
وقيل: بِمَيْسَانَ «١»، وأن إبليسَ نزل عند الأُبُلَّةِ «٢».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ: المعنى: فقال الكلماتِ، فتابَ اللَّه علَيْه عنْد ذلك، وقرأ ابن كثير «٣» «آدَمَ» بالنصب «مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ» بالرفع، واختلف المتأوِّلون في الكلماتِ، فقال الحسنُ بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا... «٤» الآية [الأعراف: ٢٣]، وقالت طائفة: إِنَّ آدم رأى مكتوباً على ساق العرش: محمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ، فتشفَّع به، فهي الكلماتُ «٥»، وسئل بعض سَلَفِ المسلمين عمَّا ينبغي أن يقوله المُذْنِبُ، فقال: يقول ما قاله أبواه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: ٢٣] وما قاله موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: ١٦] وما قال يونس: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: ٨٧] وتَابَ عَلَيْهِ: معناه: راجعٌ به، والتوبةُ، من اللَّه تعالى الرجوعُ على عبده بالرحمةِ والتوفيقِ، والتوبةُ من العبد الرجوعُ عن المعصيةِ، والندمُ على الذنب، مع تركه فيما يستأنف.
ت: يعني: مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص اللَّه تعالى آدم بالذكْرِ في التلقِّي، والتوبة، وحواءُ مشارِكَةٌ له في ذلك بإجماع لأنه المخاطَبُ في أول القصَّة، فكملت القصة بذكُره وحْدَه وأيضاً: فَلأَنَّ المرأة حُرْمَةٌ ومستورةٌ، فأراد اللَّه تعالَى السِّتْر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ [طه: ١٢١] وبنية التَّوَّاب للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: هُوَ التَّوَّابُ تأكيدٌ فائدتُهُ أنَّ التوبة على العبد إنما هي
ينظر: «مراصد الاطلاع» (٣/ ١٣٤٣).
(٢) «الأبلّة» : بلدة على شاطىء دجلة «البصرة» العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة «البصرة».
ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ١٨).
(٣) عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد: أحد القرّاء السبعة. كان قاضي الجماعة ب «مكة». وكانت حرفته العطارة. ويسمون العطار «داريّا». فعرف ب «الداري». وهو فارسي الأصل، ولد سنة (٤٥ هـ.)
ب «مكة» وتوفي سنة (١٢٠ هـ.) بها أيضا.
ينظر: «وفيات الأعيان» (١: ٢٥٠)، «الأعلام» (٤/ ١١٥).
(٤) أخرجه الطبري (١/ ٢٨١) برقم (٧٧٨)، وذكره السيوطي في «الدر» (١/ ١١٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وذكره ابن كثير (١/ ٨١).
(٥) ينظر: القرطبي (١/ ٢٧٦).

نعمة من اللَّه تعالى، لا من العبد وحده لئلاَّ يعجب التائبُ، بل الواجب عليه شكر اللَّه تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علَّق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلَّق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى.
ت: وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تَكْرِمَةٍ لما ينشأ عن ذلك من أنواع الخيرات، وفنون العبادات.
١٧ ب وجَمِيعاً: حالٌ من الضمير/ في «اهبطوا»، واختلف في المقصود بهذا الخطاب.
فقيل: آدم، وحواء، وإبليس، وذريَّتهم، وقيل: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في آدم وحواء لأن إبليس لا يأتيه هُدًى، والأول أصح لأن إبليس مخاطَبٌ بالإيمان بإجماع «١».
«وإِنْ» في قوله: فَإِمَّا هي للشرط، دخلت «مَا» عليها مؤكِّدة ليصح دخول النون المشدَّدة، واختلف في معنى قوله: هُدىً فقيل: بيان وإرشاد، والصواب أن يقال: بيان ودعاءٌ، وقالت فرقة: الهُدَى الرسُلُ، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو فَمَنْ بعده.
أحدهما: العزم، يقال: أجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه أي: عزمت.
ثانيهما: الاتّفاق، ومنه يقال: أجمع القوم على كذا، إذا اتّفقوا، قال في «القاموس» : الإجماع: الاتّفاق، والعزم على الأمر.
عرّفه الرازيّ في «المحصول» والإجماع اصطلاحا بأنه: عبارة عن اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.
وعرّفه الآمديّ بقوله: عبارة عن اتّفاق جملة أهل الحلّ والعقد من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على واقعة من الوقائع.
وعرّفه النّظّام من المعتزلة بقوله: هو كلّ قول قامت حجّته حتّى قول الواحد.
وعرّفه سراج الدين الأرمويّ في «التحصيل» بقوله: هو اتّفاق المسلمين المجتهدين في أحكام الشّرع على أمر ما من اعتقاد، أو قول، أو فعل.
ويمكن أن يعرّف بأنّه اتفاق المجتهدين من هذه الأمّة بعد وفاة محمّد صلّى الله عليه وسلم في عصر على أمر شرعيّ.
ينظر: «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٦٧٠)، «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٤٣٥)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ١٧٩)، «سلاسل الذهب» للزركشي ص (٣٣٧)، «التمهيد» للأسنوي ص (٤٥١)، «نهاية السول» له (٣/ ٢٣٧)، «زوائد الأصول» له ص (٣٦٢)، «منهاج العقول» (٢/ ٣٧٧).