
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تعدّد النعم على بني إِسرائيل، وهذه إِحدى النعم العظيمة عليهم حين كانوا في التيه، وعطشوا عطشاً شديداً كادوا يهلكون معه، فدعا موسى ربه أن يغيثهم فأوحى الله إِليه أن يضرب بعصاه الحجر، فتفجرت منه عيون بقدر قبائلهم، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة فجرى لكل منهم جدول خاص، يأخذون منه حاجتهم لا يشاركهم فيه غيرهم، وكان موضوع السقيا آية باهرة ومعجزة ظاهرة لسيدنا موسى عليه السلام ومع ذلك كفروا وجحدوا.
اللغَة: ﴿استسقى﴾ طلب السقيا لقومه لأن السين للطلب مثل: استنصر واستخبر قال أبو حيان: الاستسقاء: طلب الماء عند عدمه أو قلته، ومفعوله محذوف أي استسقى موسى ربّه ﴿فانفجرت﴾ الانفجار: الإِنشقاق ومنه سمي الفجر لانشقاق ضوئه، وانفجر وانبجس بمعنى واحد قال تعالى ﴿فانبجست مِنْهُ﴾ [الأعراف: ١٦٠]، ﴿مَّشْرَبَهُمْ﴾ جهة وموضع الشرب ﴿تَعْثَوْاْ﴾ العيث:

شدة الفساد، قال: عَثِيَ يعثَى: وعثَا يعثوا إِذا أفسد فهو عاثٍ، قال الطبري: معناه تطغوا وأصله شدة الإِفساد ﴿وَفُومِهَا﴾ الفوم: الثوم وقيل: الحنطة ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ﴾ الاستبدال: ترك شيء لآخر وأخذ غيره مكانه ﴿أدنى﴾ أخسَّ وأحقر يقال رجل دنيء إِذا كان يتتبع الخسائس ﴿الذلة﴾ الذل والهوان والحقارة ﴿والمسكنة﴾ الفاقة والخشوع مأخوذة من السكون لأن المسكين قليل الحركة لما به من الفقر ﴿وَبَآءُو﴾ رجعوا وانصرفوا قال الرازي: ولا يقال باء إِلا بشرّ ﴿يَعْتَدُونَ﴾ الإِعتداء: تجاوز الحد في كل شيء واشتهر في الظلم والمعاصي.
التفسير: ﴿وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين طلب موسى السقيا لقومه وقد عطشوا في التيه ﴿فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر﴾ أي اضرب أيّ حجر كان تتفجر بقدرتنا العيون منه ﴿فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ أي فضرب فتدفق الماء منه بقوة وخرجت منه اثنتا عشرة عيناً بقدر قبائلهم ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ أي علمت كل قبيلة مكان شربها لئلا يتنازعوا ﴿كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله﴾ أي قلنا لهم: كلوا من المنّ والسلوى، واشربوا من هذا الماء، من غير كدّ منكم ولا تعب، بل هو من خالص إِنعام الله ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾ أي ولا تطغوا في الأرض بأنواع البغي والفساد. ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى﴾ أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين قلتم لنبيكم موسى وأنتم في الصحراء تأكلون من المن والسلوى ﴿لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ أي على نواع واحدٍ من الطعام وهو المنُّ والسلوى ﴿فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض﴾ أي ادع الله أن يرزقنا غير ذلك الطعام فقد سئمنا المنَّ والسلوى وكرهناه ونريد ما تخرجه الأرض من الحبوب والبقول ﴿مِن بَقْلِهَا﴾ من خضرتها كالنعناع والكرفس والكراث ﴿وَقِثَّآئِهَا﴾ يعني القتَّة التي تشبه الخيار ﴿وَفُومِهَا﴾ أي الثوم ﴿وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ أي العدس والبصل المعروفان ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ﴾ أي قال لهم موسى منكراً عليهم: ويحكم أتستبدلون الخسيس بالنفيس! وتفضلون البصل والبقل والثوم على المنّ والسلوى؟ ﴿اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ أي ادخلوا مصراً من الأمصار وبلداً من البلدان أيّاً كان لتجدوا فيه مثل هذه الأشياء.
. ثم قال تعالى منبهاً على ضلالهم وفسادهم وبغيهم وعدوانهم ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ أي لزمهم الذل والهوان وضرب عليهم الصغار والخزي الأبدي الذي لا يفارقهم مدى الحياة ﴿وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله﴾ أي انصرفوا ورجعوا بالغضب والسخط الشديد من الله ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما نالوه من الذل والهوان والسخط والغضب بسبب ما اقترفوه من الجرائم الشنيعة ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق﴾ أي بسبب كفرهم بآيات الله جحوداً واستكباراً، وقتلهم رسل الله ظلماً وعدواناً ﴿ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ أي بسبب عصيانهم وطغيانهم وتمردهم عَلى أحكام الله ثمَّ دعا تعالى أصحاب الملل والنحل «المؤمنين، واليهود، والنصارى، والصابئين» إِلى الإِيمان الصادق وإخلاص العمل لله وساقه بصيغة الخبر فقال ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ المؤمنون أتباع محمد ﴿والذين هَادُواْ﴾ أتباع موسى ﴿والنصارى﴾ أتباع عيسى ﴿والصابئين﴾ قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة ﴿مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر﴾

أي من آمن من هذه الطوائف إِيماناً صادقاً فصدَّق بالله، وأيقن بالآخرة ﴿وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي عمل بطاعة الله في دار الدنيا ﴿فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم ثوابهم عند الله لا يضيع منه مثقال ذرة ﴿وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب، ويحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب.
البَلاَغَة: أولاً: في إِضافة الرزق إِلى الله تعالى ﴿كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله﴾ تعظيمٌ للمنَّة والإِنعام وإِيماء إِلى أنه رزقٌ من غير تعب ولا مشقة.
ثانياً: في التصريح بذكر الأرض ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض﴾ مبالغةٌ في تقبيح الفساد وقوله ﴿مُفْسِدِينَ﴾ حالٌ مؤكدة ووجه فصاحة هذا الأسلوب أن المتكلم قد تشتد عنايته بأن يجعل الأمر أو النهي لا يحوم حوله لبسٌ أو شك، ومن مظاهر هذه العناية التوكيد فقوله ﴿مُفْسِدِينَ﴾ يكسو النهي عن الفساد قوة، ويجعله بعيداً من أن يُغفل عنه أن يُنسى.
ثالثاً: قوله تعالى ﴿مِمَّا تُنْبِتُ الأرض﴾ المنبت الحقيقي هو الله سبحانه ففيه جاز يسم (المجاز العقلي) وعلاقته السببية لأن الأرض لما كانت سبباً للنبات أُسند إِليها.
رابعاً: قوله ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة﴾ كناية عن إحاطتهما بهم كما تحيط القبَّة بمن ضربت عليه كما قال الشاعر:
إِن السماحة والمروءة والندى | في قبَّة ضربت على ابن الحشرج |
الفوَائِد: الأولى: حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في الحجر الذي ضربه موسى فجرت منه العيون ما هو؟ وكيف وصفه؟ وقد ضربنا صفحاً عن هذا الأقوال والذي يكفي في فهم معنى الآية أن واقعة انفجار الماء إِنما كان على وجه «المعجزة» وأن الحجر الذي ضربه موسى كان من الصخر الأصم الذي ليس من شأنه الانفجار بالماء، وهنا تكون المعجزة أوضح، والبرهان أسطع قال الحسن البصري: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة.
الثانية: فإِن قيل ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً؟ والجواب: أن قوم موسى كانوا كثيرين وكانوا في الصحراء، والناس إِذا اشتدت بهم الحاجة إِلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع، فأكمل الله هذه النعمة بأن عيّن لكل سبط منهم ماءً معيناً على عددهم لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً، وهم ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر والله أعلم.
الثالثة: ذهب بعض المفسرين إِلى أن المراد بالفوم في قوله ﴿وَفُومِهَا﴾ الحنطة والأرجح أن المراد به الثوم بدليل قراءة ابن مسعود ﴿وثومها﴾ وبدليل اقتران البصل بعده قال الفخر الرازي: صفحة رقم 55

الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة، واستدل القرطبي على ذلك بقول حسان:
وأنتم أُناسٌ لئامُ الأصول | طعامكم الفوم والحوقل |