
من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لِسَانَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ «١» يَعْنِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ، كُلَّمَا قَالَ جِبْرِيلُ آيَةً قَالَهَا مَعَهُ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ، فَأَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مَا هُوَ الْأَسْهَلُ وَالْأَخَفُّ فِي حَقِّهِ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
أَيْ أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أَيْ بَلْ أَنْصِتْ، فَإِذَا فَرَغَ الْمَلَكُ مِنْ قِرَاءَتِهِ عَلَيْكَ فَاقْرَأْهُ بَعْدَهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أَيْ زِدْنِي مِنْكَ عِلْمًا، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَزَلْ صلّى الله عليه وسلم في زيادة حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِهِ، حَتَّى كَانَ الْوَحْيُ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» »
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي ما ينفعني، وزدني علما، والحمد الله عَلَى كُلِّ حَالٍ» «٣». وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ بِهِ. وَقَالَ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ، عَنِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ بِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ «وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النار».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٢]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانَ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ، وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: تَرَكَ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ يَذْكُرُ تَعَالَى تَشْرِيفَ آدَمَ، وَتَكْرِيمَهُ وَمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف «٤»، وسيأتي في آخر سورة
(٢) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١، ومسلم في التفسير حديث ١، وأحمد في المسند ٣/ ٢٣٦.
(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١٢٨ وابن ماجة في المقدمة باب ٢٣، والدعاء باب ٢.
(٤) انظر تفسير الآيات ٣٠- ٣٨ من سورة البقرة، والآيات ١١- ٢٤ من سورة الأعراف، والآيات ٢٨- ٤٠ من سورة الحجر، والآيات ٦١- ٦٥ من سورة الإسراء والآية ٥٠ من سورة الكهف.

ص «١» يذكر تعالى فيها خَلْقَ آدَمَ وَأَمْرَهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا، وَيُبَيِّنُ عَدَاوَةَ إِبْلِيسَ لِبَنِي آدَمَ وَلِأَبِيهِمْ قَدِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَيِ امْتَنَعَ وَاسْتَكْبَرَ فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ يَعْنِي حَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أي إياك أن تسعى فِي إِخْرَاجِكَ مِنْهَا فَتَتْعَبَ وَتُعَنَّى وَتَشْقَى فِي طَلَبِ رِزْقِكَ، فَإِنَّكَ هَاهُنَا فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ هنيء بلا كُلْفَةَ وَلَا مَشَقَّةَ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى إِنَّمَا قَرَنَ بَيْنَ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ، لِأَنَّ الْجُوعَ ذُلُّ الْبَاطِنِ، وَالْعُرْيَ ذُلُّ الظاهر، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى وَهَذَانَ أَيْضًا مُتَقَابِلَانِ، فَالظَّمَأُ حَرُّ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْعَطَشُ، وَالضُّحَى حَرُّ الظَّاهِرِ.
وَقَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى قد تقدم أنه دلاهما بغرور وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢١] وَقَدْ تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أَنَّ يَأْكُلَا مِنْ كُلِّ الثِّمَارِ وَلَا يَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمَا إِبْلِيسُ حَتَّى أَكَلَا مِنْهَا وَكَانَتْ شَجَرَةَ الْخُلْدِ، يَعْنِي الَّتِي مَنْ أَكَلَ مِنْهَا خُلِّدَ وَدَامَ مُكْثُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ شَجَرَةِ الْخُلْدِ، فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا، وَهِيَ شجرة الخلد» ورواه الإمام أحمد «٢».
وقوله: فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ: يَا آدَمُ مِنِّي تَفِرُّ، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا، وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَالَ:
نَعَمْ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [البقرة: ٣٧] وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ الْحَسَنِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ: وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قَالَ مُجَاهِدٌ: يُرَقِّعَانِ كَهَيْئَةِ الثَّوْبِ، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قَالَ: يَنْزِعَانِ وَرَقَ التِّينِ فَيَجْعَلَانِهِ عَلَى سَوْآتِهِمَا. وَقَوْلُهُ: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ عَنْ يحيى بن أبي كثير،
(٢) المسند ٢/ ٤٥٥، ٤٦٢.