
«قالَ لا تَخافا» من هذين الأمرين ولا من غيرهما «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ» دعاء كما فأجبيه «وَأَرى» ٤٦ ما يراد بكما إن كان خير فأمضيه وان كان شرا فأمنعه «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» إليك أمرنا أن نقول لك «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» بالأشغال الشاقة كحفر الآبار وقطع الأشجار ونقل الأحجار والخدمة الشاقة وغيرها «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ» عظيمة «مِنْ رَبِّكَ» تثبت صدقنا، وهذا إيذان بأن دعواه الربوبية زور، إذ لا ربّ إلا الله، وتنويه بكذب دعواه إياها أمام قومه، لذلك سكت عن هذه الجهة، لأنه يعرفها، وقال لها ما هي الآية، فأخرج له موسى يده لها شعاع كالشمس، فأعرض عنهما ولم يلق لهما بالا ولم يلتفت لتلك الآية، فقالا له «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» ٤٧ الذي يأتيه من ربه وليس المراد سلام التحية، إذ لا محل له هنا بل سلام المتاركة المار ذكره في الآية ٤٢ من سورة مريم أي الأمن من العذاب في الدارين لمن يهتدي بالهدى ثم قالا له «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا» من قبل الله الذي أرسلنا إليك «أَنَّ الْعَذابَ» في الآخرة «عَلى مَنْ كَذَّبَ» بالله ورسوله وكتبه «وَتَوَلَّى» ٤٨ أعرض عن ذلك «قالَ» فرعون بعد أن رآهما جاهرا بذلك وعلم أن قومه أصغوا لقولهما «فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى» ٤٩ إضافة إليهما لغاية عتوه ونهاية طغيانه. وخص موسى لأنه علم أنه الأصل وهرون تابع له «قالَ رَبُّنَا» ربي ورب أخي وربك ورب الناس أجمع «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجونه من أمر دينهم ودنياهم «ثُمَّ هَدى» ٥٠ كلا
إلى ما يحتاج إليه وما خلق له، وألهم كل واحد كيفية نفعه وقيل أن خلقه بمعنى صلاحه، أي أعطى اليد البطش، والرجل المشي، والعين النظر، والأذن السمع، واللسان النطق، ثم هدى كلا إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح والأخذ والعطاء. وقيل أعطى كل شيء خلقه أي اعطى الرجل زوجة من جنسه، وهكذا كل حيوان، وألهم كلا كيف يأتي زوجته، والأول أولى.
«قالَ فَما بالُ» حال وأصل البال الفكر،

يقال خطر ببالي كذا. أي فكرت به، ثم أطلق على الحال التي يعتريها وهو مفرد لا يثّنى ولا يجمع، وشذّ قولهم بالآت ومن هذا قول بعض الناس عند خروجه من مجلسهم، خاطركم أي أبقوني في بالكم لا تذكروني الّا بخير، أي إذا كنت رسولا وتدعي وجود إله غيري أخبرني عن أحوال «الْقُرُونِ الْأُولى» ٥١ التي كانت تعبد الأصنام وتنكر البعث، لأنا على طريقتهم، وهذا على طريق المحاجّة معهما «قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» لأنه عليه السلام لم يعلم شيئا عن أحوالهم ولم يعلمه ربه أخبارهم والتوراة لم تنزل بعد عليه لذلك رد العلم إلى الله وأكده بقوله إن أخبارهم كلها مدوّنة «فِي كِتابٍ» عند ربي «لا يَضِلُّ رَبِّي» شيئا منها «وَلا يَنْسى» ٥٢ ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونظير هذه الآية في المعنى الآية ٤٥ من سورة الكهف في ج ٢، فهو «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» فراشا ومنه المهد السرير للطفل، فهي مهد الأحياء والأموات «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» طرقا بين الأودية والجبال كما في السهل ليتيسر لكم المشي فيها «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» فيه حياة كل شيء لكمال المنافع. ثم التفت من الخطاب إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ» بذلك الماء «أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» ٥٣ مختلف اللون والطعم والرائحة والشكل والمنفعة «كُلُوا» أيها الناس ما تشهون منها «وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» مما يصلح لها منه «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي ذكرته لكم «لَآياتٍ» عظيمات «لِأُولِي النُّهى» ٥٤ العقول تنهاهم عن عبادة غير الإله الواحد، وعن جحود البعث والنبوة، وتأمرهم بالإيمان بذلك. وسمى العقل نهى لأنه ينهى صاحبه عما يضره مادة ومعنى، وعقلا لأن يعقل صاحبه عما نهى الله ورسوله، وحجى لأن يحاجج به ويدعم حجته لإلزام الخصم، وإدراكا لأن يدرك به الحسن من القبيح والضار من النافع، وحجرا لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في المهالك، والحجر بمعنى المنع.
صفحة رقم 203
مطلب لكل نفس حظ من نشأة آدم، وقبر الإنسان من محل الذرة التي خلق منها:
واعلموا أن هذه الأرض التي فيها منافعكم في الدين «مِنْها خَلَقْناكُمْ» أي خلقنا أصلكم آدم، لأنه من ترابها، أو لأن النطفة من الأغذية والأغذية من الأرض، فيشمل خلقكم منها أيضا أو من ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من البشر له حظ من خلقه، لأن فطرته لم تقتصر عليه فهو أنموذج منطو على فطرة سائر البشر انطواء الجنس على أفراده انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل، فكان خلقه منها خلقا للكل، يشهد عليه قوله تعالى «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» الآية ٩٨ من ج ٢، راجع تفسير الآية ٩ من سورة مريم المارة في هذا البحث.
وقيل إن الله تعالى إذا أراد تكوين النطفة من الرحم أمر الملك الموكل بذلك أن يأخذ ذرة من التراب الذي تدفن فيه فيذرها في النطفة فتخلق منها ومن التراب قال تعالى (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) الآية الأخيرة من سورة لقمان في ج ٢، لأنها لا تدري من أي ذرة من ذرات الأرض تكونت، وقيل في هذا المعنى:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة... دعته إليها حاجة فيطير
وقال الآخر:
مشيناها خطا كتبت علينا... ومن كتبت عليه خطا مشاها
وأرزاق لنا متفرقات... فمن لم تأته منّا أتاها
ومن كانت منيّته بأرض... فليس يموت في أرض سواها
ومن علم أن الله قادر على كل شيء لا يستبعد هذا لأن العقائد لم تقتصر على المحسوسات وليس كل ما يقوله العقل جائزا على الله، تدبر قول ابن الفارض رحمه الله:
واني وان كنت ابن آدم صورة... فلي منه معنى شاهدا بأبوتي
«وَفِيها نُعِيدُكُمْ» نقبركم إذا متم كما أن من تأكله الطيور والوحوش والحيتان ومن يموت حرقا وغرقا تضمه الأرض ايضا لا يفلت منها أحد، لان مصير الكلّ التراب وهو من الأرض حيث تنظم تلك الذرات الطائرة والمأكولة إليها، ثم

يعيدها الله الى جسمها يوم البعث المذكور بقوله تعالى «وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» ٥٥ بعد الموت والاندراس نحييكم للحساب والجزاء، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها» المبينة في الآية ١٠٦ فما بعدها من الأعراف المارة التي أظهرها الله على يد موسى عليه السلام، وما قص عليه من آيات الأنبياء قبله التي أهلك بها أقوامهم بإلهام من الله تعالى بعد ما وقع منه في الآية ٥٢ المارة لأنه لم يكن يعلم شيئا عنها ولم يخبره بها ربه، ودام يدعو فرعون وقومه عشرين سنة ولم ينجع به، حتى أراه آية انفلاق البحر، ولما لم يرتدع أغرقه ومن معه فيه.
مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم:
ولسيدنا موسى آيات أخر مع قومه بني إسرائيل أولها انفلاق البحر الذي نجاهم الله من الغرق فيه وأغرق أعداءهم، ثم ضربه الحجر وانفجاره اثنتي عشرة عينا من الماء ورفع الجبل فوقهم لما أبوا الأخذ بأحكام التوراة والمن والسلوى والغمام في أرض التيه، وإحياء الميت في قضية البقرة، وخسف الأرض بقارون، وآيات أخرى كثيرة نأتي على ذكرها في تفسير الآية ١٠١ من سورة الإسراء الآتية إن شاء الله قال تعالى «فَكَذَّبَ» فرعون ما أريناه من الآيات «وَأَبى» ٥٦ عن الايمان برسولنا وأصر على كفره «قالَ» محاججا لموسى ومنددا به «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى» ٥٧ وتتغلّب على مصر وما فيها، ويكون لك ملكها؟ كلا لا نتابعك «فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ»
ندفع به الذي جئتنا به من اليد والعصا لأن هذا كان بعد إراءته هاتين الآيتين، ولهذا قال «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً» أجلا وميقاتا نتقابل به ونتبارى «لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» ٥٨ غير هذا المكان عدلا سويا كبيرا لا يحجب الناظرين عما يقع فيه ليشهدوا بما يروا فيظهر الأمر للناس كلهم وإذ ذاك يعلم الغالب أنحن أم أنتم فضرب موسى طلبه ورضي بحكمه و «قالَ مَوْعِدُكُمْ» على جهة التعظيم أو لأن الخطاب له ولملأه، والأول أولى بأدب الرسل لأنهم لا يقابلون