
غير مرتضى، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ ٣٤/ ٢٣] وليس في الشفاعة رجوع المولى عن إرادته لأجل الشافع، وإنما هي إظهار كرامة للشافع بتنفيذ ما أراده الله أزلا عقب دعاء الشافع، والشفاعة دعاء. وليس في إثبات شفاعة مسوغ لمغتر يتهاون بأوامر الدين ونواهيه اعتمادا على الشفاعة، فلا ينفع أحدا في الآخرة إلا طاعة الله ورضاه.
وأما تفضيل بني إسرائيل فهو ليس دائما ولا عاما، وإنما هو مقصور على عالمي زمانهم، ومرتبط بمدى تنفيذهم أوامر الله، فالتفضيل هو مناط الأخذ بالفضائل وترك الرذائل، والفضل إن كان بكثرة الأنبياء فيهم فهو صحيح لا شك فيه، ولا تقضي هذه الفضيلة بأن يكون كل فرد منهم أفضل من كل فرد من غيرهم، ويزول الفضل إذا هم انحرفوا عن هدي أنبيائهم وتركوا سنتهم. وإن كان المراد من التفضيل هو القرب من الله بمرضاته، فهو مختص بالأنبياء والمهتدين من أهل زمانهم والتابعين لهم فيه، ومقيد بمدة الاستقامة على العمل الذي استحقوا به التفضيل «١».
نعم الله تعالى العشر على اليهود
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٤]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)

الإعراب:
إِذْ معطوف على نِعْمَتِيَ ومنصوب بفعل محذوف تقديره: واذكروا إذ نجيناكم.
وكذلك قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا، وَإِذْ واعَدْنا مُوسى، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى.
فِرْعَوْنَ ممنوع من الصرف للتعريف والعجمة، ومعناه في القبطية: التمساح. يَسُومُونَكُمْ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من آل فرعون. وكذلك يُذَبِّحُونَ ويَسْتَحْيُونَ حال منهم أيضا.
واعَدْنا بمعنى وعدنا، لأن الأصل في «فاعلنا» أن تكون مشاركة من اثنين، ولا يحسن هاهنا، لأن الله تعالى وعد موسى، ولم يكن من موسى وعد الله تعالى. اتَّخَذْتُمُ فعل يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، الأول منهما (العجل) والثاني مقدر وتقديره: إلها.
وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ جملة اسمية في موضع الحال من ضمير اتَّخَذْتُمُ.
ذلِكُمْ أراد المذكور، وهو يشمل القتل والتوبة.
البلاغة:
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ استعارة من السّوم في البيع. بَلاءٌ وعَظِيمٌ التنكير فيهما للتفخيم والتهويل.
واعَدْنا ليست على أصلها وهو المشاركة من اثنين، وإنما هي بمعنى «وعدنا» كما بينا في الإعراب.
هذا وعطف الفرقان على الكتاب في آية (٥٣) من باب عطف الصفات بعضها على بعض، لأن الكتاب هو التوراة، والفرقان هو التوراة أيضا، فهو كتاب منزل وفارق بين الحق والباطل.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ أي آباءكم، تذكيرا لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا. وفرعون: لقب لمن ملك مصر قبل البطالسة يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ أشده أي العذاب الشديد.
يَسْتَحْيُونَ يبقون نساءكم أحياء، ويقتلون الرجال، لقول بعض الكهنة لفرعون: إن مولودا

يولد في بني إسرائيل، يكون سببا لذهاب ملكك وَفِي ذلِكُمْ العذاب أو الإنجاء بَلاءٌ ابتلاء واختبار.
فَرَقْنا فلقنا، والمراد جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه، هاربين من عدوكم.
الْكِتابَ التوراة. وَالْفُرْقانَ الشرع الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ليقتل البريء منكم المجرم ذلِكُمْ القتل، وقتل منهم نحو سبعين ألفا بارِئِكُمْ مبدعكم ومحدثكم فَتابَ قبل توبتكم.
المناسبة:
هذه الآيات في تفصيل النعم العشرة التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، بعد الإشارة إليها إجمالا في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تذكيرا لهم بضرورة شكرها.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها اليهود الذين تعاصرون التنزيل ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم النعم التي أنعم الله بها على آبائكم، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع، كانت سببا لبقائكم، ولأن الإنعام على أمة إنعام يشمل كل أفرادها، وهي نعم عشرة، ذكر منها هنا خمسة وهي:
١- النجاة من فرعون، فإنه كان يذبح الأبناء الذكور، ويترك البنات أحياء، ويذيقهم العذاب الشديد، لأن فرعون كان قد رأى نارا هالته، خرجت من بيت المقدس، فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر، إلا بيوت بني إسرائيل.
وفسّرت له بأن زوال ملكه يكون على يد رجل من بني إسرائيل «١». فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء، ومع هذا نجاهم الله من هذا العذاب المهين. وفي النجاة من الهلاك اختبار من الله، حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك. والاختبار

قد يكون بالخير أو بالشر، كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء ٢١/ ٣٥] وقال: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف ٧/ ١٦٨].
وأما أنواع العذاب غير القتل، فقال ابن إسحاق: كان فرعون يعذب بني إسرائيل، فيجعلهم خدما وخولا، وصنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يزرعون له، فهم في أعماله، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله، فعليه الجزية، فسامهم العذاب.
وفرعون: لقب لكل من ملك مصر قبل البطالسة، مثل قيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وتبّع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة، وخاقان لملك الترك، وبطليموس لمن ملك الهند.
ونسب الله تعالى إلى آل فرعون- وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه- لتولّيهم ذلك بأنفسهم، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله «١». قال الطبري: فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما، فهو مقتول عندنا به قصاصا، وإن كان قتله إياه بإكراه غيره له على قتله «٢».
٢- عبور بني إسرائيل في البحر الأحمر سالمين بعد تهيئة طريق يابس سلكوه، وإغراق فرعون وجنوده. وقد كان فرق البحر من معجزات موسى عليه السلام كمعجزات سائر الأنبياء التي يظهرها الله تعالى على أيديهم، لتصديق الناس إياهم، وهي سنة في الكون يخلقها الله متى شاء على يد من يصطفيه من عباده.
(٢) تفسير الطبري: ١/ ٢١٤

وأما فرعون وجنوده فتبعوهم، حتى إذا كانوا في وسط البحر، أطبق الله عليهم الماء، فغرقوا.
٣- قبول توبة الاسرائيلين وعفو الله عنهم، لأن الله تعالى كثير القبول لتوبة العصاة، ورحيم بمن ينيب إليه ويرجع، وهذا يستدعي شكر الله تعالى، وشكره: الإيمان به وبرسله واتباعهم فيما جاؤوا به، وبخاصة خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
٤- إنزال التوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام على موسى عليه السلام، كي يهتدوا بها، ويتدبروا ما فيها، ويسيروا على منهجها وشرعها.
٥- التخلص الجماعي من المجرمين بأمر الله نبيه موسى عليه السّلام بعد أن اتخذ بنو إسرائيل العجل إلها، فعبدوه من دون الله، وظلموا أنفسهم بعد الإشراك بالله، في وقت غيبة موسى عنهم لميقات ربه، وصومه أربعين يوما، فاذكر يا محمد قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه:
يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها قد أصررتم بأنفسكم، فتوبوا إلى خالقكم، وتخلصوا من جهلكم، إذ تركتم عبادة البارئ، وعبدتم أغبي الحيوان وهو البقر.
وطريق التوبة التي كانت في شريعتهم: أن يقتل البريء منكم المجرم، فأرسل الله عليهم سحابة سوداء، لئلا يبصر بعضهم بعضا عند القتل، فيرحمه، فتقاتل عبدة العجل مع المؤمنين بالسيوف، وتطاعنوا بالخناجر من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، حتى قتل منهم سبعون ألفا، وبعدها تضرع موسى وهارون إلى الله، فتاب عليهم، من قتل ومن لم يقتل، أما المقتول فهو حي يرزق عند الله، وأما من بقي فقد قبلت توبته، وانتهى التقاتل، وألقوا السلاح، وساد السلم والأمن، ولا عجب في هذا، فالله هو التواب الرحيم بعباده.
والأربعون يوما في قول أكثر المفسرين: ذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

والخلاصة: ربما كانت هذه النعمة أجل النعم، فالله تعالى يقول: اذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوما، وهي المذكورة في الأعراف (١٤٢) في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر.
فقه الحياة أو الأحكام:
لكل ظالم عات باغ نهاية حتمية، كنهاية فرعون بالإغراق في البحر، وللمظلوم فرج قريب ونصر محقق، كإنجاء بني إسرائيل المظلومين على يد فرعون وآله. وكان الإنجاء عيدا، مستوجبا شكر الإله، وصار يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من شهر المحرّم يوم صيام الشكر،
روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر بصيامه.
قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال:
صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود. واحتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
والشكر لله- كما قال سهل بن عبد الله: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية.
والمبادرة إلى التوبة سبيل التخلص من المعصية، والله سبحانه واسع الرحمة، كثير القبول للتوبة.
والصبر مفتاح الفرج، قال القشيري: من صبر في الله على قضاء الله، عوّضه