
وَالْوِزْرُ: الْإِثْمُ. وَجعل مَحْمُولا تَمْثِيل لِمُلَاقَاةِ الْمَشَقَّةِ مِنْ جَرَّاءِ الْإِثْمِ، أَيْ مِنَ الْعِقَابِ عَنْهُ. فَهُنَا مُضَافٌ مُقَدَّرٌ وَقَرِينَتُهُ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ خالِدِينَ فِيهِ، وَهُوَ حَالٌ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ أَوِ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ بِحرف التوكيد، وَمَا صدقهما، مُتَّحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ بِالْإِفْرَادِ وَالْجَمْعِ رَعْيًا لِلَفْظِ (مِنْ) مَرَّةً وَلِمَدْلُولِهَا مَرَّةً. وَهُوَ الْجَمْعُ الْمُعْرِضُونَ. فَقَالَ مَنْ أَعْرَضَ ثُمَّ قَالَ خالِدِينَ.
وَجُمْلَةُ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَيْ وَمَسُوئِينَ بِهِ. وَ (سَاءَ) هُنَا هُوَ أَحَدُ أَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلَ (بِئْسَ). وَفَاعِلُ ساءَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ التَّمْيِيزُ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ حِمْلًا. وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَحْمُولِ كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ.
وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ لَفْظِ وِزْراً عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَسَاءَ لَهُمْ حِمْلًا وِزْرُهُمْ، وَحَذْفُ الْمَخْصُوصِ فِي أَفْعَالِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ شَائِعٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: ٣٠] أَيْ سُلَيْمَانُ هُوَ الْأَوَّابُ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ لَامُ التَّبْيِينِ. وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِلْمَفْعُولِ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ: سَاءَهُمُ الْحِمْلُ، فَجِيءَ بِاللَّامِ لِزِيَادَةِ تَبْيِينِ تَعَلُّقِ الذَّمِّ بِحِمْلِهِ، فَاللَّامُ لِبَيَانِ الَّذِينَ تَعَلَّقَ بِهِمْ سُوءُ الْحِمْلِ.
وَالْحِمْلُ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- الْمَحْمُولُ مثل الذّبْح.
[١٠٢- ١٠٤]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ١٠٢ إِلَى ١٠٤]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [طه: ١٠١] فِي قَوْلِهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا [طه: ١٠١]، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ

لَدُنَّا ذِكْراً [طه: ٩٩] وَمَا تَبِعَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [طه: ١١٣]، تَخَلُّصٌ لِذِكْرِ الْبَعْثِ وَالتَّذْكِيرِ بِهِ وَالنِّذَارَةِ بِمَا يَحْصُلُ لِلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ.
وَالصُّورُ: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ لِبَعْضِ فَضَائِهِ فَإِذَا نَفَخَ فِيهِ النَّافِخُ بِقُوَّةٍ
خَرَجَ مِنْهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ، وَقَدِ اتُّخِذَ لِلْإِعْلَامِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلْحَرْبِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٧٣].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُنْفَخُ بِيَاءِ الْغِيبَةِ مَبْنِيًّا للْمَجْهُول، أَي ينْفخ نَافِخٍ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِذَلِكَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ نَنْفُخُ- بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَضَمِّ الْفَاءِ- وَإِسْنَادُ النَّفْخِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، مِثْلَ: بَنَى الْأَمِيرُ الْقَلْعَةَ.
وَالْمُجْرِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ وَالْكَفَرَةُ.
وَالزُّرْقُ: جَمْعُ أَزْرَقٍ، وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ الزُّرْقَةُ. وَالزُّرْقَةُ: لَوْنٌ كَلَوْنِ السَّمَاءِ إِثْرَ الْغُرُوبِ، وَهُوَ فِي جَلْدِ الْإِنْسَانِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ لَوْنَ مَا أَصَابَهُ حَرْقُ نَارٍ. وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الزُّرْقَةَ لَوْنُ أَجْسَادِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمرَان: ١٠٦]، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَوْنُ عُيُونِهِمْ، فَقِيلَ: لِأَنَّ زُرْقَةَ الْعَيْنِ مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ.
وَالْأَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُرَادَ شِدَّةُ زُرْقَةِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ بِشَارٍ:
وَلِلْبَخِيلِ عَلَى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ | زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ |
وَالتَّخَافُتُ: الْكَلَامُ الْخَفِيُّ مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوِهُ. وَتَخَافُتُهُمْ لِأَجْلِ مَا يَمْلَأُ صُدُورَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه:
١٠٨]. صفحة رقم 304

وَجُمْلَةُ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً مُبِينَةٌ لِجُمْلَةِ يَتَخافَتُونَ، وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا أَمْوَاتًا وَرُفَاتًا فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فَاسْتَيْقَنُوا ضَلَالَهُمْ إِذْ كَانُوا يُنْكِرُونَ الْحَشْرَ.
وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ لِخَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ مُبَالَغَةً فِي الْمُكَابَرَةِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا فِي الْقُبُورِ إِلَّا عَشْرَ لَيَالٍ فَلَمْ يَصِيرُوا رُفَاتًا، وَذَلِكَ لِمَا بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنِ اسْتِحَالَةِ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ تَفَرُّقِ الْأَوْصَالِ، فَزَعَمُوا أَنَّ إِحْيَاءَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بِرَدِّ الْأَرْوَاحِ إِلَى الْأَجْسَادِ. فَالْمُرَادُ بِاللَّبْثِ: الْمُكْثُ فِي الْقُبُورِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [١١٢، ١١٣]، وَقَوْلُهُ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ الرّوم [٥٥].
و (إِذْ) ظَرْفٌ، أَيْ يَتَخَافَتُونَ فِي وَقْتٍ يَقُولُ فِيهِ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً. وَالْأَمْثَلُ: الْأَرْجَحُ
الْأَفْضَلُ. وَالْمَثَالَةُ: الْفَضْلُ، أَيْ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى لِأَنَّ النِّسْبَةَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلتَّمْيِيزِ.
وَالطَّرِيقَةُ: الْحَالَةُ وَالسُّنَّةُ وَالرَّأْيُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرَّأْيُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: ٦٣] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَمْ يَأْتِ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى وَصْفِ الْقَائِلِ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً
بِأَنَّهُ أَمْثَلُ طَرِيقَةٍ بِوَجْهٍ تَطْمَئِنُّ لَهُ النَّفْسُ.
وَالَّذِي أَرَاهُ: أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ فَإِنْ سَلَكْنَا بِهِ مَسْلَكَ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى اخْتِلَاقِ الِاعْتِذَارِ عَنْ خَطَئِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِأَنَّهُمْ ظَنُّوا الْبَعْثَ وَاقِعًا بَعْدَ طُولِ الْمُكْثِ فِي الْأَرْضِ طُولًا تَتَلَاشَى فِيهِ أَجْزَاءُ الْأَجْسَامِ، فَلَمَّا وَجَدُوا أَجْسَادَهُمْ كَامِلَةً مِثْلَ مَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ عُذْرًا لِأَنَّ عَشْرَ اللَّيَالِيَ تَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهَا الْأَجْسَامُ. فَكَانَ الَّذِي قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا