لِلصُّورَةِ، وَيَكُونُ/ مِحْنَةً لَا عُقُوبَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: فَجَعَلْناها نَكالًا أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَهَا عُقُوبَةً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: لِمَا قَبْلَهَا وَمَا مَعَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ لِأَنَّ مَسْخَهُمْ ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ فَاعْتَبَرُوا بِهَا وَاعْتَبَرَ بِهَا مَنْ بَلَغَ إِلَيْهِ خَبَرُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الَآخِرِينَ، وَثَانِيهَا: أُرِيدُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مَا يَحْضُرُهَا مِنَ الْقُرُونِ وَالْأُمَمِ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهَا عُقُوبَةً لِجَمِيعِ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ يَتَّعِظُ بِهِ وَيَخَافُ إِنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ مِثْلُ مَا نَزَلْ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ عَاجِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَخَافَ مِنَ الْعِقَابِ الْآجِلِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَدُومُ. وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَكَمِثْلِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنهم إذا اختصموا بِالِاتِّعَاظِ وَالِانْزِجَارِ وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ صَلُحَ أَنْ يُخَصُّوا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ لِغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ أَنْ يَعِظَ الْمُتَّقُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ جَعَلْنَاهَا نَكَالًا وَلِيَعِظَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَّقِينَ بَعْضًا فَتَكُونُ الْمَوْعِظَةُ مُضَافَةً إِلَى الْمُتَّقِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّعِظُونَ بِهَا، وَهَذَا خَاصٌّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ وَاللَّهُ أعلم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
[في شأن النزول الآيات] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّشْدِيدَاتِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلَ قَرِيبًا لِكَيْ يَرِثَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فِي مَجْمَعِ الطَّرِيقِ ثُمَّ شَكَا ذَلِكَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاجْتَهَدَ مُوسَى فِي تَعَرُّفِ الْقَاتِلِ، فَلَمَّا لَمْ يَظْهَرْ قَالُوا لَهُ: سَلْ لَنَا رَبَّكَ حَتَّى يُبَيِّنَهُ، فَسَأَلَهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالِاسْتِفْهَامِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَاسْتَقْصَوْا فِي طَلَبِ الْوَصْفِ فَلَمَّا تَعَيَّنَتْ لَمْ يَجِدُوهَا بِذَلِكَ النَّعْتِ إِلَّا عِنْدَ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَبِعْهَا إِلَّا بِأَضْعَافِ ثَمَنِهَا، فَاشْتَرَوْهَا وذبحوها وأمرهم
مُوسَى أَنْ يَأْخُذُوا عُضْوًا مِنْهَا فَيَضْرِبُوا بِهِ الْقَتِيلَ، فَفَعَلُوا فَصَارَ الْمَقْتُولُ حَيًّا وَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ وَهُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِالشِّكَايَةِ فَقَتَلُوهُ قَوَدًا، ثُمَّ هَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْإِيلَامَ وَالذَّبْحَ حَسَنٌ وَإِلَّا لَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، ثُمَّ عِنْدَنَا وَجْهُ الْحُسْنِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى مَالِكُ الْمُلْكِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لِأَجْلِ الْأَعْوَاضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مِنْ بَقَرِ الدُّنْيَا وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مَعْنَاهُ اذْبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تُفِيدُ هَذَا الْعُمُومَ، وَقَالَ مُنْكِرُو الْعُمُومِ: إِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ اذْبَحْ بَقَرَةً. يُمْكِنُ تَقْسِيمُهُ إِلَى قِسْمَيْنِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: اذْبَحْ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً مِنْ شَأْنِهَا كَيْتُ وَكَيْتُ وَيَصِحُّ أَيْضًا/ أَنْ يُقَالَ اذْبَحْ بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، فَإِذَنِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِكَ «اذْبَحْ» مَعْنًى مُشْتَرِكٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ وَالْمُشْتَرِكُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَإِذَنْ قَوْلُهُ اذْبَحُوا بَقَرَةً لَا يَسْتَلْزِمُ مَعْنَاهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: اذْبَحُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ الْعُمُومَ لَكَانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتُمْ تَكْرِيرًا وَلَكَانَ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً نَقْضًا، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فاذبحوا بَقَرَةً كَالنَّقِيضِ لِقَوْلِنَا لَا تَذْبَحُوا بَقَرَةً، وَقَوْلُنَا لَا تَذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ النَّفْيَ الْعَامَّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُنَا اذْبَحُوا بَقَرَةً يَرْفَعَ عُمُومَ النَّفْيِ وَيَكْفِي فِي ارْتِفَاعِ عُمُومِ النَّفْيِ خُصُوصُ الثُّبُوتِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَإِذَنْ قَوْلُهُ: اذْبَحُوا بَقَرَةً يُفِيدُ الْأَمْرَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَمَّا الْإِطْلَاقُ فِي ذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا فَذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ ذَلِكَ النَّفْيِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنَ اللَّفْظِ، الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
بَقَرَةً لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ مُنْكَرَةٌ وَالْمُفْرَدُ الْمُنَكَّرُ إِنَّمَا يُفِيدُ فَرْدًا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ الْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ فَرْدًا أَيَّ فَرْدٍ كَانَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فِي الْخَبَرِ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ بِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ الْعُمُومَ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَثْبُتُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: اذْبَحْ بَقَرَةً مَعْنَاهُ اذْبَحْ أَيَّ بَقَرَةٍ شِئْتَ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أن قوله تعالى: اذبحوا بَقَرَةً هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّنَةٍ أَوْ هُوَ أَمْرٌ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَالَّذِينَ يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ قَالُوا: إِنَّهُ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَكِنَّهَا مَا كَانَتْ مُبَيَّنَةً، وَقَالَ الْمَانِعُونَ مِنْهُ: هُوَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَأَلُوا تَغَيُّرَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ الْأَوَّلَ كَانَ كَافِيًا لَوْ أَطَاعُوا وَكَانَ التخيير في جنس البقرة إِذْ ذَاكَ هُوَ الصَّلَاحَ، فَلَمَّا عَصَوْا وَلَمْ يَمْتَثِلُوا وَرَجَعُوا بِالْمَسْأَلَةِ لَمْ يَمْتَنِعْ تَغَيُّرُ الْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْمُشَاهَدِ، لِأَنَّ الْمُدَبِّرَ لِوَلَدِهِ قَدْ يَأْمُرُهُ بِالسَّهْلِ اخْتِيَارًا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَقَدْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّعْبِ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ وما لَوْنُها وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ،... إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ،... إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا أُمِرُوا بِذَبْحِهِ مِنْ قَبْلُ وَهَذِهِ الْكِنَايَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا كَانَ ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، بَلْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ
بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا صِفَاتُ الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا أَوَّلًا أَوْ صِفَاتُ بَقَرَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَانْتَسَخَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَالثَّانِي: يَقْتَضِي أَنْ يَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ آخِرًا، وَأَنْ لَا يَجِبَ حُصُولُ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ/ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ بِأَسْرِهَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً عَلِمْنَا فَسَادَ هَذَا الْقِسْمِ.
فَإِنْ قِيلَ أَمَّا الْكِنَايَاتُ فَلَا نُسَلِّمُ عَوْدَهَا إِلَى الْبَقَرَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كِنَايَاتٌ عَنِ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ؟ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ لَوْ كَانَتْ عَائِدَةً إِلَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ لَبَقِيَ مَا بَعْدَ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ غَيْرَ مُفِيدٍ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: بَقَرَةٌ صَفْراءُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ شَيْءٍ آخَرَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْكِنَايَاتِ عَائِدَةً إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْمَحْذُورُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ بِرُجُوعِ الْكِنَايَةِ إِلَى الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ خِلَافُ الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْكِنَايَةَ يَجِبُ عَوْدُهَا إِلَى شَيْءٍ جَرَى ذِكْرُهُ وَالْقِصَّةُ وَالشَّأْنُ لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُمَا فَلَا يَجُوزُ عَوْدُ الْكِنَايَةِ إِلَيْهِمَا لَكِنَّا خَالَفْنَا هَذَا الدَّلِيلَ لِلضَّرُورَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قوله: ما لَوْنُها، وما هِيَ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ عَائِدًا إِلَى تِلْكَ الْبَقَرَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا سَائِلِينَ مُعَانِدِينَ لَمْ يَكُنْ فِي مِقْدَارِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى مَا يُزِيلُ الِاحْتِمَالَ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى أَنْ تَكُونَ بَقَرَةً صَفْرَاءَ مُتَوَسِّطَةً فِي السِّنِّ كَامِلَةً فِي الْقُوَّةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ مَوْضِعٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ الْكَثِيرَةِ، فَلَمَّا سَكَتُوا هَاهُنَا وَاكْتَفَوْا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُعَانِدِينَ. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً مَعْنَاهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا جَدِيدًا، وَثَانِيهَا: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَمَا اسْتَحَقُّوا التَّعْنِيفَ عَلَى طَلَبِ الْبَيَانِ بَلْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْمَدْحَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ، وَفِي قَوْلِهِ:
فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ عَلِمْنَا تَقْصِيرَهُمْ فِي الْإِتْيَانِ بِمَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ. الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ ذَبَحُوا أَيَّةَ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْ مِنْهُمْ لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى ذَبْحِهَا، فَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا بَيَّنَهَا لَكَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ذَبْحُ بَقَرَةٍ، أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَرَّطُوا فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَأَنَّهُمْ كَادُوا يُفَرِّطُونَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْبَيَانِ، بَلِ اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنَحْمِلُهُ عَلَى الْأَخِيرِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا عَلَى تَمَامِ الْبَيَانِ تَوَقَّفُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَهُ، وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ بَابِ الْآحَادِ وَبِتَقْدِيرِ الصِّحَّةِ، فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُعَارِضَةً لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ دَلَّ الْأَمْرُ عَلَى الْفَوْرِ وَذَلِكَ عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بَقَرَةٌ أَيُّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نَقُولَ: التَّكَالِيفُ مُغَايِرَةٌ فَكُلِّفُوا فِي الْأَوَّلِ: أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَثَانِيًا: أَنْ تَكُونَ لَا فَارِضًا وَلَا بِكْرًا بَلْ عَوَانًا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أَنْ تَكُونَ صَفْرَاءَ، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ كُلِّفُوا أَنْ تَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لَا ذَلُولًا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ
الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي التَّكْلِيفِ الْوَاقِعِ أَخِيرًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا لِكُلِّ صِفَةٍ تَقَدَّمَتْ حَتَّى تَكُونَ الْبَقَرَةُ مَعَ الصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا يَجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْكَلَامِ إِذَا كَانَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشْبَهَ بِالرِّوَايَاتِ وَبِطَرِيقَةِ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِمْ عِنْدَ تَرَدُّدِ الِامْتِثَالِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَسْهَلَ قَدْ يُنْسَخُ بِالْأَشَقِّ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَلَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَهُ أَيْضًا تَعَلُّقٌ بِمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّسْخِ هَلْ هُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا، وَيَدُلُّ عَلَى حُسْنِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ ثَانِيًا لِمَنْ عَصَى وَلَمْ يَفْعَلْ مَا كُلِّفَ أَوَّلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ: هُزُواً بِالضَّمِّ وَهُزْؤًا بِسُكُونِ الزَّايِ نَحْوَ كُفُؤًا وَكُفْءً وَقَرَأَ حَفْصٌ: (هُزُوًا) بِالضَّمَّتَيْنِ وَالْوَاوِ وَكَذَلِكَ كُفُوًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَفَّالُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً اسْتِفْهَامٌ عَلَى مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالْهُزْءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْمَهْزُوءِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: كَانَ هَذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ أَيْ فِي مَعْلُومِهِ وَاللَّهُ رَجَاؤُنَا أَيْ مَرْجُوُّنَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٠] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :(أتتخذنا هزؤاً) أَتَجْعَلُنَا مَكَانَ هُزْءٍ أَوْ أَهْلَ هُزْءٍ أَوْ مَهْزُوءًا بِنَا وَالْهُزْءُ نَفْسُهُ فَرْطُ الِاسْتِهْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْقَوْمُ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْيِينَ الْقَاتِلِ فَقَالَ مُوسَى:
اذْبَحُوا بَقَرَةً لَمْ يَعْرِفُوا بَيْنَ هَذَا الْجَوَابِ وَذَلِكَ السُّؤَالِ مُنَاسَبَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُلَاعِبُهُمْ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا فَيَصِيرُ حَيًّا فَلَا جَرَمَ، وَقَعَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ مَوْقِعَ الْهُزْءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ إِلَّا أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ أَنَّ الْقَتِيلَ كَيْفَ يَصِيرُ حَيًّا بِأَنْ يَضْرِبُوهُ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْبَقَرَةِ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِهْزَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ كفروا بقولهم لموسى عليه السلام: أتتخذنا هزؤاً لِأَنَّهُمْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ وَشَكُّوا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، فَهُوَ كُفْرٌ وَإِنْ شَكُّوا فِي أَنَّ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ جَوَّزُوا الْخِيَانَةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كُفْرٌ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلَاعَبَةَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ جَائِزَةٌ فَلَعَلَّهُمْ ظَنُّوا بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ يُلَاعِبُهُمْ مُلَاعَبَةً حَقَّةً، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ. الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً أَيْ مَا أَعْجَبَ هَذَا الْجَوَابَ كَأَنَّكَ تَسْتَهْزِئُ بِنَا لَا أَنَّهُمْ حَقَّقُوا عَلَى مُوسَى الِاسْتِهْزَاءَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِهْزَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَمَنْصِبُ النُّبُوَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِقْدَامَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ، فَلَمْ يَسْتَعِذْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نَفْسِ الشَّيْءِ الَّذِي نَسَبُوهُ إِلَيْهِ، لَكِنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ كَمَا قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ عِنْدَ مِثْلِ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْعَقْلِ وَغَلَبَةِ الْهَوَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازًا هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَقْوَى. وَثَانِيهَا:
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِمَا فِي الِاسْتِهْزَاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنَ الْعِقَابِ الشَّدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْعَظِيمِ، فَإِنِّي متى
عَلِمْتُ ذَلِكَ امْتَنَعَ إِقْدَامِي عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ نَفْسَ الْهُزْءِ قَدْ يُسَمَّى جَهْلًا وَجَهَالَةً، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ: إِنَّ الْجَهْلَ ضِدُّ الْحِلْمِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ ضِدُّ الْعِلْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ الْقَوْلِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا: (إِنَّا مَعَكُمْ) إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤- ١٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَقَرَةِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَأَجَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ أَبْحَاثًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مُبَيِّنٍ التَّعْيِينَ حَسُنَ مَوْقِعُ سُؤَالِهِمْ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ وَالِاسْتِعْلَامُ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْعُمُومِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَنَّهُ مَا الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا الِاسْتِفْسَارِ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا صَارَ حَيًّا تَعَجَّبُوا مِنْ أَمْرِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، وَظَنُّوا أَنَّ تِلْكَ الْبَقَرَةَ الَّتِي يَكُونُ لَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْخَاصَّةِ لَا تَكُونُ إِلَّا بَقَرَةً مُعَيَّنَةً، فَلَا جَرَمَ اسْتَقْصُوا فِي السُّؤَالِ عَنْ وَصْفِهَا كَعَصَا مُوسَى الْمَخْصُوصَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِصِيِّ بِتِلْكَ الْخَوَاصِّ، إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُخْطِئِينَ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْعَجِيبَةَ مَا كَانَتْ خَاصِّيَّةَ الْبَقَرَةِ، بَلْ كَانَتْ مُعْجِزَةً يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَثَانِيهَا: لَعَلَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا بَقَرَةً، أَيَّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، إِلَّا أَنَّ الْقَاتِلَ خَافَ مِنَ الْفَضِيحَةِ، فَأَلْقَى الشُّبْهَةَ فِي التَّبْيِينِ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بِهِ بَقَرَةٌ مُعَيَّنَةٌ لا مطلق البقرة، لما وقعت الْمُنَازَعَةِ فِيهِ، رَجَعُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ وَإِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ إِلَّا أَنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا الِاحْتِيَاطَ فِيهِ، فَسَأَلُوا طَلَبًا لِمَزِيدِ الْبَيَانِ وَإِزَالَةً لِسَائِرِ الِاحْتِمَالَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَغَيَّرَتْ وَاقْتَضَتِ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ سُؤَالَ «مَا هِيَ» طَلَبٌ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ «مَا» سُؤَالٌ، وَ «هِيَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ، فَمَا هِيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَلَبًا لِلْحَقِيقَةِ وَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذِكْرِ أَجْزَائِهَا وَمُقَدِّمَاتِهَا لَا بِذِكْرِ صِفَاتِهَا الْخَارِجَةِ عَنْ مَاهِيَّتِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَصْفَ السِّنِّ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَاهِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِهَذَا السُّؤَالِ: وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكِنَّ قَرِينَةَ الْحَالِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَا الْبَقَرُ طَلَبُ مَاهِيَّتِهِ وَشَرْحُ حَقِيقَتِهِ بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُمْ طَلَبَ الصِّفَاتِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُ الْبَقَرِ عَنْ بَعْضٍ، فَلِهَذَا حَسُنَ ذِكْرُ الصِّفَاتِ الْخَارِجَةِ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْفَارِضُ الْمُسِنَّةُ وَسُمِّيَتْ فَارِضًا لِأَنَّهَا فَرَضَتْ سِنَّهَا، أَيْ قَطَعَتْهَا وَبَلَغَتْ آخِرَهَا، وَالْبِكْرُ: الْفَتِيَّةُ وَالْعَوَانُ النَّصَفُ، قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا الْبِكْرُ، فَقِيلَ: إِنَّهَا الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ مَا لَمْ تَلِدْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الَّتِي وَلَدَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، قَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ [الضَّبِّيُّ] : إِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْفَارِضِ أَنَّهَا الْمُسِنَّةُ وَفِي الْبِكْرِ أَنَّهَا الشَّابَّةُ وَهِيَ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ وَمِنَ الْإِبِلِ الَّتِي وَضَعَتْ بَطْنًا وَاحِدًا. قَالَ الْقَفَّالُ: الْبِكْرُ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثَّمَرِ وَمِنْهُ بُكْرَةُ النَّهَارِ وَيُقَالُ: بَكَّرْتُ عَلَيْهِمَا الْبَارِحَةَ إِذَا جَاءَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَكَأَنَّ الْأَظْهَرَ
أَنَّهَا هِيَ الَّتِي لَمْ تَلِدْ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنِ اسْمِ الْبِكْرِ مِنَ الْإِنَاثِ فِي بَنِي آدَمَ مَا لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْعَوَانُ الَّتِي وَلَدَتْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ. وَحَرْبٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ حَرْبًا قَدْ قُوتِلَ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَحَاجَةٌ عَوَانٌ: إِذَا كَانَتْ قَدْ قُضِيَتْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ عَلَى جَوَازٍ الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ غَالِبِ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ إِذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهَا بَيْنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَهَاهُنَا سؤالان:
الأول: لفظة «بين» تقتضي شيئين فصاعداًفمن أَيْنَ جَازَ دُخُولُهُ عَلَى ذَلِكَ؟ الْجَوَابُ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شَيْئَيْنِ حَيْثُ وَقَعَ مُشَارًا بِهِ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُشَارَ بِلَفْظَةِ: (ذَلِكَ) إِلَى مُؤَنَّثَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى وَاحِدٍ مُذَكَّرٍ؟ الْجَوَابُ:
جَازَ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَا ذُكِرَ أَوْ مَا تَقَدَّمَ لِلِاخْتِصَارِ فِي الْكَلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنْ قَوْلِكَ: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَافْعَلُوا أَمْرَكُمْ بِمَعْنَى مَأْمُورِكُمْ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَضَرْبِ الْأَمِيرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ كَوْنُ الْبَقَرَةِ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِأَنَّهَا بَعْدُ مَا وَصَلَتْ إِلَى حَالَةِ الْكَمَالِ، وَالْمُسِنَّةُ كَأَنَّهَا صَارَتْ نَاقِصَةً وَتَجَاوَزَتْ عَنْ حَدِّ الْكَمَالِ، فأما المتوسطة فهي التي تكوى فِي حَالَةِ الْكَمَالِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّانِيَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا حَالَ السِّنِّ شَرَعُوا بَعْدَهُ فِي تَعَرُّفِ حَالِ اللَّوْنِ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بأنها: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها، والفقوع/ أشدها يَكُونُ مِنَ الصُّفْرَةِ وَأَنْصَعُهُ، يُقَالُ فِي التَّوْكِيدِ أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَأَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَحْمَرُ قانٍ وأخضر ناضر، وهاهنا سؤالان:
الْأَوَّلُ: «فَاقِعٌ» هَاهُنَا وَاقِعٌ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ فَكَيْفَ يَقَعُ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ؟ الْجَوَابُ: لَمْ يَقَعْ خَبَرًا عَنِ اللَّوْنِ إِنَّمَا وَقَعَ تَأْكِيدًا لِصَفْرَاءَ إِلَّا أَنَّهُ ارْتَفَعَ اللَّوْنُ بِهِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَاللَّوْنُ سَبَبُهَا وَمُلْتَبِسٌ بِهَا، فَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ:
صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: فَهَلَّا قِيلَ صَفْرَاءُ فَاقِعَةٌ وَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ اللَّوْنِ؟ الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ التَّوْكِيدُ لِأَنَّ اللَّوْنَ اسْمٌ لِلْهَيْئَةِ وَهِيَ الصُّفْرَةُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ شَدِيدَةُ الصُّفْرَةِ صُفْرَتُهَا فَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: جِدُّ جِدِّهِ وَجُنُونُ مَجْنُونٍ. وَعَنْ وَهْبٍ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا خُيِّلَ إِلَيْكَ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ يَخْرُجُ مِنْ جِلْدِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ لِحُسْنِ لَوْنِهَا تَسُرُّ مِنْ نَظَرِ إِلَيْهَا، قَالَ الْحَسَنُ:
الصَّفْرَاءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى السَّوْدَاءِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَسْوَدَ أَصْفَرَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الدخان: كأنه جمالات صُفْرٌ [الْمُرْسَلَاتِ: ٣٣] أَيْ سُودٌ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّ الْأَصْفَرَ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَسْوَدُ الْبَتَّةَ، فَلَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِيهِ، وَأَيْضًا السَّوَادُ لَا يُنْعَتُ بِالْفُقُوعِ، إِنَّمَا يُقَالُ: أَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَسْوَدُ حَالِكٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا السُّرُورُ فَإِنَّهُ حَالَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَعْرِضُ عِنْدَ حُصُولِ اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِحُصُولِ شَيْءٍ لَذِيذٍ أَوْ نَافِعٍ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى سُؤَالَهُمُ الثَّالِثَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وَهَاهُنَا مسائل:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ الْحَسَنُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَدًا»،
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ يُرَادُ تَحْصِيلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْكَهْفِ: ٢٣]، وَفِيهِ اسْتِعَانَةٌ بِاللَّهِ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَالِاعْتِرَافُ بِقُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ بِأَسْرِهَا مُرَادَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ اهْتِدَاءَهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ فَحِينَئِذٍ يَبْقَى لِقَوْلِنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَائِدَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثَةٌ بِقَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ دُخُولَ كَلِمَةِ «إِنْ» عَلَيْهِ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ حُصُولَ الِاهْتِدَاءِ عَلَى حُصُولِ مَشِيئَةِ الِاهْتِدَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الِاهْتِدَاءِ أَزَلِيًّا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَشِيئَةُ الِاهْتِدَاءِ أَزَلِيَّةً. وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ فَفِيهِ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَنَا: مَا هُوَ طَلَبُ بَيَانِ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا فِي الْجَوَابِ الصِّفَاتُ الْعَرَضِيَّةُ الْمُفَارَقَةُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فَالْمَعْنَى أَنَّ الْبَقَرَ الْمَوْصُوفَ بِالتَّعْوِينِ وَالصُّفْرَةِ كَثِيرٌ فَاشْتَبَهَ عَلَيْنَا أَيُّهَا نَذْبَحُ، وَقُرِئَ تَشَابَهُ بِمَعْنَى تَتَشَابَهُ بِطَرْحِ التَّاءِ وَإِدْغَامِهَا فِي الشِّينِ وَ [قُرِئَ] تَشَابَهَتْ وَمُتَشَابِهَةٌ وَمُتَشَابِهٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فَفِيهِ وُجُوهٌ ذَكَرَهَا الْقَفَّالُ. أَحَدُهَا: وَإِنَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَهْتَدِي لِلْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا عِنْدَ تَحْصِيلِنَا أَوْصَافَهَا الَّتِي بها تمتاز عَمَّا عَدَاهَا. وَثَانِيهَا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْرِيفَهَا إِيَّانَا بِالزِّيَادَةِ لَنَا فِي الْبَيَانِ نَهْتَدِي إِلَيْهَا. وَثَالِثُهَا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى هُدًى فِي اسْتِقْصَائِنَا فِي السُّؤَالِ عَنْ أَوْصَافِ البقرة أي نرجو أَنَّا لَسْنَا عَلَى ضَلَالَةٍ فِيمَا نَفْعَلُهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ. وَرَابِعُهَا: إِنَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ نَهْتَدِي لِلْقَاتِلِ إِذَا وَصَفْتَ لَنَا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِمَا بِهِ تَمْتَازُ هِيَ عَمَّا سِوَاهَا ثُمَّ أَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَقَوْلُهُ: لَا ذَلُولٌ صِفَةٌ لِبَقَرَةٍ بِمَعْنَى بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ بمعنى لم تذلل للكراب وَإِثَارَةِ الْأَرْضِ وَلَا هِيَ مِنَ الْبَقَرِ الَّتِي يُسْقَى عَلَيْهَا فَتَسْقِي الْحَرْثَ وَ «لَا» الْأُولَى لِلنَّفْيِ وَالثَّانِيَةُ مَزِيدَةٌ لِتَوْكِيدِ الْأُولَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ وَتَسْقِي عَلَى أَنَّ الْفِعْلَيْنِ صِفَتَانِ لِذَلُولٍ كَأَنَّهُ قِيلَ لَا ذَلُولٌ مُثِيرَةٌ وَسَاقِيَةٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الذَّلُولَ بِالْعَمَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاقِصَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ يَظْهَرُ بِهِمَا النَّقْصُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسَلَّمَةٌ فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: مِنَ الْعُيُوبِ مُطْلَقًا. وَثَانِيهَا: مِنْ آثَارِ الْعَمَلِ الْمَذْكُورِ.
وَثَالِثُهَا: مُسَلَّمَةٌ أَيْ وَحْشِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ عَنِ الْحَبْسِ. وَرَابِعُهَا: مُسَلَّمَةٌ مِنَ الشِّيَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ لَوْنِهَا أَيْ خَلُصَتْ صُفْرَتُهَا عَنِ اخْتِلَاطِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ بِهَا، وَهَذَا الرَّابِعُ ضَعِيفٌ وَإِلَّا لَكَانَ قَوْلُهُ: لَا شِيَةَ فِيها تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ، بَلِ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ وَاللَّفْظُ يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ السَّلَامَةَ الْكَامِلَةَ عَنِ الْعِلَلِ وَالْمَعَايِبِ، وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِ مَعَ تَجْوِيزٍ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مُسَلَّمَةٌ إِذَا فَسَّرْنَاهَا بِأَنَّهَا مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ فَذَلِكَ لَا نَعْلَمُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا نَعْلَمُهُ مِنْ طريق الظاهر.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا شِيَةَ فِيها فَالْمُرَادُ أَنَّ صُفْرَتَهَا خَالِصَةٌ غَيْرُ مُمْتَزِجَةٍ بِسَائِرِ الْأَلْوَانِ لِأَنَّ الْبَقَرَةَ الصَّفْرَاءَ قَدْ تُوصَفُ بِذَلِكَ إِذَا حَصَلَتِ الصُّفْرَةُ فِي أَكْثَرِهَا فَأَرَادَ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ عُمُومَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا شِيَةَ فِيها رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ صَفْرَاءَ الْأَظْلَافِ صَفْرَاءَ الْقُرُونِ، وَالْوَشْيُ خَلْطُ لَوْنٍ بِلَوْنٍ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْبَيَانِ وَاقْتَصَرُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أَيِ الْآنِ بَانَتْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ عَنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا بَقَرَةٌ عَوَانٌ صَفْرَاءُ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ، قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ كُفْرٌ مِنْ قِبَلِهِمْ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَوَامِرِ أَنَّهَا مَا كَانَتْ حَقَّةً، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْآنَ ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ مَا أَمَرْنَا بِهِ حَتَّى تَمَيَّزَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكُونُ كُفْرًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ فَالْمَعْنَى فَذَبَحُوا الْبَقَرَةَ وَمَا كَادُوا يَذْبَحُونَهَا، وَهَاهُنَا بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ ذَكَرُوا «لِكَادَ» تَفْسِيرَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّ نَفْيَهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتَهُ نَفْيٌ. فَقَوْلُنَا: كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ لَكِنَّهُ مَا فَعَلَهُ وَقَوْلُنَا: مَا كَادَ يَفْعَلُ كَذَا مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنْ أن يَفْعَلَ لَكِنَّهُ فَعَلَهُ. وَالثَّانِي:
وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ [الْجُرْجَانِيِّ] النَّحْوِيِّ أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُنَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ قَرُبَ مِنَ الْفِعْلِ وَقَوْلُنَا مَا كَادَ يَفْعَلُ مَعْنَاهُ مَا قَرُبَ مِنْهُ وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ هَذَا الثَّانِي بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ مَعْنَاهُ وَمَا قَارَبُوا الْفِعْلَ وَنَفْيُ الْمُقَارَبَةِ مِنَ الْفِعْلِ يُنَاقِضُ إِثْبَاتَ وُقُوعِ الْفِعْلِ، فَلَوْ كَانَ كَادَ لِلْمُقَارَبَةِ لَزِمَ وُقُوعُ التَّنَاقُضِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَاهُنَا أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ شَيْخٌ صَالِحٌ لَهُ عِجْلَةٌ فَأَتَى بِهَا الْغَيْضَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا لِابْنِي حَتَّى تَكْبُرَ وَكَانَ بَرًّا بِوَالِدَيْهِ فَشَبَّتْ وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَقَرِ وَأَسْمَنِهَا فَتَسَاوَمُوهَا الْيَتِيمَ وَأُمَّهُ حَتَّى اشْتَرَوْهَا بِمَلْءِ مِسْكِهَا ذَهَبًا وَكَانَتِ الْبَقَرَةُ إِذْ ذَاكَ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَكَانُوا طَلَبُوا الْبَقَرَةَ الْمَوْصُوفَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً «١».
الْبَحْثُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبَقَرَةَ تُذْبَحُ وَلَا تُنْحَرُ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا تُنْحَرُ، قَالَ: فَتَلَوْتُ الْآيَةَ عَلَيْهِ فَقَالَ: الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ سَوَاءٌ، وَحُكِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ إِنْ شِئْتَ نَحَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ ذَبَحْتَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالذَّبْحِ وَأَنَّهُمْ فَعَلُوَا مَا يُسَمَّى ذَبْحًا وَالنَّحْرُ وَإِنْ أَجْزَأَ عَنِ الذَّبْحِ فَصُورَتُهُ مُخَالِفَةٌ لِصُورَةِ الذَّبْحِ، فَالظَّاهِرُ يَقْتَضِي مَا قُلْنَاهُ حَتَّى لَوْ نَحَرُوا وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ مَقَامَ الذَّبْحِ لَكَانَ لَا يُجْزِي.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ مَا كَادُوا يَذْبَحُونَ، فَعَنْ بَعْضِهِمْ لِأَجْلِ غَلَاءِ ثَمَنِهَا وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُمْ خَافُوا الشُّهْرَةَ وَالْفَضِيحَةَ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، فَالْإِحْجَامُ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ جَائِزٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مَا كَانَ يَتِمُّ إِلَّا بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ إِذَا لَمْ يَجِدْهُ إِلَّا بِغَلَاءٍ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، وَلَوْلَاهُ لَلَزِمَ ذَلِكَ إِذَا وَجَبَ التَّطَهُّرُ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ خَوْفُ الْفَضِيحَةِ فَذَاكَ لَا يَرْفَعُ التَّكْلِيفَ، فَإِنَّ الْقَوَدَ إِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ إِذَا طَالَبَ وَرُبَّمَا لَزِمَهُ التعريف
لِيَزُولَ الشَّرُّ وَالْفِتْنَةُ وَرُبَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ لِتَزُولَ التُّهْمَةُ فِي الْقَتْلِ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ طُرِحَ الْقَتِيلُ بِالْقُرْبِ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ الَّذِي عَرَّضَهُمْ لِلتُّهْمَةِ فَيَلْزَمُهُ إِزَالَتُهَا فَكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُهُ سَبَبًا لِلتَّثَاقُلِ فِي هَذَا الْفِعْلِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ التَّثَاقُلَ فِيهِ وَالتَّكَاسُلَ فِي الِاشْتِغَالِ بِمُقْتَضَاهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ.
قَالَ الْقَاضِي: إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنَ الْمَأْمُورِ إِزَالَةَ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِهِ وَإِنَّمَا أَمَرَ تَعَالَى بِذَبْحِهَا لِكَيْ يَظْهَرَ الْقَاتِلُ فَتَزُولَ الْفِتْنَةُ وَالشَّرُّ الْمُخَوِّفُ فِيهِمْ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ هَذَا الْجِنْسِ الضَّارِّ وَاجِبٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلَاجُ إِزَالَتَهُ بِهَذَا الْفِعْلِ صَارَ واجباً وأيضاً فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنَّ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقُرْبَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا سَبِيلَ الْوُجُوبِ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ كَفَاهُمْ مُجَرَّدُ الْأَمْرِ. وَأَقُولُ: حَاصِلُ هَذَيْنِ السُّؤَالَيْنِ يَرْجِعُ إِلَى حَرْفٍ واحد وهو أنا وإنا كُنَّا لَا نَقُولُ إِنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْضًا فَلَعَلَّهُ فَهِمَ الْوُجُوبَ هَاهُنَا بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى الْأَمْرِ، وَذَلِكَ السَّبَبُ الْمُنْفَصِلُ إِمَّا قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ وَهِيَ الْعِلْمُ بِأَنَّ دَفْعَ الْمَضَارِّ وَاجِبٌ، أَوْ مَقَالِيَّةٌ وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ الْقُرْبَانَ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَذْكُورَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَلَمَّا ذُكِرَ الذَّمُّ وَالتَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الذَّبْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَنْشَأَ ذَلِكَ هُوَ مُجَرَّدُ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ لِمَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ.
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْفَوْرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ وَرَدَ التَّعْنِيفُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَوْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها فَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتْلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ. أَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتْلِ وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ، فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تكون متقدمة على الأول فِي الْوُجُودِ، فَأَمَّا التَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ تَارَةً يَتَقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي هَذَا النَّظْمِ، وَلَكِنَّ النَّظْمَ الْآخَرَ كَانَ مُسْتَحْسَنًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْجِيحِ هَذَا النَّظْمِ؟ قُلْنَا: إِنَّمَا قُدِّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ عَمِلَ عَلَى عَكْسِهِ لَكَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً لَذَهَبَ الْغَرَضُ مِنْ بَيْنِيَّةِ التَّفْرِيعِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَادَّارَأْتُمْ فِيها فَفِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: اخْتَلَفْتُمْ وَاخْتَصَمْتُمْ فِي شَأْنِهَا لِأَنَّ الْمُتَخَاصِمِينَ يَدْرَأُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَيْ يُدَافِعُهُ وَيُزَاحِمُهُ. وَثَانِيهَا: «ادَّارَأْتُمْ» أَيْ يَنْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ وَيُضِيفُهُ إِلَى غَيْرِهِ. وَثَالِثُهَا: دَفْعُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا عَنِ الْبَرَاءَةِ وَالتُّهْمَةِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ/ فِيهِ أَنَّ الدَّرْءَ هُوَ الدَّفْعُ. فَالْمُتَخَاصِمُونَ إِذَا تَخَاصَمُوا فَقَدْ دَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ تِلْكَ التُّهْمَةَ، وَدَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةَ صَاحِبِهِ عَنْ تِلْكَ الْفِعْلَةِ، وَدَفَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُجَّةَ صَاحِبِهِ فِي إِسْنَادِ تِلْكَ التُّهْمَةِ إِلَى غَيْرِهِ وَحَجَّةَ صَاحِبِهِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْهُ، قَالَ الْقَفَّالُ:
وَالْكِنَايَةُ فِي (فِيهَا) لِلنَّفْسِ، أَيْ فَاخْتَلَفْتُمْ فِي النَّفْسِ وَيُحْتَمَلُ فِي الْقِتْلَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قَتَلْتُمْ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَيْ مُظْهِرٌ لَا مَحَالَةَ مَا كَتَمْتُمْ مِنْ أَمْرِ الْقَتْلِ. فَإِنْ قِيلَ:
كَيْفَ أُعْمِلَ «مُخْرِجٌ» وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُضِيِّ؟ قُلْنَا: قَدْ حَكَى مَا كَانَ مُسْتَقْبَلًا فِي وَقْتِ التَّدَارُءِ كَمَا حَكَى الْحَاضِرُ فِي قَوْلِهِ: باسِطٌ ذِراعَيْهِ [الْكَهْفِ: ١٨] وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهُمَا «ادَّارَأْتُمْ، فَقُلْنَا» ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أَيْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا حُكِمَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَالتَّنَازُعَ فِي بَابِ الْقَتْلِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْفِتَنِ وَالْفَسَادِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ: لَا بُدَّ وَأَنْ يُزِيلَ هَذَا الْكِتْمَانَ لِيَزُولَ ذَلِكَ الْفَسَادُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَخْلُقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِلَّا لَمَا قَدَرَ عَلَى إِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَا يُسِرُّهُ الْعَبْدُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَدَامَ ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُهُ.
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ عَبْدًا لَوْ أَطَاعَ اللَّهَ مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حِجَابًا لَأَظْهَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ»
وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ.
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: «قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُخْفُونَ لِي أَعْمَالَهُمْ وَعَلَيَّ أَنْ أُظْهِرَهَا لَهُمْ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَكْتُومَاتِ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ صَاحِبَ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ طَلَبَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى وَجَدَهَا، ثُمَّ ذُبِحَتْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
لِلتَّعْقِيبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
حَصَلَ عَقِيبَ قوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبُوهُ
ضَمِيرٌ وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى النَّفْسِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّذْكِيرُ عَلَى تَأْوِيلِ الشَّخْصِ وَالْإِنْسَانِ وَإِمَّا إِلَى الْقَتِيلِ وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِذَبْحِهَا مَصْلَحَةٌ/ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَبْحِهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا عَلَى السَّوِيَّةِ وَالْأَقْرَبُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ غَيْرُهَا مَقَامَهَا لَمَا وَجَبَتْ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ عَلَى التَّخَيُّرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا وَهَاهُنَا سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ضَرْبِ الْمَقْتُولِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَهُ ابْتِدَاءً؟
الْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِيهِ لِتَكُونَ الْحُجَّةُ أَوْكَدَ وَعَنِ الْحِيلَةِ أَبْعَدَ فَقَدْ كَانَ يَجُوزُ لِمُلْحِدٍ أَنْ يُوهِمَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَحْيَاهُ بِضَرْبٍ مِنَ السِّحْرِ وَالْحِيلَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا حيي عند ما يُضْرَبُ بِقِطْعَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ انْتَفَتِ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَحْيَ بِشَيْءٍ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْجِسْمِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ إِنَّمَا حَيِيَ بِفِعْلٍ فَعَلُوهُ هُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إِعْلَامَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا بِتَمْوِيهٍ مِنَ الْعِبَادِ وَأَيْضًا فَتَقْدِيمُ الْقُرْبَانِ مِمَّا يُعَظِّمُ أَمْرَ الْقُرْبَانِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا أَمَرَ بِذَبْحِ غَيْرِ الْبَقَرَةِ، وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهَا لَوْ أُمِرُوا به كالكلام فيها، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهَا فَوَائِدَ، مِنْهَا التَّقَرُّبُ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي كَانَتِ الْعَادَةُ بِهِ جَارِيَةً وَلِأَنَّ هَذَا الْقُرْبَانَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْقَرَابِينِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الثَّوَابِ لِتَحَمُّلِ الْكُلْفَةِ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ عَلَى غَلَاءِ ثَمَنِهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ الْمَالِ الْعَظِيمِ لِمَالِكِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ الَّذِي ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ مَا هُوَ؟ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ فِي أَبْعَاضِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ وَأَيُّ بَعْضٍ مِنْ أَبِعَاضِ الْبَقَرَةِ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ فَقِيلَ: لِسَانُهَا وَقِيلَ: فَخْذُهَا الْيُمْنَى وَقِيلَ: ذَنَبُهَا وَقِيلَ: الْعَظْمُ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ وَهُوَ أَصْلُ الْآذَانِ، وَقِيلَ: الْبِضْعَةُ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ وَرَدَ خَبَرٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وَإِلَّا وَجَبَ السُّكُوتُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فَضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا فَحَيِيَ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
وَعَلَيْهِ هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الْبَقَرَةِ: ٦٠] أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ، رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، وَقَالَ قَتَلَنِي فُلَانٌ، وَفُلَانٌ لا بني عَمِّهِ ثُمَّ سَقَطَ مَيِّتًا: وَقُتِلَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ وجهان: أحدهما: أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى نَفْسِ ذَلِكَ الْمَيِّتِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ احْتِجَاجٌ فِي صِحَّةِ الْإِعَادَةِ، ثُمَّ هذا الِاحْتِجَاجُ أَهْوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ لَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ هَذَا الْإِحْيَاءَ قَدْ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلِمُوا صِحَّةَ الْإِعَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ دِاعِيَةً لَهُمْ إِلَى التَّفَكُّرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَأَنَّهُ سَبَبُ إحياء ذلك/ الميت، ثم قال: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فَجَمَعَ الْمَوْتى
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْقَتِيلَ لَمَا جَمَعَ فِي الْقَوْلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِعَادَةَ كَالِابْتِدَاءِ فِي قُدْرَتِهِ. الثَّانِي: قَالَ الْقَفَّالُ: ظَاهِرُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِحْيَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِسَائِرِ الْمَوْتَى يَكُونُ مِثْلَ هَذَا الْإِحْيَاءِ الَّذِي شَاهَدْتُمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَمْ يُشَاهِدُوا شَيْئًا مِنْهُ، فَإِذَا شَاهَدُوهُ اطْمَأَنَّتْ قُلُوبُهُمْ وَانْتَفَتْ عَنْهُمُ الشُّبْهَةُ الَّتِي لَا يَخْلُو مِنْهَا الْمُسْتَدِلُّ، وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إِلَى قَوْلِهِ: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦] فَأَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْقَتِيلَ عَيَانًا، ثُمَّ قَالَ لهم: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أَيْ كَالَّذِي أَحْيَاهُ فِي الدُّنْيَا يُحْيِي فِي الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ فِي ذَلِكَ الْإِيجَادِ إِلَى مَادَّةٍ وَمُدَّةٍ وَمِثَالٍ وَآلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَاسَ عَلَى إِحْيَاءِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْقَتِيلِ مَيِّتًا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ ذَلِكَ كَانَ آيَةً وَاحِدَةً فَلِمَ سُمِّيَتْ بِالْآيَاتِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ. الْعَالِمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، الْمُخْتَارِ فِي الْإِيجَادِ وَالْإِبْدَاعِ، وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى بَرَاءَةِ سَاحَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا. وَعَلَى تَعَيُّنِ تِلْكَ التُّهْمَةِ عَلَى مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ الْقَتْلَ، فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ آيَةً وَاحِدَةً إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا دَلَّتْ عَلَى هَذِهِ الْمَدْلُولَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا جَرَمَ جَرَتْ مَجْرَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «لَعَلَّ» قَدْ تَقَدَّمَ تفسيرها في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عُقَلَاءَ قَبْلَ عَرْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِمْ وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ حَاصِلًا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ: إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْكَ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ لِكَيْ تَصِيرَ عَاقِلًا، فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَعَلَّكُمْ تَعْمَلُونَ عَلَى قَضِيَّةِ عُقُولِكُمْ وَأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَنْفُسِ كُلِّهَا لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، حَتَّى لَا يُنْكِرُوا الْبَعْثَ، هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا؟ قَالُوا: لَا. لِأَنَّهُ روي عن عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ قَاتِلًا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ حُرِمَ مِنَ الْمِيرَاثِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَاتِلًا. قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ كَانَ وَارِثًا لِقَتِيلِهِ أَمْ لَا؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَهُ فَهَلْ حُرِمَ الْمِيرَاثَ أَمْ لَا؟ وَلَيْسَ يَجِبُ إِذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقَاتِلَ حُرِمَ لِمَكَانِ قَتْلِهِ الْمِيرَاثَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إِذَا كَانَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مُجْمَلًا وَلَا مُفَصَّلًا، وَإِذَا كَانَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَرْعَهُمْ كَشَرْعِنَا وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، فَإِدْخَالُ هَذَا الْكَلَامِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ تَعَسُّفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي حَقٌّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنَّ الْقَاتِلَ هَلْ يَرِثُ أَمْ لَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرِثُ سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا كَالْعَادِلِ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، لَا يَرِثُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِلَّا أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ، وَكَذَا الْقَاتِلُ إِذَا كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَرِثُهُ لَا من ديته ولا من سائر أمواله، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: قَاتِلُ الْخَطَأِ يَرِثُ وَقَاتِلُ الْعَمْدِ لَا يَرِثُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرِثُهُ مِنْ دِيَتِهِ وَيَرِثُهُ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعُمُومِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ الْمُسْتَفِيضِ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ»
إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْخَبَرِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ جَوَّزْنَا تَخْصِيصَ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، ثُمَّ هَاهُنَا دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ تَطَرُّقَ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ يُفِيدُ نَوْعَ ضَعْفٍ فَلَوْ خَصَّصْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِبَعْضِ الصُّوَرِ فَحِينَئِذٍ يَتَوَالَى عَلَيْهِ أَسْبَابُ الضَّعْفِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ خَبَرَ وَاحِدٍ يُوجِبُ الضَّعْفَ وَكَوْنَهُ عَلَى مُصَادَمَةِ الْكِتَابِ سَبَبٌ آخَرُ وَكَوْنَهُ مَخْصُوصًا سَبَبٌ آخَرُ، فَلَوْ خَصَّصْنَا عُمُومَ الْكِتَابِ بِهِ لَكُنَّا قَدْ رَجَّحْنَا الضَّعِيفَ جِدًّا عَلَى الْقَوِيِّ جِدًّا. أَمَّا إِذَا لَمْ يُخَصَّصْ هَذَا الْخَبَرُ أَلْبَتَّةَ انْدَفَعَ عَنْهُ بَعْضُ أَسْبَابِ الضَّعْفِ فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ. وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى أَنَّ الْعَادِلَ إِذَا قَتَلَ الْبَاغِيَ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ قَوَدًا أَنَّهُ لَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يمنعون هذه الصورة والله أعلم.