
وقوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها، فصرح قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم. وسلط عليه، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، قال ابن عباس وغيره: «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر».
وقوله تعالى: ذلِكَ رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه، والباء في بِما باء السبب، ويَعْتَدُونَ معناه: يتجاوزون الحدود، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي.
قوله عز وجل:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
اختلف المتأولون في المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا في هذه الآية، فقال سفيان الثوري: هم المنافقون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في ظاهر أمرهم، وقرنهم باليهود وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم، فمعنى قوله مَنْ آمَنَ في المؤمنين المذكورين: من حقق وأخلص، وفي سائر الفرق المذكورة: من دخل في الإيمان. وقالت فرقة: الَّذِينَ آمَنُوا هم المؤمنون حقا بمحمد صلى الله عليه وقوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق بمعنى من دخل فيه. وقال السدي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، كزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وَالَّذِينَ هادُوا كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، إلا من كفر بعيسى عليه السلام، وَالنَّصارى كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، وَالصَّابِئِينَ كذلك، قال: إنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، وذكر له الطبري قصة طويلة، وحكاها أيضا ابن إسحاق، مقتضاها أنه صحب عبادا من النصارى فقال له آخرهم:
إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقته فآمن به، ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء إلى النبي ﷺ وأسلم ذكر له خبرهم، وسأله عنهم، فنزلت هذه الآية.
وروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أول الإسلام، وقرر الله بها أن من آمن بمحمد ﷺ ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فله أجره، ثم نسخ ما قرر من ذلك بقوله تعالى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: ٨٥] وردت الشرائع كلها إلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وَالَّذِينَ هادُوا هم اليهود، وسموا بذلك لقولهم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الأعراف: ١٥٦] أي تبنا، فاسمهم على هذا من هاد يهود، وقال الشاعر: [السريع] إني امرؤ من مدحتي هائد أي تائب، وقيل: نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب، فلما عرب الاسم لحقه التغيير كما تغير العرب في بعض ما عربت من لغة غيرها، وحكى الزهراوي أن التهويد النطق في سكون ووقار ولين، وأنشد:
وخود من اللائي تسمعن بالضحى | قريض الردافى بالغناء المهود |
وَالنَّصارى لفظة مشتقة من النصر، إما لأن قريتهم تسمى ناصرة، ويقال نصريا ويقال نصرتا، وإما لأنهم تناصروا، وإما لقول عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: ١٥٢، الصف: ٤] قال سيبويه: واحدهم نصران ونصرانة كندمان وندمانة وندامى، وأنشد: [أبو الأخرز الحماني] :[الطويل]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها | كما سجدت نصرانة لم تحنّف |
يظل إذا دار العشيّ محنّفا | ويضحي لديها وهو نصران شامس |
والصابىء في اللغة من خرج من دين إلى دين، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبا، وقيل إنها سمتهم بذاك لما أنكروا الآلهة تشبيها بالصابئين في الموصل الذين لم يكن لهم بر إلا قولهم لا إله إلا الله، وطائفة همزته وجعلته من صبأت النجوم إذا طلعت، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت، قال أبو علي:
يقال صبأت على القوم بمعنى طرأت، فالصابىء التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابىء على القوم تارك لأرضه ومنتقل إلى سواها، وبالهمز قرأ القراء غير نافع فإنه لم يهمزه، ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال، أو يجعله على قلب الهمزة ياء، وسيبويه لا يجيزه إلا في الشعر.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: وَالصَّابِئِينَ فقال السدي: هم فرقة من أهل الكتاب، وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، ليسوا بيهود ولا نصارى، وقال ابن أبي نجيح: هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم، وقال ابن زيد: هم قوم يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بجزيرة الموصل، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويصلون الخمس ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة. صفحة رقم 157

ومَنْ في قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ في موضع نصب بدل من الَّذِينَ، والفاء في قولهم فَلَهُمْ داخلة بسبب الإبهام الذي في مَنْ و «لهم أجرهم» ابتداء وخبر في موضع خبر إِنَّ، ويحتمل ويحسن أن تكون مَنْ في موضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والفاء في قوله فَلَهُمْ موطئة أن تكون الجملة جوابها، و «لهم أجرهم» خبر مَنْ، والجملة كلها خبر إِنَّ، والعائد على الَّذِينَ محذوف لا بد من تقديره، وتقديره «من آمن منهم بالله».
وفي الإيمان باليوم الآخر اندرج الإيمان بالرسل والكتب، ومنه يتفهم، لأن البعث لم يعلم إلا بإخبار رسل الله عنه تبارك وتعالى، وجمع الضمير في قوله تعالى «لهم أجرهم» بعد أن وحد في آمَنَ لأن مَنْ تقع على الواحد والتثنية والجمع، فجائز أن يخرج ما بعدها مفردا على لفظها، أو مثنى أو مجموعا على معناها، كما قال عز وجل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يونس: ٤٢] فجمع على المعنى، وكقوله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ [النساء: ١٣] ثم قال خالِدِينَ فِيها [النساء: ١٣] فجمع على المعنى، وقال الفرزدق: [الطويل]
تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني | نكن مثل من يا ذئب يصطحبان |
وقرأ الحسن «ولا خوف»، نصب على التبرية، وأما الرفع فعلى الابتداء، وقد تقدم القول في مثل هذه الآية.
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ، إِذْ معطوفة على التي قبلها، والميثاق مفعال من وثق يثق، مثل ميزان من وزن يزن، والطُّورَ اسم الجبل الذي نوجي موسى عليه، قاله ابن عباس، وقال مجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم: الطُّورَ اسم لكل جبل، ويستدل على ذلك بقول العجاج: [الرجز]
دانى جناحيه من الطور فمر | تقضّي البازي إذا البازي كسر |
وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله تعالى بالألواح فيها التوراة، قال لهم: خذوها والتزموها، فقالوا: لا إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلمك، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين، طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم نارا بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيعوها، وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وقال الطبري رحمه الله عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة لم يكن عليهم ميثاق، وكانت سجدتهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون صفحة رقم 158