آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕ ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ

بعيد، أما قوله تعالى: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فالمعنى أنه سبحانه وتعالى أمره بالفزع إلى الله سبحانه في زيادة العلم التي تظهر بتمام القرآن أو بيان ما نزل عليه.
وفي الآية: الترغيب في تحصيل العلم والترقي فيه إلى ما شاء الله لأن رتبة العلم أعلى الرتب، وبحره واسع لا يحيط به إنسان.
قصة آدم في الجنة وإخراجه منها وإلزامه بالهداية الربانية
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)

صفحة رقم 292

الإعراب:
أَلَّا تَجُوعَ فِيها الجملة في موضع نصب لأنها اسم إن. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إما موضعها النصب بالعطف على أَلَّا تَجُوعَ أي: إن لك عدم الجوع وعدم الظمأ في الجنة، وإما موضعها الرفع بالعطف على الموضع، مثل: إن زيدا قائم، وعمرو، بالعطف على موضع إن.
ومن كسر وإنك فعلى الابتداء والاستئناف، مثل إن الأولى.
البلاغة:
أَعْمى وبَصِيراً بينهما طباق.
فَتَشْقى، تَعْرى، تَضْحى سجع حسن غير متكلف.
أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فيه ما يسمى قطع النظير عن النظير، ففصل بين الظمأ والجوع، وبين الضحو والكسوة بقصد تحقيق تعداد هذه النعم، ومراعاة فواصل الآيات.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي وصيناه وأمرناه ألا يأكل من هذه الشجرة، يقال: عهد إليه:
إذا أمره وأوصاه به، ولام وَلَقَدْ جواب قسم محذوف، وإنما عطف قصة آدم على قوله:
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وأنهم متأصلون في النسيان. مِنْ قَبْلُ من قبل هذا الزمان وقبل أكله من الشجرة وقبل وجود هؤلاء المخالفين.
فَنَسِيَ العهد وتركه ولم يعن به حتى غفل عنه. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ولم نعلم له تصميما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده. ونجد من الوجود بمعنى العلم، له مفعولان، والعزم: التصميم على الشيء والثبات عليه.
وَإِذْ قُلْنا أي اذكر حاله في مثل ذلك الوقت، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. إِبْلِيسَ هو أبو الجن، كان يصحب الملائكة، ويعبد الله معهم. أَبى امتنع عن السجود لآدم، قائلا: أنا خير منه، وهي جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، وهو الاستكبار.

صفحة رقم 293

فَتَشْقى تتعب بمتاعب الدنيا الكثيرة. واقتصر على نسبة الشقاء لآدم لأن الرجل هو المسؤول عن كفاية زوجته، وهو الذي يسعى. تَظْمَؤُا تعطش. تَضْحى تصيبك الشمس، يقال: ضحا وضحي: إذا أصابته الشمس بحرها، والمراد: لا يحصل لك شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة. والمقصود من الآية: أَلَّا تَجُوعَ.. بيان وتذكير لما في الجنة من أسباب الكفاية، وأساسيات الكفاية هي الشبع والري والكسوة والسكنى.
شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي التي يخلد من يأكل منها، فلا يموت أصلا. لا يَبْلى لا يفنى ولا يضعف، وهو لازم الخلد. فَأَكَلا مِنْها أي آدم وحواء. فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت لهما عوراتهما من القبل والدبر، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي شرعا وأخذا يلزقان ورق التين على سوآتهما ليستترا به. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بالأكل من الشجرة. فَغَوى فضل عن الرشد حيث اغتر بقول عدوه. ثُمَّ اجْتَباهُ اصطفاه وقربه إليه بالتوفيق للتوبة. فَتابَ عَلَيْهِ فقبل توبته لما تاب. وَهَدى إلى الثبات على التوبة والأخذ بأسباب العصمة.
اهْبِطا مِنْها أي آدم وحواء من الجنة. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي بعض الذرية عدو للبعض الآخر بالظلم والتحارب والتنافس الشديد على أمر المعاش. فَإِمَّا فيه إدغام نون (إن) الشرطية في (ما) المزيدة. هَدى كتاب ورسول. هُدايَ هدى الوحي الإلهي.
فَلا يَضِلُّ في الدنيا. وَلا يَشْقى في الآخرة.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي الهداية بكتبي السماوية المذكرة بي والداعية إلى عبادتي.
وأعرض: أي امتنع فلم يؤمن بالذكر. ضَنْكاً مصدر وهو الضيق الشديد، والمعنى هنا: ضيقة.
وَنَحْشُرُهُ أي المعرض عن الذكر الإلهي ومنه القرآن. أَعْمى أي أعمى البصر أو القلب فلم ينظر في البراهين الإلهية، ويؤيد الأول: قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا وعند البعث. قالَ أي الأمر كَذلِكَ مثل ذلك فعلت، ثم فسره بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها تركتها ولم تؤمن بها. وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي ومثل تركك إياها- أي الآيات- تترك اليوم في العمى والعذاب. والآيات: الأدلة والبراهين الإلهية.
وَكَذلِكَ أي ومثل جزائنا من أعرض عن الذكر. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ نعاقب من أشرك وأسرف في الانهماك في الشهوات، والإعراض عن الآيات. وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وخالفها. أَشَدُّ من عذاب الدنيا وعذاب القبر وضنك العيش والعمى. وَأَبْقى أدوم.
وذلك كقوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد ١٣/ ٣٤].

صفحة رقم 294

المناسبة:
هذه هي المرة السادسة لذكر قصة آدم في القرآن، بعد البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف.
ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أنه بعد أن عظم أمر القرآن، وأبان ما فيه من الوعيد لتربية التقوى والعظة والعبرة، أردفه بقصة آدم، للدلالة على أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأنهم ينسون الأوامر الإلهية، كما نسي أبوهم آدم. ثم ذكر إباء إبليس السجود لآدم للتحذير من هذا العدو الذي أخرج بوساوسه آدم من الجنة، ثم بين جزاء المطيع للهدي الإلهي، وجزاء المعرض عنه، وأنه سيحشر أعمى عن الحجة التي تنقذه من العذاب، بسبب إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي وو الله لقد وصينا آدم بألا يأكل من الشجرة، فنسي ما عهد الله به إليه، وترك العمل بمقتضى العهد، فأكل من تلك الشجرة، ولم يكن عنده قبل ذلك عزم وتصميم على ذلك إذ كان قد صمم على ترك الأكل، ثم فتر عزمه، عند ما وسوس إليه إبليس بالأكل، فلم يصبر عن أكل الشجرة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه، فنسي. والمراد بالعهد: أمر من الله تعالى أو نهي منه، والمراد هنا: عهدنا إليه ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها. والآية دليل على أن النسيان وعدم العزم هما سبب العصيان، وأن التذكر وقوة العزم هما سبب الخير والرشد.
ثم ذكر الله تعالى خلق آدم وتكريمه وتشريفه، فقال:

صفحة رقم 295

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أي واذكر أيها النبي لقومك حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تشريف وتكريم وتفضيل على كثير من خلق الله، فسجدوا إلا إبليس امتنع واستكبر ورفض المشاركة في السجود لأنه كان حسودا، فلما رأى آثار نعم الله تعالى في حق آدم عليه السلام حسده، فصار عدوا له، كما قال تعالى:
فَقُلْنا: يا آدَمُ، إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى أي فقلنا له عقب إبائه السجود: يا آدم، إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلم يسجد لك وعصاني، فلا تطيعاه، ولا يكوننّ سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، بلا كلفة ولا مشقة، كما قال تعالى:
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش، وتنعما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فلا تجوع ولا تعرى، ولا تعطش في الجنة، ولا يؤذيك الحرّ، كما يكون لسكان الأرض، فإن أصول المتاعب في الدنيا: هي تحصيل الشبع (ضد الجوع) والكسوة (ضد العري) والريّ (ضد الظمأ) والسكن (ضد العيش في العراء أو تحت حرّ الشمس).
ويلاحظ أن نعم الجنة كما جاء في الآية لا عناء فيها في هذه الأصول الأربعة، فلا جوع فيها ولا عري ولا ظمأ ولا إصابة بحرّ الشمس. فأيهما يفضل العقلاء: ما فيه تعب وعناء أو ما ليس فيه تعب؟! وبعد بيان مدى تكريم آدم وتعظيمه وتحذيره من عدوه، أبان تعالى تورطه في وسوسة الشيطان، فقال:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ

صفحة رقم 296

وَمُلْكٍ لا يَبْلى
أي قال الشيطان لآدم بنوع من الخفية: ألا أرشدك إلى شجرة الخلد: وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا، وإلى ملك دائم لا يزول ولا ينقضي. وكان ذلك كذبا من إبليس ليستدرجهما إلى معصية الله تعالى:
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٢١] فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الأعراف ٧/ ٢٢].
جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ما يقطعها، وهي شجرة الخلد».
فَأَكَلا مِنْها، فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعا من الأكل منها، فانكشفت عورتهما وسقط عنهما لباسهما، فشرعا يلصقان عليهما ويلزقان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما، وعصى آدم ربه أو خالف أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عن الآكل منها، فضلّ عن الصواب، وفسد عليه عيشه.
ولا شك بأن مخالفة الأمر الواجب معصية، وأن الجزاء حق وعدل بسبب المعصية، لكنها معصية من نوع خاص بترتيب وتدبير وإرادة الله عز وجل، وفي حال نسيان آدم عهد الله إليه بألا يأكل من الشجرة،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ، قبل أن يخلقني، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فحجّ آدم موسى».

صفحة رقم 297

لهذا تاب الله تعالى على آدم من معصيته، فقال:
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي ثم اصطفاه ربه وقرّبه إليه، بعد أن تاب من المعصية واستغفر ربه منها، وأنه قد ظلم نفسه، فتاب الله عليه من معصيته، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل، كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٣٧] وقال هو وزوجه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف ٧/ ٢٣].
قالَ: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي قال الله تعالى لآدم وحواء: انزلا من الجنة إلى الأرض معا، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض في أمر المعاش ونحوه، مما يؤدي ذلك إلى وقوع الخصام والنزاع والاقتتال.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أي فإن يأتكم أيها البشر مني هدى بواسطة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب، فمن اتبع الهدى، فلا يضل عن الصواب في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس: «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية». وقال أيضا: «من قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية».
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ومن أدبر عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه، فإن له في هذه الدنيا عيشا ضيقا، ومعيشة شديدة منغصة، إما بشح المادة وإما بالقلق والهموم والأمراض.
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أي ونحشره ونبعثه في الآخرة مسلوب البصر، أو أعمى عن الجنة وطريق النجاة، أو أعمى البصر والبصيرة، كما قال

صفحة رقم 298

تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء ١٧/ ٩٧].
قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ أي قال المعرض عن دين الله: يا ربّ، لم حشرتني أعمى، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟
فأجابه الله تعالى:
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا، فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي مثل ذلك فعلت أنت، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها، تترك في العمى والعذاب في النار، ونعاملك معاملة المنسي، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف ٧/ ٥١] فإن الجزاء من جنس العمل.
قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
أخرج الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من رجل قرأ القرآن، فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم» «١».
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أي وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، ولعذاب الآخرة في النار أشد ألما من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه. قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد ١٣/ ٣٤].

(١) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٦٩.

صفحة رقم 299

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت قصة آدم عليه السلام على ما يلي:
١- قد يرتكب الإنسان معصية مخالفا أمر الله في حال النسيان والسهو عن عهد الله بطاعته، والنسيان مرفوع عنا الحرج والإثم فيه. قال ابن زيد: نسي آدم ما عهد الله إليه في ذلك اليوم، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.
٢- أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتشريف وتكريم، لا سجود عبادة، وأبى إبليس السجود مع الملائكة تكبرا واستعلاء وحسدا.
٣- لا شك بأن الجنة ذات نعيم مطلق، فلا تعب ولا عناء في الحصول على الملذات والرغبات، ومن أهمها الشبع والكساء والري والسكن أو المأوى، على عكس حال الدنيا التي ترتبط أصول المعايش هذه فيها بالجهد والمشقة.
٤- كانت وسوسة الشيطان لآدم بالأكل من الشجرة سببا في المخالفة والإخراج من الجنة والهبوط إلى الأرض.
٥- لا يجوز الحديث عن ذنوب الأنبياء إلا بالقدر المذكور في القرآن الكريم أو السنة النبوية الثابتة، قال بعض العلماء من المالكية: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم (أي بعض الأنبياء) ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم، وتنصّلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة.

صفحة رقم 300

ولقد أحسن الجنيد حين قال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فهم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم، وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكّاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله على نبينا وعليهم وسلامه «١».
٦- أما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول: تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدّر الله علي ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه «٢».
٧- لقد اجتبى الله تعالى آدم وهداه بعد العصيان، فإن وقع هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، وإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه، لم يضر ما سلف منهم من الذنوب.
٨- أمر الله تعالى آدم وزوجه حواء بالهبوط إلى دار الدنيا، والدنيا دار تكليف وتنافس وتزاحم ومعاداة، وسبيل التقويم والتميز: الالتزام بهداية الله، فمن اهتدى بهداية الرسل والكتب الإلهية فقد رشد، ولا يضل عن الصواب، ولا يشقى في الآخرة.
ومن أعرض عن دين الله، وتلاوة كتابه، والعمل بما فيه، كان له عيش ضيق مشحون بالعذاب النفسي والجسدي والعقلي، ويحشر يوم القيامة أعمى البصر والبصيرة، لا يدرك طريق النجاة، ويزج به في عذاب جهنم.

(١) تفسير القرطبي: ١١/ ٢٥٥.
(٢) المصدر السابق: ١١/ ٢٥٧.

صفحة رقم 301
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية