آيات من القرآن الكريم

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ

روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلا فقيرا في بني إسرائيل قتل ابن أخيه أو أخاه أو ابن عمه لكي يرثه، ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له: سل لنا ربك حتى يبينه، فسأله، فأوحى الله إليه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتعجبوا من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالا بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت البقرة لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين، ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها، فاشتروها فذبحوها، وأمرهم موسى أن يأخذوا عضوا منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حيا وعين لهم قاتله، وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قودا. قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أي أتستهزئ بنا يا موسى فإن سؤالنا عن أمر القتيل وأنت تأمرنا بذبح بقرة، وإنما قالوا ذلك لأنهم لم يعلموا أن الحكمة هي حياة القتيل بضربه ببعض البقرة وإخباره بقاتله.
قالَ أي موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) أي المستهزئين بالمؤمنين، لأن الهزء في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل فما علموا أن الأمر بالذبح حق. قالُوا ادْعُ لَنا أي لأجلنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي ما سنها أصغيرة أو كبيرة. قالَ إِنَّهُ أي الله تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ أي كبيرة في السن وَلا بِكْرٌ أي صغيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي وسط بين المسنة والفتية فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) به من ذبحها قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها أي صاف لونها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) إليها بسبب حسنها وتعجبهم من شدة صفرتها لغرابتها وخروجها عن المعتاد. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أعاملة هي أم لا؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) إلى وصفها أو إلى القاتل
قالَ إِنَّهُ تعالى يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أي غير مذللة تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تقبلها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ أي الزرع مُسَلَّمَةٌ من كل عيب لا شِيَةَ فِيها أي لا خلط في لونها.
قال مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي نطقت بالبيان المحقق ففتشوا عليها فوجدوها عند الفتى البار لأمه فاشتروها بملء جلدها بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) أي ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم. ويقال: وما كادوا أن يذبحوها لأجل غلاء ثمنها أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل.
روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له ابن طفل وله عجلة، فأتى بها إلى الغيضة.
وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر فكانت من أحسن البقر وأسمنها، فلما كبر الابن كان بارا لوالدته فكان يقسّم الليل أثلاثا يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، فلما أصبح احتطب على ظهره فيبيع الحطب في السوق، ثم يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه، ثم أمرته أمه أن يأخذ تلك العجلة من الغيضة. فلما أخذها قالت له أمه: إنك

صفحة رقم 26

فقير يشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فبع هذه البقرة. فقال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذ ذاك ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكا ليختبر الفتى كيف بره بوالدته، فقال: الملك له بكم تبيع هذه البقرة؟ فقال: بثلاثة دنانير بشرط رضى والدتي، فقال الملك: لك ستة دنانير ولا تستأذن أمك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذها إلا برضا أمي، فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن. فقالت: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال: استأذنت أمك؟ فقال الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأذنها. فقال الملك: إني أعطيك اثني عشر دينارا على أن لا تستأذنها فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك. فقالت: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال الملك له:
اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبا دنانير فأمسكتها وقدر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة للفتى على بره بوالدته فضلا من الله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً اسمه عاميل وقيل: نكار فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي تخاصمتم في شأنها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ أي مظهر ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) من قتلها وهذه الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما فادارأتم وقوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
أي القتيل بِبَعْضِها
أي بعضو من أعضاء البقرة قيل: بذنبها. وقيل:
بلسانها، وقيل: بفخذها الأيمن ففعلوا ذلك فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان ثم سقط ومات مكانه فقتل قاتله فحرم الميراث. وفي الحديث: «ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة». كَذلِكَ
أي كما أحيا الله عاميل في الدنيا يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
في الآخرة من غير احتياج إلى آلة وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
أي يجعلكم مبصرين دلائل قدرته وإحيائه للميت لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(٧٣) أي لكي تعلموا أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء نفوس كثيرة، فتصدقوا بالبعث بعد الموت ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ أيها اليهود فلم تقبل الحق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء عاميل وإخباره بقاتله أو من بعد الأمور التي جرت على أجدادكم فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في القساوة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ.
قال الحكماء: إن الأنهار إنما تنشأ عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض حجريا اجتمعت تلك الأبخرة حتى تكثر كثرة عظيمة فتنشق الأرض وتسيل تلك المياه أنهارا وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ أي العيون الصغار التي هي دون الأنهار وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ أي يتدحرج من أعلى الجبل إلى أسفله مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي من انقياد أمر الله وقلوبكم أيها اليهود لا تتحرك من خوف الله، و «اللام» في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم إن وهو ما بمعنى الذي والضمير منه ويشقق

صفحة رقم 27

ويهبط يعود عليه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أي إن الله محافظ لأعمال القاسية قلوبهم حتى يجازيهم بها في الآخرة، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) أي أفتطمعون أيها النبي والمؤمنون أن يؤمن هؤلاء اليهود بواسطتكم ويستجيبوا لكم، والحال أن طائفة منهم وهم أحبارهم يسمعون كلام الله في التوراة، ثم يغيرونه من بعد المعنى الذي فهموه بعقولهم وهم يعلمون أنهم مفترون، وذلك كنعت محمد صلّى الله عليه وسلّم فكانت صفته صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، أكحل العين، ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه فكتبوا بدلها طويلا، أزرق العين سبط الشعر.
وقال ابن عباس: والمعنى أفترجو يا أشرف الخلق أن تؤمن بك اليهود. والحال أن أسلافهم وهم السبعون المختارون للميقات الذين كانوا مع موسى يسمعون كلام الله بلا واسطة، ثم يغيرونه من بعد ما علموه يقينا وهم يعلمون أنهم يغيرونه، وذلك أنهم قالوا: سمعنا الله يقول في آخر كلامه: «إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس» وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا أي إن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، ونشهد أن صاحبكم صادق، وأن قوله: حق ونجد نعته في كتابنا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ أي رجع الساكتون الذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ آخر منهم وهو منافقوهم قالُوا أي الساكتون موبخين للمنافقين أَتُحَدِّثُونَهُمْ أي المؤمنين بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي بما بيّن الله لكم في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي ليقيموا الحجة عليكم بما أنزل ربكم في كتابه في ترك اتباع محمد مع إقراركم بصدقه. وقوله تعالى:
لِيُحَاجُّوكُمْ متعلق بالتحديث والمراد بهذا تشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك لأجل هذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل أي أتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم بكتاب الله وحكمه، ويقال: عند الله كذا معناه في كتابه وحكمه أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه.
أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ أي اللائمون أو المنافقون أو كلاهما اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) أي إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان وإخفاء ما فتح الله عليهم، وإظهار
غيره فيرعووا عن ذلك.
وَمِنْهُمْ أي اليهود أُمِّيُّونَ أي جهلة لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ أي لا يعرفونه بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد إِلَّا أَمانِيَّ أي إلّا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، ومما تحملهم أخبارهم على تمني قلوبهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، ومن أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وقال الأكثرون إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه أو لا يقرءون إلا قراءة عارية عن معرفة المعنى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (٧٨) أي ما هم يعرفون إلا بأن يذكر لهم تأويله فظنوه فَوَيْلٌ أي عذاب أليم أو مسيل صديد أهل جهنم أو شدة الشر لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا في الكتاب الذي جاء مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

صفحة رقم 28
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية