آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﰿ

داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس: (لعلكم تتقون)، قال: تنزعون عما أنتم عليه.
* * *
والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-
١١٣٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (واذكروا ما فيه) يقول: اذكروا ما في التوراة.
١١٣٤ - كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (واذكروا ما فيه) يقول: أمروا بما في التوراة.
١١٣٥ - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: (واذكروا ما فيه)، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. (١) قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ثم توليتم) : ثم أعرضتم. وإنما هو"تفعلتم" من قولهم:"ولاني فلان دبره" إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. (٢) يقال:"قد تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن مواصلته"، ومنه قول الله جل ثناؤه: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [التوبة: ٧٦]، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ

(١) في المطبوعة: "بطاعة الله وصدق" خطأ.
(٢) في المطبوعة: "طاعة أمر: عز وجل"، بزيادة الثناء على ربنا سبحانه، وعلى أن"أمر" مبني للمعلوم. وهذا مخالف للسياق، وسهو من النساخ.

صفحة رقم 162

وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [التوبة: ٧٥]، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم
* * *
ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها، كما قال أبو خراش الهذلي: (١)
فليس كعهد الدار يا أم مالك... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل (٢) وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحق شيئا واستراحل (٣)
يعني بقوله:"أحاطت بالرقاب السلاسل"، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.
ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: (ثم توليتم

(١) كان في المطبوعة: "قال أبو ذؤيب الهذلي"، وهو خطأ فاضح، لا يقع في مثله مثل أبي جعفر.
(٢) ديوان الهذليين ٢: ١٥٠، وسيرة ابن هشام ٤: ١١٦، والأغاني ٢١: ٤١، والكامل ١: ٢٦٧. وهي أبيات جياد في رثاء صديق. وذلك أن زهير بن العجوة الهذلي من بني عمرو بن الحارث - وكان ابن عم ابي خراش، وله صديقا - خرج يطلب الغنائم يوم حنين فأسر، وكتف في أناس أخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه جميل بن معمر الجمحي - وكانت بينهما إحنة في الجاهلية - فقال له: أنت الماشي لنا بالمغايظ؟ فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه. وقال لجميل بن معمر:
وإنك لو واجهته إذ لقيته فنازلته، أو كنت ممن ينازل
لظل جميل أسوأ القوم تلة ولكن قرن الظهر للمرء شاغل
فليس كعهد.......... ....................
وفي المطبوعة: "فليس لعهد الدار" خطأ. ويعني بقوله: "الدار": مكة وما حولها وما جاورها. يقول: ليس الأمر كما عهدت بها وعهدتا، جاء الإسلام فهدم ذلك كله.
(٣) يقول: فارق الفتى أخلاق فتوته وعرامه، وصار كالكهل في أناته وتثبته، فإن الدين قد وقذ الفتيان ذوى البأس وسكنهم من مخافة عقاب ربهم في القتل من غير قتال ومعركة. فاستراحت العواذل لأنهن أصبحن لا يجدن ما يعذلن فيه أزواجهن من التعرض للهلاك.

صفحة رقم 163

من بعد ذلك)، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.
وكنى بقوله جل ذكره:"ذلك"، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة، أعني قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره ﴿فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (فلولا فضل الله عليكم)، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة = بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم = لكنتم من الخاسرين.
وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب، فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى. (١)
* * *

(١) انظر ما مضى في هذا الجزء ٢: ٣٨ - ٣٩.

صفحة رقم 164

وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.
* * *
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين -وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- (١) أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر: (٢)

إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة، ولم تجدي من أن تقري به بدا
(٣)
فقال:"إذا ما انتسبنا"، و"إذا" تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال:"لم تلدني لئيمة"، فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله ﷺ أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.
والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.
* * *
(١) في المطبوعة: "إذ المعنى في ذلك.. "، وهو كلام لا يستقيم. وسياق الجملة يقتضي أن توضع"أن" مكان"إذ" أي: "لأن سامعيه كانوا عالمين.. أن المعنى في ذلك.. "، وما بينهما فصل واعتراض.
(٢) في حاشية الأمير على مغنى اللبيب ١: ٢٥ قال: "في حاشية السيوطي" قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي، يعرض بزوجته، وكانت أمها سرية"، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى: ٣٣.
(٣) سيأتي في هذا الجزء ١: ٣٣٣ (بولاق)، وفي ٣: ٤٩ (بولاق)، ومعانى الفراء:

صفحة رقم 165

وكان أبو العالية يقول في قوله: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.
١١٣٦ - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر، عن الربيع، عن أبي العالية: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته)، قال:"فضل الله"، الإسلام،"ورحمته"، القرآن.
١١٣٧ - وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [عن أبيه]، عن الربيع بمثله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.
وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى"الخسار" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولقد علمتم)، ولقد عرفتم. (٣) كقولك:

(١) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، وانظر آخر إسناد عن عمار بن الحسن رقم: ١١٣٤.
(٢) انظر ما مضى ١: ٤١٧.
(٣) سيأتي دليل هذا من تفسير ابن عباس في رقم: ١١٣٨.

صفحة رقم 166

قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه"، يعني عرفته، ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: ٦٠]، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.
* * *
وقوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت)، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.
وقد دللت -فيما مضى- على أن"الاعتداء"، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - (٢) ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:-
١١٣٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني، اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة،

(١) انظر ما مضى من هذا الجزء: ٢: ١٤٢.
(٢) سياق عبارته: مما عدد الله على بني إسرائيل... ما كانوا يبرمون من العقود"، وما بينهما فصل بصفة"بني إسرائيل".

صفحة رقم 167

وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد ﷺ محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. (١) ومن لم يفعل ذلك، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها -: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، (٢) وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت -: أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا) [الأعراف: ١٦٣]، يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله: (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف: ١٦٣]. ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام] (٣) ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء، ويحوله كما يشاء.
١١٣٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-. فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها"مدين". فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان، (٤) عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في

(١) في المطبوعة: "بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم"، وهي جملة غير صحيحة، صححتها كما ترى.
(٢) سبت: سكن، وقولهم: "سبت له"، يريدون: خشع له وانقطع عن كل عمل إلا عبادته سبحانه وانظر ما سيأتي ص: ١٧٤.
(٣) هذه الزيادة من تفسير ابن كثير ١: ١٩٣، والدر المنثور ١: ٧٥، وهي زيادة لا بد منها. وفي المطبوعة بعدها؛"ولم تأكل ولم تشرب، ولم تنسل" خطأ.
(٤) القرم: شدة الشهوة إلى اللحم، قرم يقرم (بفتح الراء) قرما (بفتحتين).

صفحة رقم 168

يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. (١) قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة: (٢) ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) لسخطنا أعمالهم - (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) [الأعراف: ١٦٤]، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية [الأعراف: ١٦٣].
١١٤٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة

(١) عثر على الأمر: اطلع عليه وكان خافيا. وفي المطبوعة: "على ما صنع"، وأثبت نص ابن كثير في التفسير ١: ١٩٤.
(٢) في المطبوعة: "من أهل التقية"، وهو خطأ محض. أهل البقية: هم أهل التمييز والفهم، يبقون على أنفسهم بطاعة الله، وبتمسكهم بالدين المرضي. وفلان بقية: فيه فضل وخير فيما يمدح به وسيأتي بعد على الصواب. وقال الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) [سورة هود: ١١٦].

صفحة رقم 170

خاسئين) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم: (كونوا قردة خاسئين) فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.
١١٤١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، فكانت تشرع إليهم يوم السبت، وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم الله قردة خاسئين.
١١٤٢ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال: فهم أهل"أيلة"، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) [الأعراف: ١٦٣]، فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث [فيها]. (١) فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي

(١) الزيادة من تفسير ابن كثير ١: ١٩٥.

صفحة رقم 171

السمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) [الأعراف: ١٦٤]، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأعراف: ١٦٤]. فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: ١٦٦]، فذلك حين يقول: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [المائدة: ٧٨]، فهم القردة.
١١٤٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا (١).
١١٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن

(١) سورة الجمعة: ٥٤.

صفحة رقم 172

ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. (١) وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، (٢) كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: ١٥٣]، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: ٢٤] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: (٣) هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. (٤) ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض -فيما أنكر من ذلك- بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته.
* * *

(١) انظر معنى"ظاهر" فيما سلف ٢: ١٥ والمراجع.
(٢) سورة المائدة: ٦٠.
(٣) في المطبوعة: "فسواء قال قائل"، وسياق العبارة يقتضي التقديم. لقوله"وآخر قال".
(٤) في المطبوعة: "والعقوبات والأنكال"، ليس صوابا. والنكال: العذاب الشديد يكون عبرة للناس حتى ينكلوا عن شيء ويخافوه. وأما"الأنكال" فجمع نكل: وهو القيد.

صفحة رقم 173
جامع البيان في تأويل آي القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري
تحقيق
أحمد شاكر
الناشر
مؤسسة الرسالة
الطبعة
الأولى، 1420 ه - 2000 م
عدد الأجزاء
24
التصنيف
كتب التفسير
اللغة
العربية
٦١، ١٧٨ وقبل البيت يقول لامرأته. رمتنى عن قوس العدو، وباعدت عبيدة، زاد الله ما بيننا بعدا