
لَهُمْ كَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ:
أُحِلَّتْ لَهُمُ الْحِيتَانُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ فَكَانَ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَارَ شَبَابُ الْقَوْمِ قِرَدَةً، وَالْمَشْيَخَةُ صَارُوا خَنَازِيرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: خاسِئِينَ قَالَ: ذَلِيلِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: خاسِئِينَ قَالَ: صَاغِرِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها مِنَ الْقُرَى وَما خَلْفَها مِنَ الْقُرَى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فَجَعَلْناها يَعْنِي الْحِيتَانَ نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي عَمِلُوا قَبْلُ وَبَعْدُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ فَجَعَلْناها قَالَ:
جَعَلْنَا تِلْكَ الْعُقُوبَةَ وَهِيَ الْمِسْخَةُ نَكالًا عُقُوبَةً لِما بَيْنَ يَدَيْها يَقُولُ: لِيَحْذَرَ مَنْ بَعْدَهُمْ عُقُوبَتِي وَما خَلْفَها يَقُولُ: لِلَّذِينِ كَانُوا معهم وَمَوْعِظَةً قال: تذكرة وعبرة للمتقين.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
قِيلَ: إِنَّ قِصَّةَ ذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمَذْكُورَةَ هُنَا مُقَدَّمٌ فِي التِّلَاوَةِ وَمُؤَخَّرٌ فِي الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قَتَلْتُمْ مُقَدَّمًا فِي النُّزُولِ، وَيَكُونَ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ مُؤَخَّرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ نُزُولِهَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهَا، فَكَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ حَتَّى ذبحوها، ثم وقع ما وَقَعَ مِنْ أَمْرِ الْقَتْلِ فَأُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الْجَمْعِ مِنْ دُونِ تَرْتِيبٍ وَلَا مَعِيَّةٍ، وَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ الْقَتْلِ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَالْبَقَرَةُ: اسْمٌ لِلْأُنْثَى، وَيُقَالُ لِلذَّكَرِ: ثَوْرٌ وَقِيلَ إِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَيْهِمَا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَقْرِ وَهُوَ الشَّقُّ لِأَنَّهَا تَشُقُّ الْأَرْضَ بِالْحَرْثِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْبَقَرُ اسْمُ جِنْسٍ، وَجَمْعُهُ بَاقِرٌ. وَقَدْ قَرَأَ عِكْرِمَةُ ويحيى بن يعمر: إنّ الباقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَقَوْلُهُ: هُزُواً الْهُزُوُ هُنَا:
اللَّعِبُ وَالسُّخْرِيَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ. وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْجَهْلِ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَفْعَلُهُ الْعُقَلَاءُ، وَلِهَذَا أَجَابَهُمْ مُوسَى بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْجَهْلِ. وَقَوْلُهُ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ هَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ تَعَنُّتِهِمُ الْمَأْلُوفَةِ، فَقَدْ كَانُوا يَسْلُكُونَ هَذِهِ الْمَسَالِكَ فِي غَالِبِ مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَوْ تَرَكُوا التعنت وَالْأَسْئِلَةَ الْمُتَكَلَّفَةَ لَأَجْزَأَهُمْ ذَبْحُ بِقَرَةٍ مِنْ عَرَضِ الْبَقَرِ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْفَارِضُ: الْمُسِنَّةُ،

وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْوَاسِعُ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا: أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا.
انْتَهَى. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْقَدِيمِ: فَارِضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
يَا رَبِّ ذِي ضغن عليّ فارض | له قروء كقروء الْحَائِضِ |
يا بكر بكرين ويا خلب الْكَبِدِ | أَصْبَحْتَ مِنِّي كَذِرِاعٍ مِنْ عَضُدِ |
يُقَالُ فَقَعَ لَوْنُهَا يَفْقَعُ فُقُوعًا: إِذَا خَلَصَتْ صُفْرَتُهُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْفُقُوعُ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَنْصَعُهُ. وَمَعْنَى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ تُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السُّرُورَ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهَا إِعْجَابًا بِهَا وَاسْتِحْسَانًا لِلَوْنِهَا. قَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ كَأَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا، ثُمَّ لَمْ يَنْزِعُوا عَنْ غِوَايَتِهِمْ وَلَا ارْعَوَوْا مِنْ سَفَهِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، بَلْ عَادُوا إِلَى تَعَنُّتِهِمْ فقال: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أَيْ أَنَّ جِنْسَ الْبَقَرِ يَتَشَابَهُ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَةِ مَا يَتَّصِفُ مِنْهَا بِالْعَوَانِ الصَّفْرَاءِ الْفَاقِعَةِ، وَوَعَدُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاهْتِدَاءِ إِلَى مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَالِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرُوا به. لا ذَلُولٌ الَّتِي لَمْ يُذَلِّلْهَا الْعَمَلُ: أَيْ هِيَ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ وَلَا رَيِّضَةٍ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: تُثِيرُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الصِّفَةِ لِبَقَرَةٍ: أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَهَا: أَيْ لَيْسَتْ مِنَ النَّوَاضِحِ الَّتِي يُسْنَى عَلَيْهَا لِسَقْيِ الزُّرُوعِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ الْآخَرُ تَوْكِيدٌ لِلْأَوَّلِ: أَيْ هِيَ بَقَرَةٌ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْحَرْثِ وَلَا بِالنَّضْحِ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ: كَانَتِ البقرة

وَحْشِيَّةً. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ قَوْلَهُ: تُثِيرُ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَالْمَعْنَى: إِيجَابُ الْحَرْثِ لَهَا وَالنَّضْحِ بِهَا. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُثِيرَةً سَاقِيَةً لَكَانَتْ مُذَلَّلَةً رَيِّضَةً، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: مُسَلَّمَةٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أوصاف البقرة، ويجوز أن يكون مُرْتَفِعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أَيْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ، وَالْمُسَلَّمَةُ: هِيَ الَّتِي لَا عَيْبَ فِيهَا وَقِيلَ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ عَنْهَا، وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَالْإِفَادَةُ أَوْلَى مِنَ الْإِعَادَةِ. وَالشِّيَةُ أَصْلُهَا وَشِيَةٌ، حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ يَشِي، وَأَصْلُهُ يَوْشِي، وَنَظِيرُهُ الزِّنَةُ وَالْعِدَةُ وَالصِّلَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ وَشِيَ الثَّوْبُ: إِذَا نُسِجَ عَلَى لَوْنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَثَوْرٌ مُوَشًّى: فِي وجهه وقوائمه سواد. وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ خَالِصَةُ الصُّفْرَةِ لَيْسَ فِي جِسْمِهَا لَمْعَةٌ مِنْ لَوْنٍ آخَرَ. فَلَمَّا سَمِعُوا هَذِهِ الْأَوْصَافَ الَّتِي لَا يَبْقَى بَعْدَهَا رَيْبٌ وَلَا يُخَالِجُ سَامِعَهَا شَكٌّ، وَلَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، أَقْصَرُوا مِنْ غِوَايَتِهِمْ، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار مَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ تَعَنُّتُهُمْ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أَيْ أَوْضَحْتَ لَنَا الْوَصْفَ، وَبَيَّنْتَ لَنَا الْحَقِيقَةَ الَّتِي يَجِبُ الْوُقُوفُ عندها، فحصلوا على تِلْكَ الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَذَبَحُوها وَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ الَّذِي كَانَ يُسْرًا فَعَسَّرُوهُ، وَكَانَ وَاسِعًا فَضَيَّقُوهُ وَما كادُوا يَفْعَلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ لِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ التَّثَبُّطِ وَالتَّعَنُّتِ وَعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِلِاسْتِبْعَادِ، وَمَحَلًّا لِلْمَجِيءِ بِعِبَارَةٍ مُشْعِرَةٍ بِالتَّثَبُّطِ الْكَائِنِ مِنْهُمْ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ مَا كَادُوا يَفْعَلُونَ لِعَدَمِ وِجْدَانِ الْبَقَرَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، وَقِيلَ لِارْتِفَاعِ ثَمَنِهَا، وَقِيلَ لِخَوْفِ انْكِشَافِ أَمْرِ الْمَقْتُولِ، وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ إِمْكَانِ الْفِعْلِ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِصَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْمَزِيدَةَ بِسَبَبِ تَكَرُّرِ السُّؤَالِ هِيَ مِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ، وَبَيْنَ الْبَابَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ لَا مِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قَالُوهُ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى بَقَرَةٍ مِنْ عَرَضِ الْبَقَرِ فَيَذْبَحُوهَا، ثُمَّ كَذَلِكَ بَعْدَ الْوَصْفِ بِكَوْنِهَا جَامِعَةً بَيْنَ الْوَصْفِ بِالْعَوَانِ وَالصَّفْرَاءِ، وَلَا دليل يدل على هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاقِعَةٌ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عَلَيْهَا، وَيُدِيرُونَ الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ فِي أَمْرِهَا ثُمَّ يُورِدُونَهَا، وَأَقَلُّ الْأَحْوَالِ الِاحْتِمَالُ الْقَادِحُ فِي الِاسْتِدْلَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ وَكَانَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ، فَقَتَلَهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ لَيْلًا فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَسَلَّحُوا، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: عَلَامَ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِيكُمْ؟ فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الآية، قال: فَلَوْ لَمْ يَعْتَرِضُوا لَأَجْزَأَتْ عَنْهُمْ أَدْنَى بَقَرَةٍ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشُدِّدَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا، فَوَجَدُوهَا عِنْدَ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ بَقَرَةٌ غَيْرُهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ