آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَأَنَّكَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَوَجْهُ الْفَتْحِ الْعَطْفُ عَلَى أَنْ لَا تَجُوعَ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَنْ لَا تَدْخُلُ عَلَى أَنَّ فَلَا يُقَالُ أَنْ أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَالْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنَّ وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا فَلِمَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا: الْوَاوُ لَمْ تُوضَعْ لِتَكُونَ أَبَدًا نَائِبَةً عَنْ أَنَّ، إِنَّمَا هِيَ نَائِبَةٌ عَنْ كُلِّ عَامِلٍ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ حَرْفًا مَوْضُوعًا لِلتَّحْقِيقِ خَاصَّةً كَانَ لَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا كَمَا امْتَنَعَ اجْتِمَاعُ أَنْ وَأَنَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشِّبَعُ وَالرِّيُّ وَالْكُسْوَةُ وَالِاكْتِنَانُ فِي الظِّلِّ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا أَمْرُ الْإِنْسَانِ.
فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْكَسْبِ وَالطَّلَبِ وَذَكَرَهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِأَضْدَادِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ وَالْعُرْيُ وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى لِيَطْرُقَ سَمْعُهُ شَيْئًا مِنْ أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا حَتَّى يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يُوقِعُهُ فِيهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا تَفْسِيرُ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قوله:
فَتَشْقى.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ عَظَّمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ شِدَّةَ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ وَأَنَّهُ لِعَدَاوَتِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي إِذَا وَقَعَتْ زَالَتْ تِلْكَ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اتَّفَقَ مِنْهُ وَمِنْ حَوَّاءَ الْإِقْدَامُ عَلَى الزَّلَّةِ مَا اتَّفَقَ، وَالْعَجَبُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَوُضِعَ حُلْمُ آدَمَ فِي الْأُخْرَى لَرَجَحَ حُلْمُهُ بِأَحْلَامِهِمْ» وَلَكِنَّ الْمُكَادَحَةَ مَعَ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنَعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ وَاقِعَةَ آدَمَ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى رَغَّبَهُ فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ وَانْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٧- ١١٩] وَرَغَّبَهُ إِبْلِيسُ أَيْضًا فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَفِي انْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَكَانَ الشَّيْءُ الَّذِي رَغَّبَ اللَّه آدَمَ فِيهِ هُوَ الَّذِي رَغَّبَهُ إِبْلِيسُ فِيهِ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَإِبْلِيسَ وَقَّفَهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ وَمُرَبِّيهِ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوُّهُ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلَّعْنَةِ بِسَبَبِ عَدَاوَتِهِ، كَيْفَ قَبِلَ فِي الْوَاقِعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَقْصُودِ الْوَاحِدِ قَوْلَ إِبْلِيسَ مَعَ عِلْمِهِ بِكَمَالِ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ وَالْمُرَبِّي. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ طَالَ تَعَجُّبُهُ وَعَرَفَ آخِرِ الْأَمْرِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَاءِ اللَّه وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَيْفَ وَسْوَسَ، وَبِمَاذَا وَسْوَسَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَدَّى وَسْوَسَ تَارَةً بِاللَّامِ فِي قوله:
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الأعراف: ٢٠] وأخرى بإلى؟ قلنا قوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا مَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ وَقَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ كَقَوْلِهِ حَدَّثَ لَهُ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ بِتَطْمِيعِهِ في أمرين:

صفحة رقم 107

أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أَضَافَ الشَّجَرَةَ إِلَى الْخُلْدِ وَهُوَ الْخُلُودُ لِأَنَّ مَنْ أَكَلَ مِنْهَا صَارَ مُخَلَّدًا بِزَعْمِهِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَمُلْكٍ لَا يَبْلى أَيْ مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ دَامَ مُلْكُهُ، قَالَ الْقَاضِي: لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ آدَمَ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ بَلْ لَوَ وُجِدَتْ هَذِهِ الْوَسْوَسَةُ حَالَ كَوْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا لَاسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَحْصُلَ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَحَالِ الْمُجَازَاةِ فَتْرَةٌ بِالْمَوْتِ، وَبِالْمَعْنَى فَآدَمُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا امْتَنَعَ أَنْ لَا يَعْلَمَ ذَلِكَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ هَذِهِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ حَالِ التَّكْلِيفِ وَحَالِ الْمُجَازَاةِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْفَتْرَةِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَيَكْفِي حُصُولُ الْفَتْرَةِ بِغَشْيٍ أَوْ نَوْمٍ خَفِيفٍ. ثُمَّ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الْفَتْرَةِ بِالْمَوْتِ فَلِمَ قُلْتَ: النَّبِيُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ، أَلَيْسَ قَوْمٌ مِنْكُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا سَأَلَ الرُّؤْيَةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْرِفُ امْتِنَاعَهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ الْجَهْلُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ هَذَا الْجَهْلُ، ثُمَّ مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آدَمَ كَانَ نَبِيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ وَاقِعَةَ الزَّلَّةِ إِنَّمَا حَصَلَتْ قَبْلَ رِسَالَتِهِ لَا بَعْدَهَا، / ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِ الْوَسْوَسَةِ فَأَكَلَا مِنْهَا، وَهَذَا التَّرْتِيبُ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ كَقَوْلِهِمْ: «زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» «وَسَهَا رَسُولُ اللَّه فَسَجَدَ» فَإِنَّ هَذِهِ الْفَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ كَالْمُسَبَّبِ لِلزِّنَا وَالسُّجُودَ كَالْمُسَبَّبِ لِلسَّهْوِ فَكَذَلِكَ هاهنا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ كَالْمُعَلَّلِ بِاسْتِمَاعِ قَوْلُهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا التَّعْلِيلُ لَوْ قَبِلَ آدَمُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَوْ رَدَّ قَوْلَهُ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبِلَ ذَلِكَ مِنْ إِبْلِيسَ ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُمَا لَمَّا أَكَلَا بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَرِيَا مِنَ النُّورِ الَّذِي كَانَ اللَّه أَلْبَسَهُمَا حَتَّى بَدَتْ فُرُوجُهُمَا وَإِنَّمَا جَمَعَ فَقِيلَ سَوْآتُهُمَا كَمَا قَالَ: صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] فَإِنْ قِيلَ: هَلْ كَانَ ظُهُورُ سَوْآتِهِمَا كَالْجَزَاءِ عَلَى مَعْصِيَتِهِمَا، قُلْنَا: لَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ كَالْمُعَلَّقِ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ عِقَابًا عَلَيْهِ، بَلْ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى أَمَّا قَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : طَفِقَ يَفْعَلُ كَذَا مِثْلُ جَعَلَ يَفْعَلُ وَأَخَذَ وَأَنْشَأَ وَحُكْمُهَا حُكْمُ كَادَ فِي وُقُوعِ الْخَبَرِ فِعْلًا مُضَارِعًا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مَسَافَةٌ قَصِيرَةٌ، وَهِيَ لِلشُّرُوعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَكَادَ لِمُقَارَبَتِهِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قُرِئَ يَخِصِّفَانِ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّكْرِيرِ مِنْ خَصَفَ النَّعْلَ، وَهُوَ أَنْ يَخْرِزَ عَلَيْهَا الْخِصَافَ أَيْ يُلْزِقَانِ الْوَرَقَةَ عَلَى سَوْآتِهِمَا لِلسَّتْرِ وَهُوَ وَرَقُ التِّينِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَذَا فِي صُدُورِ الْكَبِيرَةِ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَاصِيَ اسْمٌ لِلذَّمِّ فَلَا يَنْطَلِقُ إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها [النِّسَاءِ: ١٤] وَلَا مَعْنَى لِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْغَوَايَةَ وَالضَّلَالَةَ اسْمَانِ مُتَرَادِفَانِ وَالْغَيَّ ضِدُّ الرُّشْدِ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا الْفَاسِقَ الْمُنْهَمِكَ فِي فِسْقِهِ. أَجَابَ قَوْمٌ عَنِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَقَالُوا: الْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالْأَمْرُ قَدْ يَكُونُ بِالْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَشَرْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ فِي كَذَا فَعَصَانِي، وَأَمَرْتُهُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فَعَصَانِي، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ لَا لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ بَلْ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْمَنْدُوبِ، فَأَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَاصِيَ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقَابِ وَالْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ ذَمٍّ فَوَجَبَ تَخْصِيصُ اسْمِ الْعَاصِي بِتَارِكِ الْوَاجِبِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَارِكُ الْمَنْدُوبِ عَاصِيًا لَوَجَبَ وَصْفُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ فِي كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبِ، فَإِنْ قِيلَ: وصف

صفحة رقم 108

تَارِكِ الْمَنْدُوبِ بِأَنَّهُ عَاصٍ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا يَطَّرِدُ، قُلْنَا: لَمَّا سَلَّمْتَ كَوْنَهُ مَجَازًا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَشَرْتُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ وَلَدِهِ فِي كَذَا فَعَصَانِي وَأَمَرْتُهُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فَعَصَانِي قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْلِقُونَ ذَلِكَ إِذَا جَزَمُوا عَلَى الْمُسْتَشِيرِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ/ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْنَى الْإِيجَابِ، حَاصِلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْوُجُوبُ حَاصِلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْعِصْيَانِ لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِيجَابِ، لَكِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ مِنَ اللَّه تَعَالَى يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعِصْيَانِ عَلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ سَلَّمَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ لَكِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ كَانَتْ مِنَ الصَّغَائِرِ لَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اسْمَ الْعَاصِي اسْمٌ لِلذَّمِّ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالصَّغِيرَةِ، وَأَجَابَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِأَنَّهُ عَصَى فِي مَصَالِحَ الدُّنْيَا لَا فِيمَا يَتَّصِلُ بِالتَّكَالِيفِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي غَوَى، وَهَذَا أَيْضًا بِعِيدٌ لِأَنَّ مَصَالِحَ الدُّنْيَا تَكُونُ مُبَاحَةً، وَمَنْ يَفْعَلُهَا لَا يُوصَفُ بِالْعِصْيَانِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلذَّمِّ وَلَا يُقَالُ: (فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ) وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَغَوى فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ خَابَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِيَصِيرَ مُلْكُهُ دَائِمًا ثُمَّ لَمَّا أَكَلَ زَالَ فَلَمَّا خَابَ سَعْيُهُ وَمَا نَجَحَ قِيلَ إِنَّهُ غَوَى، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْغَيَّ ضِدُّ الرُّشْدِ، وَالرُّشْدُ هُوَ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِشَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ يُوَصِّلُ إِلَى الْمَقْصُودِ فَمَنْ تَوَصَّلَ بِشَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فَحَصَلَ لَهُ ضِدُّ مَقْصُودِهِ كَانَ ذَلِكَ غَيًّا. وَثَانِيهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ:
غَوَى أَيْ بَشِمَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا وَإِنْ صح على لغة من يقلب الياء المكسورة مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، فَيَقُولُ فِي فَنِيَ وَبَقِيَ فنا وبقا، وهم بنو طيء فَهُوَ تَفْسِيرٌ خَبِيثٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْلَى عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ وَالْأَحْسَمَ لِلشَّغَبِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَقَدْ شَرَحْنَا ذلك في سورة البقرة. وهاهنا بَحْثٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ عَصَى وَغَوَى لَكِنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ آدَمَ كَانَ عَاصِيًا غَاوِيًا، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَالَ الْعُتْبِيُّ: يُقَالُ لِرَجُلٍ قَطَعَ ثَوْبًا وَخَاطَهُ قَدْ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ، وَلَا يُقَالُ:
خَائِطٌ وَلَا خَيَّاطٌ حَتَّى يَكُونَ مُعَاوِدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مَعْرُوفًا بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الزَّلَّةَ لَمْ تَصْدُرْ عَنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لَمْ يَجُزْ بَعْدَ أَنْ قَبِلَ اللَّه تَوْبَتَهُ وَشَرَّفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، إِطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْكُفْرِ إِنَّهُ كَافِرٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا، بَلْ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْوَاقِعَةُ وَقَعَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَابَ عَنْهَا، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ أَوْ زَنَى ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ لَا يُقَالُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّهُ شَارِبُ خَمْرٍ أو زان فكذا هاهنا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ قَوْلَنَا: عَاصٍ وَغَاوٍ يُوهِمُ كَوْنَهُ عَاصِيًا فِي أَكْثَرِ الْأَشْيَاءِ وَغَاوِيًا عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى وَلَمْ تَرِدْ هَاتَانِ اللَّفْظَتَانِ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقَتَيْنِ بَلْ مَقْرُونَتَيْنِ بِالْقِصَّةِ الَّتِي عَصَى فِيهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَصَى فِي كَيْتَ وَكَيْتَ وَذَلِكَ لَا يُوهِمُ التَّوَهُّمَ الْبَاطِلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ فِي عَبِيدِهِ وَوَلَدِهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ السَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ وَوَلَدِهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى فَالْمَعْنَى ثُمَّ اصْطَفَاهُ فَتَابَ عَلَيْهِ أَيْ عَادَ/ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَهَدَاهُ رُشْدَهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى النَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَقَبِلَ اللَّه مِنْهُ ذَلِكَ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ جُمِعَ بُكَاءُ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَى بُكَاءِ دَاوُدَ كَانَ بُكَاؤُهُ أَكْثَرَ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ نُوحٍ لَكَانَ بُكَاءُ نُوحٍ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ جُمِعَ كُلُّ ذَلِكَ إِلَى بُكَاءِ آدَمَ لَكَانَ بُكَاءُ آدَمَ عَلَى خَطِيئَتِهِ أَكْثَرَ»
وَقَالَ

صفحة رقم 109
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية