
مظاهر قدرة الله بخلق الإنسان وإماتته وخلق الأرض والسماء
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
الإعراب:
كَيْفَ اسم استفهام، منصوب هنا على الحال بتكفرون. جَمِيعاً نصب على الحال من الموصول الثاني: ما.
سَبْعَ سَماواتٍ إما منصوب على البدل من الهاء والنون في فَسَوَّاهُنَّ أو منصوب على أنه مفعول «سوّى» على تقدير: فسوّى منهن سبع سماوات، فحذف حرف الجر، فصار فَسَوَّاهُنَّ مثل قوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف ٧/ ١٥٥] أي من قومه، ثم حذف حرف الجر، فاتصل الفعل: فَسَوَّاهُنَّ بما بعده، فنصبه، وأعاد الضمير بلفظ الجمع على السماء. وقال الزمخشري: الوجه العربي أن ضمير فَسَوَّاهُنَّ مبهم. وكلمة ثُمَّ اسْتَوى لا للتراخي في الوقت هنا، وإنما لبيان ما بين الخلقين من التفاوت، وفضل خلق السموات على خلق الأرض. وإنما كان العطف الأول بالفاء، والبواقي بثم، لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة، وعن الحياة الثانية.
البلاغة:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ التفات من كلام الغيبة إلى الحضور للتوبيخ والتقريع.
عَلِيمٌ من صيغ المبالغة التي وصف تعالى نفسه بها، مثل: عالم وعلام، ومعناه: الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء. ولا يجوز وصف الله تعالى بعلّامة، التي أدخل العرب عليها الهاء للمبالغة. فَسَوَّاهُنَّ أتمّ خلقهن مستويات، لا تشقق فيهن ولا عوج، فمعنى تسويتهن:
تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن. ثُمَّ اسْتَوى الاستواء في اللغة: الارتفاع والعلو على الشيء. بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ بأحوالهن إجمالا وتفصيلا، بعد أن خلق

السموات خلقا مستويا محكما من غير تفاوت، وخلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.
المفردات اللغوية:
كَيْفَ تَكْفُرُونَ يا أهل مكة، مثله في قولك: «أتكفرون بالله ومعكم ما يصرف عن الكفر، ويدعو إلى الإيمان؟» والاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو للتوبيخ.
كُنْتُمْ أَمْواتاً نطفا في الأصلاب. فَأَحْياكُمْ في الأرحام والدنيا، بنفخ الروح فيكم.
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث، فيجازيكم بأعمالكم. ودخلت الواو على جملة كُنْتُمْ أَمْواتاً إلى آخر الآية، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله، وقصتكم هذه، وحالكم أنكم كنتم أمواتا، نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم.
ما فِي الْأَرْضِ الأرض وما فيها. جَمِيعاً لتنتفعوا به وتعتبروا. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ بعد خلق الأرض: قصد وعمد إليها بإرادته تعالى، قصدا مستويا خاصا بها.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله صفات الفاسقين وموقف الكفار من القرآن، وجّه الخطاب إلى الكفار في هاتين الآيتين على طريق الإنكار والتعجب والتوبيخ على موقفهم وصفة كفرهم، بذكر البراهين الداعية إلى الإيمان: وهي النعم الدالة على قدرته تعالى من مبدأ الخلق إلى منتهاه، من إحيائهم بعد الإماتة، ثم الإماتة والإحياء، وخلق جميع الخيرات المكنونة في الأرض ليتمتعوا بجميع ما في ظاهرها وباطنها، وخلق سبع سموات مزينة بمصابيح، ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، أفبعد هذا كله يكفرون بمحمد وبرسالته؟!
لتفسير والبيان:
عجيب حالكم أيها الكفار، كيف تنكرون وجود الله وقدرته مع أن الله

سبحانه أوجدكم في هذه الحياة بعد الموت، وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ووهبكم أفضل مقومات الحياة من العقل والحواس والمشاعر، وأمدكم بالأرزاق التي تكفل بقاء الحياة، ثم أماتكم عند انقضاء الأجل، ثم يحييكم بالبعث من القبور، ثم ترجعون إلى الله وحده للحساب والجزاء، ليجزي كل امرئ بما قدّم، ولتحاسب كل نفس على النعمة التي أنعم الله بها عليكم. فهاتان موتتان وحياتان، لا تدع لكم عذرا في البقاء على الكفر، والاستهزاء بأمثال القرآن، وإنكار نبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن عباس وابن مسعود: أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا، فأحياكم- أي خلقكم- ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
ويؤيده آية أخرى: قالُوا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر ٤٠/ ١١]. قال ابن عطية: وهذا القول: هو المراد بالآية، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها «١».
ثم بعد ذكر المبدأ والمنتهى، ذكر الله تعالى برهانا على البعث، وعلى توجيه النفوس نحو الإيمان، فأبان أنه خلق لكم الأرض وما فيها، لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق، فيكون الانتفاع إما ماديا بالاستفادة من الموجودات العينيّة في حال المعيشة، وإما معنويا بالنظر والاعتبار فيما لا سلطة لأيديكم عليه، ويتم في الحالتين غذاء الأجساد والأرواح.
ومكّن الله تعالى للإنسان الحياة في الأرض بإظلاله بالسقف المحفوظ وهو السموات السبع، التي رفعها بقدرته، وسوّاها محكمة البناء، وأوجدها بحكمته،

وأودع فيها بدائع الكواكب والنجوم لإنارة الأرض في الليل، وعلم سبحانه وحده حقيقتها وروائع ما فيها، والله عالم بكل ما خلق في الأرض وفي السماء، وذلك كله دليل القدرة الباهرة الدالة على وجود الإله الخالق، وهو وحده، القادرة على إعادة الخلق والحياة. فهل بعد هذا يسوّغ الكفر أو الإلحاد وإنكار وجود الله؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
وصف الكفر ينطبق على كل من لم يصدّق بنبوّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، وإن آمنوا بكتاب سماوي سابق، لأنهم لم يقرّوا بأن القرآن من عند الله، ومن زعم أن القرآن كلام البشر، فقد أشرك بالله، وصار ناقضا للعهد. وقالت المعتزلة:
آية كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ تدلّ على أن الكفر من قبل العباد «١».
والأدلة على قدرة الله ووجوده كثيرة منها ما ذكرته هذه الآية: وهو خلق الأرض وما فيها، والسماوات وما أبدع فيها، وخلق الإنسان من العدم، ثم إماتته، ثم إحياؤه، ثم حسابه على ما قدم في مسيرة الحياة البشرية، كما قال تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤]، فإعادتهم كابتدائهم، فهو رجوع، فيكافأ المؤمنون بالجنان، لإيمانهم وعملهم الصالح، ويعذب الكفار لكفرهم.
والترتيب في قوله تعالى ثُمَّ التي تقتضي التراخي، ليس مرادا، وإنما المقصود من كلمة ثُمَّ ترتيب الإخبار وتعديد النعم، فهي لا تعارض آية:
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٣٠]، لأن كلمة بَعْدِ فيها بعدية في الذكر وترتيب الإخبار، لا في الزمان ولا لترتيب الأمر في نفسه، مثاله: قول الرجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم رفعت قدرك، ثم دفعت الخصوم عنك؟ وربما يكون بعض ما أخره متقدما حدوثه.

وقد يجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك، فلا تعارض، كما ذكر ابن جزي. لكن قال ابن كثير: هذه الآية (أي ٢٩ من البقرة) دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء، كما قال في آية السجدة [فصلت ٤١/ ٩- ١٠] : قُلْ: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ... الآية، فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء، إلا ما نقله ابن جرير الطبري عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «١» [النازعات ٧٩/ ٣٠].
ونبهت آية هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ على القدرة الإلهية المهيئة للأرض من أجل نفع الإنسان وتحقيق مصلحته ورعاية حاجة الخلق، وعاتب الله تعالى الكفار على جهالتهم بما في الأرض وتصريف المخلوقات «٢»، كما قال تعالى:
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً، ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت ٤١/ ٩- ١٠]، فالمراد بالآية الاعتبار والاتعاظ بدليل ما قبلها وما بعدها من الإحياء والإماتة والخلق والاستواء إلى السماء وتسويتهن.
ولكن وإن كان الهدف الأصلي من إيراد الآية هو ما ذكر، فقد استدل بها علماء الأصول أيضا على أن «الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي دليل الحظر» «٣»، أي أن الأصل إباحة الانتفاع بكل ما خلق الله في الأرض، حتى يأتي
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ١٤، تفسير الرازي: ٢/ ١٥٤
(٣) تفسير القرطبي: ١/ ٢٥١

دليل المنع، فليس لمخلوق حقّ في تحريم شيء أباحه الله إلا بإذنه، كما قال:
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، قُلْ: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ، أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس ١٠/ ٥٩].
وعلم الله واسع شامل لكل ما خلق، وهو خالق كل شيء، فوجب أن يكون عالما بكل شيء، ولا يكون هذا النظام المحكم في السموات والأرض إلا من لدن حكيم عليم بما خلق، فلا عجب أن يرسل رسولا مؤيدا بكتاب لهداية الناس، يضرب فيه الأمثال بما شاء من مخلوقاته، عظم أو صغر.
وآية ثُمَّ اسْتَوى وآية الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه ٢٠/ ٥] من مشكلات التفسير، وللعلماء ثلاثة آراء فيها «١» :
الرأي الأول لكثير من الأئمة: نقرؤها ونؤمن بها ولا نفسرها، روي عن مالك رحمه الله أن رجلا سأله عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك رجل سوء.
الرأي الثاني للمشبهة: نقرؤها ونفسرها على ما يحتمله ظاهر اللغة وهو أن الاستواء: الارتفاع والعلو على الشيء، أو الانتصاب.
وهذا باطل، لأن ذلك من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن ذلك.
الرأي الثالث لبعض العلماء: نقرؤها ونتأولها ونحيل حملها على ظاهرها.
فقيل: المعنى استوى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق | من غير سيف ودم مهراق |