
محتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطَرْفةِ عَيْنٍ، وإن قَصُر قدرُ الذي بينهما مما يوجد «١»، فصلحت الفاءُ في «إلى» لأنك تقول: أخذ المطرُ أوَلَه فكذا وكذا إلى آخره. فلما كان الفعل كثيرا شيئًا بعد شيء في المعنى كان فيه تأويلٌ من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت مُحسنُ. ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن فرضُوا بالفاء جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.
قال الكسائي: سمعت أعرابيا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما إِهلالك إلى سَرارِك. يريد ما بين إِهلالِك إلى سرارك فجعلوا النصب الذي كان يكون في «بَيْنَ» فيما بعده إذا سقطت ليُعلم أن معنى «بَيْنَ» مُرادٌ. وحكى الكسائي عن بعض العرب: الشنق ما خمسا إِلَى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إِلَى خمس وعشرين. والشَّنَق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأوْقاصُ «٢» في البقر.
وقوله: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً... (٢٦)
كأنه قال- والله أعلم- ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدي به هذا. قال الله: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً... (٢٨)
على وجه التعجُّب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض [أي «٣» ] وَيْحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» «٤». وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
(٢) الأوقاص (جمع وقص بالتحريك) : ما بين الفريضتين مما لم تجب فيه الزكاة كالشنق.
(٣) زيادة يقتضيها السياق. (انظر تفسير الطبري ج ١ ص ١٤٩) والعبارة فى ج، ش: «...
المحض، وهو كقوله: فأين أي ويحكم كيف تذهبون».
(٤) آية ٢٦ التكوير.

وَكُنْتُمْ أَمْواتاً. المعنى- والله أعلم- وقد كنتم، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام «١». ألا ترى أنه قد قال فى سورة يوسف: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ» «٢». المعنى- والله أعلم- فقد كَذَبتْ. وقولك للرجل: أصبحت كَثُرَ مالُك، لا يجوز إلا وأنت تريدُ: قد كَثُرَ مالُك لانهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحالُ لا تكون إلا بإضمار «قد» أو بإظهارها ومثله في كتاب الله:
«أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» «٣» يريد- والله أعلم-[جاءوكم قد حصرت صدورهم «٤» ]. وقد قرأ بعض القرّاء- وهو الحسن البصري- «خصرة صدورهم».
كأنه لم يعرف الوجه في «٥» أصبح عبد الله قام أو أقبل أخذ شاة، كأنه يريدُ فقد أخَذَ شاة. وإذا كان الأول لم يَمْضِ لم يجز الثاني بقَدْ ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام لأن الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: عسى قام لأن عسى وإن كان لفظها على فَعَلَ فإنها لمستقبل «٦»، فلا يجوز عسى قد قام، ولا عسى قام، ولا كاد قد قام، ولا كاد قام لأن ما بعدهما لا يكون
(٢) آية ٢٧ من السورة المذكورة.
(٣) آية ٩٠ سورة النساء.
(٤) ما بين المربعين ساقط من أ.
(٥) فى ج، ش «كأنه لم يعرف إجازة أصبح... إلخ».
(٦) فى أ: «لمستقبل فيستقبل».

ماضيا فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك فقلت: عسى أن يكون قد ذهب كما قال الله: «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» «١».
وقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ يعني نُطَفا «٢»، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نُطْفة فهو ميتة والله أعلم. يقول: فأحياكم من النُّطَف، ثُم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم للبعث.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ... (٢٩)
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل [و] «٣» ينتهى شبابُه، أو يستوي عن اعْوِجاج، فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى على يُشاتمني وإلى سَوَاءٍ «٤»، على معنى أَقْبَلَ إلى وعليّ فهذا معنى قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ والله أعلم. وقال «٥» ابن عباس: ثم استوى إلى السماء: صعِد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلٌّ في كلام العرب جائزٌ.
فأما قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ فإن السماء في معنى جمع، فقال «فَسَوَّاهُنَّ» للمعنى المعروف أنهنّ سبعُ سَمَوَاتٍ. وكذلك الأرض يقع عليها- وهى واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيدُ وهما مجموعتان، قال الله عز وجل: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» «٦». ثم قال: «وَما بَيْنَهُما» ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما (قلت «٧» لك).
(٢) فى ش: «يعنى النطف». [.....]
(٣) فى الأصول «أو» بدل الواو.
(٤) فى ج، ش: «استوى علىّ وإلىّ يشاتمنى» وكذا فى اللسان.
(٥) فى أ: «وقد قال».
(٦) آية ٥ سورة والصافات.
(٧) فى أ: (أخبرتك).