وَقْتُ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ. فَإِذَا صُرِفَ إِلَى الْعِبَادَةِ كَانَتْ عَلَى الْأَنْفُسِ أَشَقَّ وَلِلْبَدَنِ أَتْعَبَ فَكَانَتْ أَدْخَلَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ وَالْفَضْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّهَارُ لَهُ طَرَفَانِ فَكَيْفَ قَالَ: وَأَطْرافَ النَّهارِ بَلِ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ كَمَا قَالَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هُودٍ: ١١٤]، وَجَوَابُهُ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فَسَقَطَ السُّؤَالُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ نَهَارٍ وَيَعُودُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكَ تَرْضى فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا:
أَنَّ هَذَا كَمَا يَقُولُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ: يَا فُلَانُ اشْتَغِلْ بِالْخِدْمَةِ فَلَعَلَّكَ تَنْتَفِعُ بِهِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ إِنِّي أُوصِلُكَ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ فِي النِّعْمَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضُّحَى: ٥] وَقَوْلُهُ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الْإِسْرَاءِ: ٧٩]، وَثَانِيهَا: لَعَلَّكَ تَرْضَى مَا تَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ. وَثَالِثُهَا: لَعَلَّكَ تَرْضَى مَا تَنَالُ مِنَ الشَّفَاعَةِ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ: لَعَلَّكَ تَرْضى بِضَمِّ التَّاءِ وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِذَا أَرْضَاهُ فَقَدْ رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣١ الى ١٣٥]
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا يَقُولُونَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَعْدِلَ إِلَى التَّسْبِيحِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ مَدِّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا مَتَّعَ بِهِ الْقَوْمَ فَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَظَرُ الْعَيْنِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا:
مَدُّ النَّظَرِ تَطْوِيلُهُ وَأَنْ لَا يَكَادَ يَرُدَّهُ اسْتِحْسَانًا لِلْمَنْظُورِ إِلَيْهِ إِعْجَابًا بِهِ كَمَا فَعَلَ نَظَّارَةُ قارون حيث قالوا: يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [الْقَصَصِ: ٧٩] حَتَّى وَاجَهَهُمْ أولوا الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِمْ:
وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الْقَصَصِ: ٨٠] وَفِيهِ أَنَّ النَّظَرَ غَيْرَ الْمَمْدُودِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَذَلِكَ كَمَا إِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إِلَى شَيْءٍ مَرَّةً ثُمَّ غَضَّ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ إِلَى الزَّخَارِفِ كَالْمَرْكُوزِ فِي الطِّبَاعِ قِيلَ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أَيْ لَا تَفْعَلْ مَا أَنْتَ مُعْتَادٌ لَهُ. وَلَقَدْ شَدَّدَ الْمُتَّقُونَ فِي وُجُوبِ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ أَبْنِيَةِ الظَّلَمَةِ وَعُدَدِ الْفَسَقَةِ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَرْكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِعُيُونِ النَّظَّارَةِ، فَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا مُحَصِّلٌ لِغَرَضِهِمْ وَكَالْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى اتِّخَاذِهَا. الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لَيْسَ هُوَ النَّظَرَ، بَلْ هُوَ الْأَسَفُ أَيْ لَا تَأْسَفْ عَلَى مَا فَاتَكَ مِمَّا نَالُوهُ مِنْ حَظِّ الدُّنْيَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: «نَزَلَ ضَيْفٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَنِي إِلَى يَهُودِيٍّ لِبَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ، فَقَالَ: واللَّه لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا بِرَهْنٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَذْهَبَ بِدِرْعِهِ إِلَيْهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ»
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَإِلَى أَعْمَالِكُمْ»
وَقَالَ أَبُو
الدَّرْدَاءِ: الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ/ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: لَوْلَا حُمْقُ النَّاسِ لَخَرِبَتِ الدُّنْيَا. وَعَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا الدُّنْيَا رَبًّا فَتَتَّخِذَكُمْ لَهَا عَبِيدًا، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مَا عِنْدَ السَّلَاطِينِ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمُ اللَّه، أَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ [أَيْ] أَلْذَذْنَا بِهِ، وَالْإِمْتَاعُ الْإِلْذَاذُ بِمَا يُدْرَكُ مِنَ الْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ وَيُسْمَعُ مِنَ الْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ وَيُشَمُّ مِنَ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكَحِ، يُقَالُ أَمْتَعَهُ إِمْتَاعًا وَمَتَّعَهُ تَمْتِيعًا وَالتَّفْعِيلُ يَقْتَضِي التَّكْثِيرَ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَزْواجاً مِنْهُمْ أَيْ أَشْكَالًا وَأَشْبَاهًا مِنَ الْكُفَّارِ وَهِيَ مِنَ الْمُزَاوَجَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَهِيَ الْمُشَاكَلَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَشْكَالٌ فِي الذَّهَابِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَصْنَافًا مِنْهُمْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ: رِجَالًا مِنْهُمْ، أَمَّا قَوْلُهُ: زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَفِي انْتِصَابِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: عَلَى الذَّمِّ وَهُوَ النَّصْبُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ عَلَى تَضْمِينِ مَتَّعْنَا مَعْنَى أَعْطَيْنَا وَكَوْنِهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَهُ أَوْ عَلَى إِبْدَالِهِ مِنْ مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ أَوْ عَلَى إِبْدَالِهِ مِنْ أَزْوَاجًا عَلَى تَقْدِيرِ ذَوِي، فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى الزَّهْرَةِ فِيمَنْ حَرَّكَ قُلْنَا مَعْنَى الزَّهْرَةِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الزِّينَةُ وَالْبَهْجَةُ كَمَا جَاءَ فِي الْجَهْرَةِ. قُرِئَ: أَرِنَا اللَّه جَهْرَةً، وَأَنْ يَكُونَ جَمْعُ زَاهِرٍ وَصْفًا لَهُمْ بِأَنَّهُمْ زَهْرَةُ هَذِهِ الدُّنْيَا لِصَفَاءِ أَلْوَانِهِمْ وَتَهَلُّلِ وُجُوهِهِمْ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الصُّلَحَاءُ مِنْ شُحُوبِ الْأَلْوَانِ وَالتَّقَشُّفِ فِي الثِّيَابِ، أَمَّا قَوْلُهُ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: لِنُعَذِّبَهُمْ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التَّوْبَةِ: ٥٥]. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا:
إِضْلَالًا مِنِّي لَهُمْ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الدُّنْيَا عِنْدَ حُضُورِهَا وَالْإِقْبَالَ إِلَى اللَّه أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ حُضُورِهَا وَلِذَلِكَ كَانَ رُجُوعُ الْفُقَرَاءِ إِلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَضَرُّعِ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِأَنَّ عَلَى مَنْ أوتي الدنيا ضروبا من التكاليف لَوْلَاهَا لَمَا لَزِمَتْهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفُ وَلِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَعَاصِي يَكُونُ الِاجْتِنَابُ عَنِ الْمَعَاصِي أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْعَاجِزِ الْفَقِيرِ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي الدُّنْيَا تَشْدِيدًا فِي التَّكْلِيفِ ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهِ: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَطْلُوبَكَ الَّذِي تَجِدُهُ مِنَ الثَّوَابِ خَيْرٌ مِنْ مَطْلُوبِهِمْ وَأَبْقَى، لِأَنَّهُ يَدُومُ وَلَا يَنْقَطِعُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ مَا أوتوه من مِنَ الدُّنْيَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُوتِيتَهُ مِنْ يَسِيرِ الدُّنْيَا إِذَا قَرَنْتَهُ بِالطَّاعَةِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حَيْثُ الْعَاقِبَةِ وَأَبْقَى، فَذَكَرَ الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا وَوَصَفَهُ بِحُسْنِ عَاقَبَتِهِ إِذَا رَضِيَ بِهِ وَصَبَرَ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا أُعْطِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَقَارِبِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ أَهْلِ دِينِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ [مَرْيَمَ: ٥٥] وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَنْ يَضُمُّهُ الْمَسْكَنُ إِذِ التَّنْبِيهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْأَمْرُ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا مُمْكِنٌ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ الْأُمَّةِ يَعْنَى كَمَا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَأْمُرْ أَنْتَ قَوْمَكَ بِهَا، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَالْمُرَادُ كَمَا تَأْمُرُهُمْ فَحَافِظْ عَلَيْهَا فِعْلًا، فَإِنَّ الْوَعْظَ بِلِسَانِ الْفِعْلِ أَتَمُّ مِنْهُ بِلِسَانِ الْقَوْلِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّه/ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ يَذْهَبُ إِلَى فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كُلَّ صَبَاحٍ وَيَقُولُ: «الصَّلَاةَ» وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَشْهُرًا،
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ لِمَنَافِعِهِمْ وَأَنَّهُ مُتَعَالٍ عَنِ الْمَنَافِعِ بِقَوْلِهِ: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُرِيدُ مِنْهُ وَمِنْهُمُ الْعِبَادَةُ وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ كَمَا تُرِيدُ السَّادَةُ مِنَ الْعَبِيدِ الْخَرَاجَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦، ٥٧]. وَثَانِيهَا: لَا نَسْئَلُكَ رِزْقاً لِنَفْسِكَ وَلَا لِأَهْلِكَ بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَنَرْزُقُ أَهْلَكَ، فَفَرِّغْ بَالَكَ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفِي معناه قول
النَّاسِ: مَنْ كَانَ فِي عَمَلِ اللَّه كَانَ اللَّه فِي عَمَلِهِ. وَثَالِثُهَا: الْمَعْنَى أَنَّا لَمَّا أَمَرْنَاكَ بِالصَّلَاةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّا نَنْتَفِعُ بِصَلَاتِكَ. فعبر عن هذا المعنى بقوله: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً بَلْ نَحْنُ نَرْزُقُكَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهِ النِّعَمِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالثَّوَابِ،
قَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ سَلَامٍ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ بِأَهْلِهِ ضِيقٌ أَوْ شِدَّةٌ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ»
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ التَّكَسُّبِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي وَصْفِ الْمُتَّقِينَ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النُّورِ: ٣٧]، أَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى فَالْمُرَادُ وَالْعَاقِبَةُ الْجَمِيلَةُ لِأَهْلِ التَّقْوَى يَعْنِي تَقْوَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ حَكَى عَنْهُمْ شُبْهَتَهُمْ، فَكَأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: ١٣٠] وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أُوهِمُوا بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمُ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ آيَةٍ، وَقَالُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٥] وَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ ما في القرآن إذ وَافَقَ مَا فِي كُتُبِهِمْ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالدِّرَاسَةِ وَالتَّعَلُّمِ وَمَا رَأَى أُسْتَاذًا الْبَتَّةَ كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. وَثَانِيهَا: أَنَّ بَيِّنَةَ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى مَا فِيهَا مِنَ الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِنَبُّوتِهِ وَبَعْثَتِهِ. وَثَالِثُهَا: ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْقَفَّالُ [أَنَّ] الْمَعْنَى: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الْآيَاتِ وَكَفَرُوا بِهَا كَيْفَ عَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فَمَاذَا يُؤَمِّنُهُمْ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ فِي سُؤَالِ الْآيَاتِ كَحَالِ أُولَئِكَ، وَإِنَّمَا أَتَاهُمْ هَذَا الْبَيَانُ فِي الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ: بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبُرْهَانِ وَالدَّلِيلِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَاحَ لَهُمْ كُلَّ عُذْرٍ وَعِلَّةٍ فِي التَّكْلِيفِ، فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا وَالْمُرَادُ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فَيَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ، فَأَمَّا الْآنُ وَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ وَبَيَّنَّا عَلَى لِسَانِكَ لَهُمْ مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ فَلَا حُجَّةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. ومعنى: مِنْ قَبْلِهِ يَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ إِرْسَالِهِ وَيَحْتَمِلُ مِنْ قَبْلِ مَا أَظْهَرَهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ فَإِنْ قِيلَ فَمَا معنى قوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ...
لَقالُوا [طه: ١٣٤] وَالْهَالِكُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ قُلْنَا الْمَعْنَى لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ:
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ،
رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَحْتَجُّ عَلَى اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ يَقُولُ لَمْ يَأْتِنِي رَسُولٌ وَإِلَّا كُنْتُ أَطْوَعَ خَلْقِكَ لَكَ. وَتَلَا قَوْلَهُ: لَوْلا/ أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا
وَالْمَغْلُوبُ عَلَى عَقْلِهِ يَقُولُ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَنْتُفِعُ بِهِ، وَيَقُولُ الصَّبِيُّ: كُنْتُ صَغِيرًا لَا أَعْقِلُ فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوهَا فَيَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ شَقِيٌّ وَيَبْقَى مَنْ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ سَعِيدٌ، فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ: «عَصَيْتُمُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ بِرُسُلِي لَوْ أَتَوْكُمْ»
وَالْقَاضِي طَعَنَ فِي الْخَبَرِ وَقَالَ: لَا يَحْسُنُ الْعِقَابُ عَلَى مَنْ لَا يَعْقِلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ اللُّطْفِ إِذِ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ بِالْمُكَلَّفِينَ مَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا هَلَّا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَا لِنُؤْمِنَ؟ وَهَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتْبَعَ آيَاتِكَ؟ وإن كان في الْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ، فَصَحَّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ إِذَا أَطَاعُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ قَوْلُهُ: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ الِاحْتِجَاجَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُهُ: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] كَمَا ظَنَّهُ أَهْلُ الْجَبْرِ مِنْ أَنَّ مَا هُوَ جَوْرٌ مِنَّا
يَكُونُ عَدْلًا مِنْهُ بَلْ تَأْوِيلُهُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَّا الْعَدْلُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ الْحُجَّةَ فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ لَكَانَ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ حُجَّةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالشَّرْعِ إِذْ لَوْ تَحَقَّقَ الْعِقَابُ قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ لَكَانَ الْعِقَابُ حَاصِلًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرْعِ.
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَتَمَ السُّورَةَ بِضَرْبٍ مِنَ الْوَعِيدِ فَقَالَ: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أَيْ كُلٌّ مِنَّا وَمِنْكُمْ مُنْتَظِرٌ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ وَهَذَا الِانْتِظَارُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْمَوْتِ، إِمَّا بِسَبَبِ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ أَوْ بِسَبَبِ ظُهُورِ الدَّوْلَةِ وَالْقُوَّةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَوْتِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَنْتَظِرُ مَوْتَ صَاحِبِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ ظُهُورُ أَمْرِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَإِنَّهُ يَتَمَيَّزُ فِي الْآخِرَةِ الْمُحِقُّ مِنَ الْمُبْطِلِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْمُحِقِّ مِنْ أَنْوَاعِ كَرَامَةِ اللَّه تَعَالَى، وَعَلَى الْمُبْطِلِ مِنْ أَنْوَاعِ إِهَانَتِهِ فَسَتَعْلَمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ وَالتَّرْدِيدِ، بَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ والزجر للكفار، واللَّه أعلم.