وذلك بعد أن صاغ العجل من الحلي وضع فيه ذلك التراب «فَقالُوا» للسامري وجماعة من بني إسرائيل الذين انقادوا إليه «هذا» العجل الذي ظهر لكم من من حلي القبط «إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى»