
ومثل ذلك الإنزال أنزلناه أى: القرآن حالة كونه قرآنا بلسان عربي غير ذي عوج لأنه نزل على العرب فكان بلغتهم التي يفهمونها على معجزته كانت من ناحية البلاغة العربية التي أعجزت فحول العرب مجتمعين فلا يبقى عذر لعربي لا يؤمن بالقرآن لأنه بلغته فيمكن الحكم عليه، وأما غير العرب فإذا رأوا عجز العرب عن الإتيان بمثله مع التحدي لهم آمنوا بأنه من عند الله. على أن في القرآن نواحي إعجاز أخرى في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم. فمن ينظر إلى كلامه في الشجر والنبات يؤمن أنه لا يمكن لمخلوق في القرن السادس الميلادى أن يأتى بهذا، ويقولون: إن ملاحا انجليزيا نظر في كلام القرآن عن البحار والسفن فآمن أنه من عند الله ولا شك، وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا، وصرفنا فيه من الوعيد، وكررناه، وسقناه على أشكال وألوان مختلفة لعلهم يتقون الله ويخافون عقابه، ولا شك أن كثرة الكلام في الثواب والعقاب يحدث هذا، ألا ترى إلى فن الإعلان اليوم، وأنه يعتمد على كثرة العرض والحديث عن الشيء في ألوان مختلفة.
لعل الناس يتقون أو يحدث لهم ذكرا ووعظا وخوفا وتقوى.
وإذا كان الله صاحب هذا القرآن الكامل المعجز فتعالى الله- سبحانه وتعالى- الملك الحق.
ولا تعجل يا محمد بالقرآن وتلاوته، وكان النبي لشدة حرصه على القرآن يتابع جبريل فيه بسرعة فقيل له. لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
[سورة القيامة الآيتان ١٦ و ١٧] وقل ربي زدني علما، وإذا كان هذا حال النبي صلّى الله عليه وسلّم فما لنا لا نحرص على القرآن الحرص المناسب لنا؟؟
قصة السجود لآدم [سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)

المفردات:
عَهِدْنا العهد من الله للناس كل أمر أو نهى منه، والعهد الذي كان من الله لآدم هو أمره الذي حرم عليه الأكل من الشجرة فَنَسِيَ النسيان له معان: منها هو ضد التذكر، أو هو بمعنى السهو ويظهر أن هذين المعنيين ليسا معنا، وقيل: هو

بمعنى عدم الاهتمام بالشيء وجعله في زاوية النسيان وعليه قوله: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ.
عَزْماً العزم التصميم على العمل، وانعقاد الضمير عليه فَتَشْقى فتتعب وَلا تَعْرى من العرى ضد اللباس وَلا تَضْحى ولا تظهر للشمس فتجد حرها فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفى المكرر، والمراد: ما نجده من الخواطر شَجَرَةِ الْخُلْدِ المراد شجرة الحنطة مُلْكٍ لا يَبْلى لا ينفذ سَوْآتُهُما المراد عوراتهما طَفِقا يَخْصِفانِ أخذ يجعلان ورقة فوق ورقة فَغَوى أى:
فشد عليه عيشه بنزوله الدنيا ضَنْكاً أى: شديدة متعبة أَسْرَفَ انهمك في اقتراف الشهوات.
قصة آدم أبى البشر ذكرت في القرآن عدة مرات، وفي سور مختلفة، وبأساليب متباينة، وكانت جديرة بذلك لما فيها من الأسرار والإشارات، ولما في ذكرها من التذكير والعظات، لو كانوا يعقلون.
المعنى:
وبالله لقد عهدنا إلى آدم من قبل وجود هؤلاء الناس، عهدنا إليه ووصيناه بألا يقرب هذه الشجرة، وأمرناه ألا يأكل منها فنسي هذا الأمر ولم يهتم به فلم يكن في بؤرة شعوره، وذلك بوسوسة إبليس له، ولم نجد له عزما وتصميما إذ هو ناس لا محالة.
إذن يمكن أن نفهم من هذه الآية أن الحق- تبارك وتعالى- يعرفنا أن النسيان وعدم العزم هما سببا هبوط المرء إلى درجة العصيان أما التذكرة وقوة العزم فهما سبب الصعود إلى الخير والرشد.
واذكر إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم تحية وإجلال لا سجود عبادة وتأليه حتى يعرف أبناؤه تكريم الله لهم فيقوموا بواجب الشكر ورد الجميل فسجدوا جميعا إلا إبليس الذي كان معهم وقت الأمر، وإن كان من الجن كما هو ظاهر الآية كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف آية ٥٠].

فقلنا: يا آدم أما وقد عصى إبليس ربه ولم يسجد لك حسدا أو غرورا منه فاعلم أنه عدو لك، ولزوجك، وإياك طاعته، واحذر من وسوسته وتزيينه الباطل في صورة الحق.
إن هذا عدو لكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وتتعب، إنك يا آدم فيها لا تجوع أبدا، ولا تعرى أبدا، ولا تظمأ من العطش، ولا تظهر في الشمس فتجد حرها ولهيبها- فأنت في الجنة متمتعا بنعم الله التي لا تحصى.
ومع هذا التذكير لآدم، والتحذير له من إبليس.
وسوس له الشيطان وزين له العصيان، وقال له: يا آدم أقسم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين:
يا آدم هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت من الخالدين، وكان لك ملك لا يبلى ولا يفنى، أتى آدم من جهة إثارة غريزتين هما غريزة حب البقاء، وغريزة الملك فأزلهما الشيطان، وضحك عليهما بكذبه وتغريره. فأكلا من الشجرة المحرمة.
عند ذلك بدت لهما عوراتهما، وأخذ يستران العورة، ويخيطان عليها من ورق الشجر وعصى آدم ربه ففسد عيشه وتبدل حاله لحكمة الله يعلمها، وقيل إن المراد في بدت لهما عوراتهما: ظهور الغريزة الجنسية عندهما.
ثم بعد ذلك اجتباه ربه واصطفاه فتاب عليه لما ندم على ما فرط منه، وهداه إلى سواء السبيل فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة آية ٣٧].
خرج آدم وحواء من الجنة لما أكلا من الشجرة، وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض فقال:
اهبطا أنتم والشيطان الذي أغواكم من الجنة إلى الأرض بعضكم لبعض عدو فاحذروا يا أبناء آدم هذا العدو اللدود لكم.
فإما يأتينكم منى هدى على لسان الرسل فمن اهتدى واتبع وسلك سبيل الخير وابتعد عن الهوى فإن الجنة هي المأوى، ولن تراه في الدنيا يضل، ولن تراه يشقى أبدا بل هو في سعادة أبدية إن أعطى المال شكر وإن حرم منه صبر فهو سعيد راض، قنوع، محتسب فائز إن شاء الله.