
فتأويل قوله: (بما كانوا يفسقون) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ﴾
يعني بقوله: (وإذ استسقى موسى لقومه)، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسئول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، (١) إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.
وكذلك قوله: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا)، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه.
وكذلك قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم. فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن"أناس" جمع لا واحد له من لفظه، (٢) وأن"الإنسان" لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية. (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة: "ان الناس جمع لا واحد له"، وقد مضى ذلك، ولكنه هنا أراد"أناس"، المذكور في الآية، وهو أيضًا جمع لا واحد له من لفظه، وإن قال بعضهم إنه جمع إنس
(٣) انظر ما سلف ١: ٢٦٨.

وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات. وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، كما:-
١٠٤٣ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه. فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم.
١٠٤٤ - حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول. (١).
١٠٤٥ - حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه. ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
١٠٤٦ - وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) لكل سبط منهم عين. كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا.
١٠٤٧ - حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج

، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه)، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا، ضربه موسى. قال ابن جريج: قال ابن عباس:"الأسباط" بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس. (١)
١٠٤٨ - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا، (٢) ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين، فكان بنو إسرائيل يشربون منه، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون، وقيل به فألقى في جانب الجوالق (٣). فإذا نزل رمى به، فقرعه بالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
١٠٤٩ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط، عن السدي قال: كان ذلك في التيه.
* * *
وأما قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم -في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- (٤) من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل. وذلك
(٢) الجوالق: وعاء كبير منسوج من صوف أو شعر، تحمل فيه الأطعمة، وهو الذي نسميه في بلادنا"الشوال" محرفة من"الجوالق".
(٣) "قيل به" مبني للمجهول من"قال به". وقال بالشيء: رفعه أو حمله. والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان. يقولون: قال برجله: إذا بدأ يتقدم ومشى، أو إذا أشار بها للركل. ويقولون: قال بالماء على يده أي قلبه وصبه. وما أشبه ذلك. وقد مضى مثل ذلك آنفًا ص ٥٤ تعليق: ٣، ص: ٦٤ تعليق: ٤.
(٤) سياق الجملة "لأن معناهم.. من الشرب، كالذي مخالفا معاني"، وفصل كعادته فيما بينا مرارا. يعني لأن شربهم كان مخالفا شرب سائر الناس..

أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس. إذ كان غيرهم -في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ﴾
وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر)، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، (١) الذي لا قرار له في الأرض، ولا سبيل إليه [إلا] لمالكيه، (٢) يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام.
ثم تقدم جل ذكره إليهم (٣) - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما
(٢) في المطبوعة: "لا سبيل إليه لمالكيه"، وهو كلام بلا معنى. والصواب ما أثبتناه بزيادة"إلا" ويدل على صواب ذلك ما مضى منذ قليل في تفسير ما سبق من الآية.
(٣) تقدم إليه بكذا: إذا أمره.

أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا، والعَثَا فيها استكبارا، فقال جل ثناؤه لهم: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) ﴾
يعني بقوله: (لا تعثوا) لا تطغوا، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما:-
١٠٥٠ - حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.
١٠٥١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) لا تعث: لا تطغ.
١٠٥٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين.
١٠٥٣ - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، لا تسعوا في الأرض.
وأصل " العَثَا " شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد. (١) يقال منه: عَثِيَ فلان في الأرض" -إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته-"يعثى عثا" مقصور، وللجماعة: هم يعثون. وفيه لغتان أخريان، إحداهما: "عثا يعثو عُثُوّا ". ومن قرأها بهذه اللغة، فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من"يعثو"، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته