آيات من القرآن الكريم

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ

المنَاسَبَة: هذه طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إلى الكفر والعصيان، فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور والدهور.
اللغَة: ﴿مِيثَاقَكُمْ﴾ الميثاق: العهد المؤكد بيمين ﴿الطور﴾ هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام ﴿بِقُوَّةٍ﴾ بعزمٍ وجدّ ﴿وَأُشْرِبُواْ﴾ أُشرب: سُقي جعلت قلوبهم نُشر به، يقال: أُشرب قلبُه حبَّ كذا قال زهير:

فصحوتُ عنْها بعد حبَّ داخلٍ والحب تُشربُه فؤادَك داءُ
﴿خَالِصَةً﴾ مصدر كالعافية والعاقبة بمعنى الخلوص أي خاصة بكم لا يشارككم فيها أحد ﴿أَحْرَصَ﴾ الحرص: شدة الرغبة في الشيء وفي الحديث «إحرص على ما ينفعك» ﴿بِمُزَحْزِحِهِ﴾ الزحزحة: الإبعادُ والتنحية قال تعالى ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار﴾ [آل عمران: ١٨٥] أي أُبعد وقال الشاعر:
خليليَّ ما بال الدُّجَى لا يُزَحْزحُ وما بالُ ضوء الصبح لا يتوضّح
التفسِير: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أَخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة، ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾ أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم ﴿واسمعوا﴾ أي سماع طاعة وقبول ﴿قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ أي خالط حبُّه قلوبهم، وتغلغل في سويدائها والمراد أن حب عبادة العجل امتزج بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ أي بسبب كفرهم ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس﴾ أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي اشتاقوا الموت الذي يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوة الكاذبة ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسبب ما اجترحوه من الذنوب والآثام ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك {

صفحة رقم 70

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} أي ولتجدنَّ اليهود أشدّ الناس حرصاً على الحياة، وأحرص من المشركين أنفسهم، وذلك لعلمهم بأنهم صائرون إِلى النار لإِجرامهم ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ أي يتمنى الواحد منهم أن يعيش ألف سنة ﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ﴾ أي وما طول العمر - مهما عمر - بمبعده ومنجيه من عذاب الله ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي مطّلع على أعمالهم فيجازيهم عليها ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ أي قل لهم يا محمد من كان عدواً لجبريل فإِنه عدو لله، لأن الله جعله واسطة بينه وبين رسله فمن عاداه فقد عادى الله ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله﴾ أي فإِن جبريل الأمين نزّل هذا القرآن على قلبك يا محمد بأمر الله تعالى ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية ﴿وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وفيه الهداية الكاملة، والبشارة السارة للمؤمنين بجنات النعيم ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ أي من عادى الله وملائكته ورسله، وعادى على الوجه الأخص «جبريل وميكائيل» فهو كافر عدو لله ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ لأن الله يبغض من عادى أحداً من أوليائه، ومن عاداهم عاده الله، ففيه الوعيد والتهديد الشديد.
سَبَبُ النّزول: روي أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إِنه ليس نبيٌّ من الأنبياء إِلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبُك حتى نتابعك؟ قال: جبريل قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذاك عدونا! لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر وبالرحمة تابعناك فأنزل الله ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ الآية.
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل﴾ فيه استعارة مكنية، شبّه حبَّ عبادة العجل بمشروب لذيذ سائغ الشراب، وطوى ذكر المشبه به ورمز بشيء من لوازمه وهو الإِشراب على طريق الاستعارة المكنية، قال في تلخيص البيان: «وهذه استعارة والمراد وصف قلوبهم بالمبالغة في حب العجل فكأنها تشربت حبة فما زجها ممازجة المشروب، وخالطها مخالطة الشيء الملذوذ».
٢ - ﴿قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ إِسناد الأمر إِلى الإِيمان تهكمٌ بهم كقوله ﴿أصلاوتك تَأْمُرُكَ﴾ [هود: ٨٧] وكذلك إِضافة الإِيمان إِليهم، أفاده الزمخشري.
٣ - التنكير في قوله ﴿على حَيَاةٍ﴾ للتنبيه على أن المراد بها حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة التي يعمر فيها الشخص آلاف السنين.
٤ - ﴿فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ الجملة واقعة في جواب الشرط وجيء بها إسمية لزيادة التقبيح لأنها تفيد الثبات، ووضع الظاهر موضع الضمير فقال ﴿عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ بدل عدوٌ لهم لتسجيل صفة الكفر عليهم، وأنهم بسبب عداوتهم للملائكة أصبحوا من الكافرين.
٥ - ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ وجاء بعد ذكر الملائكة فهو من باب ذكر الخاص بعد العام للتشريف والتعظيم.

صفحة رقم 71

الفوَائِد: الأولى: ليس معنى السمع في قوله ﴿واسمعوا﴾ إِدراك القول فقط، بل المراد سماع ما أمروا به في النوراة سماع تدبرٍ وطاعةٍ والتزام فهو مؤكد ومقرر لقوله ﴿خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ﴾.
الثانية: خصّ القلب بالذكر ﴿نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ﴾ لأنه موضع العقل والعلم وتلقي المعارف كما قال تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ﴾ [الحج: ٤٦].
الثالثة: الحكمة في الإِتيان هنا ب «لن» ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً﴾ وفي الجمعة ب «لا» ﴿وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً﴾ [الآية: ٧] أن ادعاءهم هنا أعظم من ادعائهم هناك، فإِنهم ادعوا هنا اختصاصهم بالجنة، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس، فناسب هنا التوكيد بلن المفيدة للنفي في الحاضر والمستقبل، وأما هناك فاكتفى بالنفي.
الرابعة: الآية الكريمة من المعجزات لأنها إِخبار بالغيب وكان الأمر كما أخبر، ويكفي في تحقق هذه المعجزة أن لا يقع تمني الموت من اليهود الذين كانوا في عصره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي الحديث الشريف «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار».

صفحة رقم 72
صفوة التفاسير
عرض الكتاب
المؤلف
محمد علي بن الشيخ جميل الصابوني الحلبي
الناشر
دار الصابوني للطباعة والنشر والتوزيع - القاهرة
الطبعة
الأولى، 1417 ه - 1997 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية