
مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَسَمَّاهُمْ كَمَا سَمَّاهُمْ (١) فَاسِقِينَ، فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فَيَسِيرُونَ، لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ (٢) حَجَرًا مُرَبَّعًا، وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثُ (٣) أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْط عَيْنَهُمُ (٤) الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنْهَا، فَلَا يَرْتَحِلُونَ مِنْ مَنْقَلَة إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْحَجَرَ مَعَهُمْ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِالْأَمْسِ.
رَفَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصَدَّقَ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ (٥) هَذَا الْحَدِيثَ، فَأَنْكَرُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِرْعَوْنِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَى مُوسَى أَمْرَ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْشي عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي حَضَرَ ذَلِكَ؟. فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتِيلِ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ؟ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ أَمِ الْفِرْعَوْنِيُّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَفْشَى عَلَيْهِ الْفِرْعَوْنِيُّ، بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَحَضَرَهُ.
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى، وَأَخْرَجَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا (٦) كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ (٧) وَهُوَ مَوْقُوفٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مَرْفُوعٌ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُ، وَكَأَنَّهُ تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٨) مِمَّا أُبِيحَ نَقْلُهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا.
﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ لَبِثَ مُقِيمًا فِي أَهْلِ "مَدْيَنَ" فَارًّا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، يَرْعَى عَلَى صِهْرِهِ، حَتَّى انْتَهَتِ الْمُدَّةُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، ثُمَّ جَاءَ مُوَافِقًا لَقَدَرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ، وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ (٩) تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ الْمُسَيَّرُ عِبَادَهُ وَخَلْقَهُ فِيمَا يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا [مُوسَى] ﴾ (١٠) قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ عَلَى مَوْعِدٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾ قَالَ: عَلَى قدر
(٢) في ف: "أظهرهم".
(٣) في ف: "ثلاثة".
(٤) في أ: "منهم".
(٥) في أ: "حدث".
(٦) في أ: "في تفسيرهما".
(٧) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٣٢٦) وتفسير الطبري (١٦/١٢٥).
(٨) في ف، أ: "عنهما".
(٩) في ف: "له".
(١٠) زيادة من ف، أ.

الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ أَيِ: اصْطَفَيْتُكَ وَاجْتَبَيْتُكَ رَسُولا لِنَفْسِي، أَيْ: كَمَا أُرِيدُ وَأَشَاءُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن سِيرين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فوجدتَه قَدْ كَتَبَ عَليّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فحَجّ آدَمُ مُوسَى" أَخْرَجَاهُ (١).
﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي﴾ أَيْ: بحُجَجي وَبَرَاهِينِي وَمُعْجِزَاتِي، ﴿وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾ قال علي ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تُبْطئا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا تَضْعُفا.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتُرَانِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ، بَلْ يَذْكُرَانِ اللَّهَ فِي حَالِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ، لِيَكُونَ ذكرُ اللَّهِ عَوْنًا لَهُمَا عَلَيْهِ، وَقُوَّةً لَهُمَا وَسُلْطَانًا كَاسِرًا لَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي لَلَّذِي (٢) يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُنَاجِز قِرْنه". (٣)
﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ أَيْ: تَمَرَّدَ وَعَتَا وتَجَهْرم عَلَى اللَّهِ وَعَصَاهُ،
﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّ فِرْعَوْنَ فِي غَايَةِ الْعُتُوِّ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمُوسَى صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ إِذْ ذَاكَ، وَمَعَ هَذَا أُمِرَ أَلَّا يُخَاطِبَ فِرْعَوْنَ إِلَّا بِالْمُلَاطَفَةِ وَاللِّينِ، كَمَا قَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ : يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبه: قُولَا لَهُ: إِنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أقربُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ (٤) عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ أعْذرا إِلَيْهِ، قُولَا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا.
وَقَالَ بقيَّة، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَارُونَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحم، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَة، عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا﴾ قَالَ: كَنِّه.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثوري: كَنّه بأبي مُرَّة.
(٢) في أ: "الذي".
(٣) رواه الترمذي في السنن برقم (٣٥٨٠) من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي "هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوى".
(٤) في أ: "وعن".