آيات من القرآن الكريم

۞ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ

المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تخريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات «١». في واحدة أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمدا وعليا والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلّا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملا بالوصية حتى حصل على ما بشر به!. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [٧٢ و ٧٣] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [٨٢].
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢).

(١) انظر التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٢١٥ و ٢١٦. [.....]

صفحة رقم 180

(١) من بعد ما عقلوه: من بعد ما فهموه.
(٢) بما فتح الله عليكم: قال المفسرون إن الجملة تعني ما يعرفونه من صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق نبوته ودعوته.
(٣) أميون: فسر الكلمة بعض المؤولين بأنهم الذين لا يحسنون القراءة والكتابة. وعزا بعضهم إلى ابن عباس تأويلا آخر لها وهو الذين غير ضليعين في أمور الدين وكتبه. وللكلمة معان أخرى وأقوال في أصلها أوردناها في سياق تفسير الآية [١٥٧] من سورة الأعراف.
(٤) أمانيّ: قيل إنها بمعنى التمني والأمل بالعفو. وقيل إنها جمع أمنية بمعنى ما يشتهيه المرء ويطلبه وقيل إنها بمعنى القراءة الضعيفة. وقد وردت الكلمة في حلقة أخرى من السلسلة تفيد أنها التمني أو الظن، والذي نرجحه أنها في مقامها هنا بمعنى التخمين والظن بدليل جملة وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الواردة في نفس الآية التي وردت فيها.
(٥) يكسبون: هنا بمعنى يجترحون من الإثم أو يقترفون.
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود

صفحة رقم 181

في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم:
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن ثم يحرفون ما سمعوا تعمدا بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم آمنّا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم وقالوا لهم إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهانا ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علما يقينيا ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله ويزعمون أن النار لن تمسهم إلّا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جريا على الأسلوب القرآني:
فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهدا من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلا عما في ذلك من افتراء على الله، لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا وأن من آمنوا وعملوا صالحا فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفاتيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.

صفحة رقم 182

وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي إلى المدينة.
والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه:
١- في صدد جملة وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاو تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
٢- في صدد جملة: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبيّ حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية

صفحة رقم 183

الأولى قد تكون أكثر انسجاما مع فحوى الآية مع القول أن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاما تاما. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذبا وتضليلا فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» «١». حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضا مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوما علما يقينيا من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيرا مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائيا موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم

(١) التاج ج ٤ ص ٤٣.

صفحة رقم 184

آمنوا وحسن إسلامهم ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [١٩٩] والنساء [١٦٢] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلّى الله عليه وسلّم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) وهذه:
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) وهذه: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) «١»، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءا لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ الأنعام: [٩٠] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ السجدة: [٢٣- ٢٤] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ الجاثية: [١٦] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحيانا بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [٤٠- ٤٤] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثا على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلّى الله عليه وسلّم مرجعهم الأعلى

(١) آيات البقرة هذه واردة في حلقة من حلقات هذه السلسلة، ولذلك يمكن القول إن ما جاء فيها يعبر عن أقوال اليهود وأن ذكر النصارى جاء فيها استطراديا.

صفحة رقم 185

ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا- حقا أو باطلا- بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتامر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم في اليهود سندا وعضدا وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه وبأنه محتو حلّ المشاكل والخلافات التي يتعثر فيها الكتابيون وهم منهم باستشهاد الكتابيين على صحة رسالته استشهادا ينطوي على الثقة فيهم والتنويه بهم، ولما رآه من حسن استجابة الكتابيين وفيهم أناس من بني إسرائيل إلى دعوته واندماجهم فيها ووقوفهم منها موقف المصدق المؤمن المؤيد على ما احتوته آيات مكية عديدة أوردناها في مناسبات عديدة سابقة فلما رأى منهم ما رآه من الانقباض أولا والتنكر والصد وكتم الحق عن علم والتحالف مع الأعداء والدسائس والتشكيك تأثر تأثرا عميقا من خيبة أمله فيهم فرددته هذه الآيات وكثير غيرها في الحلقات السابقة والآتية.
وهذا القول يصدق على معظم اليهود، لأن هناك آيات مدنية ومكية تفيد أن بعضهم- ومنهم علماء راسخون في العلم- قد استطاعوا أن يتغلبوا على مآربهم وأحقادهم فيؤمنوا بالرسالة المحمدية التي عرفوا أنها حق ويصدقوا بالقرآن الذي عرفوا أنه من عند الله على ما جاء في آيات سورة آل عمران هذه: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وآية سورة آل عمران هذه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)، وآية سورة النساء هذه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ

صفحة رقم 186

مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
وآية سورة المائدة هذه: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) «١»، وآية سورة الأحقاف المكية هذه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠).
تعليق على الآية بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
لقد وقف المفسرون عند هذه الآية من الحلقة واعتبروها شاملة المدى.
وهذا وجيه لأن عبارتها مطلقة رغم كونها بسبيل الرد على اليهود وتكذيبهم. ولقد تعددت الأقوال التي يروونها عن أهل التأويل أو يقولونها من أنفسهم في صددها.
من ذلك أن السيئة في الآية في معنى الشرك. وأن جملة وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ تعني استمراره في الشرك وعدم مفارقته له بالإيمان والتوبة. وهذا وجيه وصواب لأنه متسق مع وعيد الخلود في النار الذي جاء في الآية ومن ذلك أن السيئة تعني الكبيرة أيضا وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وهذا قول المعتزلة.
وهناك من قال إن خلود مرتكب الكبيرة في النار رهن باستحلاله لها، وهو الأوجه فيما هو المتبادر وهناك أحاديث نبوية تدعم هذا منها ما هو صحيح ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار

(١) آيات سور آل عمران والنساء والمائدة وإن لم يكن فيها صراحة فإنها من سلسلة في حق بني إسرائيل كما جاء فيها بصراحة. وهناك آيات مدنية ومكية أخرى فيها خبر إيمان بعض أهل الكتاب لم يسبقها صراحة بأنهم من بني إسرائيل مع احتمال أن يكون منهم من بني إسرائيل مثل آيات سور القصص [٥٢- ٥٥] والإسراء [١٠٧- ١٠٨] والرعد [٣٦] التي مر تفسيرها.

صفحة رقم 187
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية