فى خزائن فضله، ولا خوف عليهم حين يخاف الباخلون من تبعة بخلهم بالمال وحبسه حين الحاجة إلى بذله في سبيل الله، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من صالح العمل الذي يرجون به ثواب الله.
ذاك أن نفوسهم قد سمت وبلغت حدا من الكمال لم يبق لسلطان المال معه موضع فى قلوبهم، وأصبحت مرضاته الشغل الشاغل لهم، فلا يستريح لهم بال إلا إذا سدوا خلّه محتاج أو آسوا جراح مكلوم، أو أشبعوا بطن جائع، أو جهزوا جيشا يسدّون به ثغرة فتحها عدو، وهؤلاء هم المؤمنون حقا الذين يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا.
وإنما قدم الليل على النهار، والسر على العلانية للإيماء إلى تفضيل صدقة السر على صدقة العلانية، وجمع بين السر والعلانية للإيماء إلى أن لكل منهما موضعا تقتضيه المصلحة قد يفضل فيه سواه، إذ الأوقات والأحوال لا تقصد لذاتها.
وقد روى أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق إذ أنفق أربعين ألف دينار، عشرة بالليل وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية.
وأخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس أنها نزلت في علىّ كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، وبالنهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟ قال: حملنى أن أستوجب على الله الذي وعدنى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن ذلك لك».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
تفسير المفردات
يأكلون: أي يأخذون ويتصرفون فيه بسائر أنواع التصرفات، والربا لغة الزيادة يقال ربا الشيء يربو إذا زاد، ومنه الرابية لما علا من الأرض فزاد على ما حوله، والخبط: الضرب على غير اتساق، يقال ناقة خبوط إذا وطئت الناس وضربت الأرض بقوائمها، ويقال للرجل يتصرف في الأمور على غير هدى: هو يخبط خبط عشواء [العشواء الناقة الضعيفة البصر] والمسّ: الجنون، يقال مسّ الرجل فهو ممسوس إذا جنّ، والموعظة: العظة والزجر، والمحق: نقص الشيء حالا بعد حال كمحاق القمر، ويربى: يزيد ويضاعف، لا يحب: أي لا يرتضى، والكفار: المقيم على الكفر المعتاد له، والأثيم: المنهمك في ارتكاب الآثام، اتقوا الله: أي قوا أنفسكم عقابه، وذروا: أي اتركوا، فأذنوا: أي فاعلموا، بحرب من الله: أي بغضب منه، وحرب من رسوله بمعاملتكم معاملة البغاة وقتالكم بالفعل في عصره، واعتباركم أعداء له في كل عصر، لا تظلمون: أي لا تفعلون
الظلم بغرمائكم بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بنقص شىء من رأس المال، العسر: الإعسار ويكون بفقد المال أو كساد المتاع، والنظرة: الانتظار، والميسرة: اليسار والسعة.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في آيات الصدقة، والمتصدق يعطى المال من غير عوض ابتغاء وجه الله- وهنا ذكر الكلام على الربا لأن المرابى يأخذ المال بلا عوض يقابله.
وقبل أن نفسر الآيات الكريمة نشرح المقصود بكلمة الربا في الإسلام ونذكر ما كان معروفا منه عصر التنزيل، وفيم يكون؟ حتى نتفهمه حق الفهم، ثم نذكر بعدئذ أسرار النهي عنه في الإسلام.
الربا ضربان: ربا النسيئة، وربا الفضل فالأول: يكون بإقراض قدر معين من المال لزمن محدود كسنة أو شهر مع اشتراط الزيادة في نظير امتداد الأجل، وهو المستعمل الآن في المصارف المالية، وهو الذي نص القرآن الكريم على تحريمه، وكان متعارفا في الجاهلية وقت التنزيل، قال ابن جرير:
إن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال: أخر عنى دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عزّ وجل في إسلامهم عنه اهـ.
والتعامل بهذا النوع من الكبائر،
وقد ورد في الحديث «لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده»
والثاني: يكون في بيع الشيء بنظيره مع زيادة أحد العوضين على الآخر كأن يبيعه إردبا من القمح الهندي بثلاث عشرة كيلة من القمح البلدي، أو أقة عنب مصرى بأقة وربع من عنب أزمير، أو قنطارا من فحم انجلترا بقنطار ونصف من فحم إيطاليا وهكذا الحكم في جميع المكيلات والموزونات والنقدين (الذهب والفضة) لما
جاء فى الخبر من قوله ﷺ «لا تبيعوا الذهب بالذهب، والورق بالورق
(الفضة) والبرّ بالبرّ والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين يدا بيد».
والتعامل به محرم أيضا لكنه أقل إثما من سابقه.
أسرار تحريم الربا
زعم كثير من المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، بلاد المدنية والحضارة، ونهلوا من مناهل العلم هناك، أن تحريم الربا في الإسلام هو العقبة الكئود في مجاراة الأمم الإسلامية للبلاد الغربية في الثروة التي هى مناط العزة والقوة في العصر الحديث، ويحتجون بأن المسلمين ما منوا بالفقر وذهبت أموالهم إلى أيدى الأجانب إلا بتحريم الربا، فإنهم لاحتياجهم إلى الأموال يأخذونها من الأجانب بالربا الفاحش، ومن كان منهم غنيّا لا يعطى ماله بالربا، فمال الفقير يذهب، ومال الغنى لا ينمو، وهم يريدون بذلك أن الدين قد وقف عقبة كاداء في أهم مسألة عمرانية اجتماعية.
وهذه حجة أوهى من بيت العنكبوت، وأوهام يزينها لهم الشيطان لم يمحصوها حق التمحيص، فإن المسلمين في هذا العصر لا يحكّمون الدين في شىء من أعمالهم ومكاسبهم، إذ لو حكموه لما استعانوا بالربا، ولما جعلوا أموالهم غنائم لغيرهم، فإن كانوا تركوا الربا لأجل الدين، فهل هم تركوا الصناعة والتجارة لأجل الدين؟ فالأمم جميعا قد سبقتنا إلى إتقان ذلك، فلماذا لانتقن سائر المكاسب لنعوّض على أنفسنا ما فاتنا من الكسب المحرم، وديننا يدعونا إلى السبق في إتقان كل شىء؟.
وفي الحق أن المسلمين قد نبذوا الدين وراءهم ظهريا، فلم يبق منه إلا تقاليد وعادات ورثوها من آبائهم وأجدادهم، فالدين لم يكن عاثقا لهم عن الرقى، بل هو خير الأديان في الدعوة إلى العمل، والحث على الكسب كما قال تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» وقال: «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ».
فالأمة الإسلامية ما ارتفعت إلا بالدين، وما سقطت بعد ما ارتفعت إلا بترك الدين مع الجهل بالسبب الذي أفضى بها إلى ذلك، إلى أن صارت تجعل علة الرقى سببا فى الانحطاط، فلو اتبعت حكوماتنا وأفرادنا أوامر الدين وتركت التعامل بالربا مع الأجانب لما ضاعت ثروتنا، ولا ذهب ملكنا، وكان الدين وحده هو العاصم لنا.
فالربا مسألة اجتماعية كبيرة اتفقت في حكمها الأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام، لكن اختلف فيها أهل الأديان. فاليهود كانوا يرابون غيرهم، والنصارى يرابى بعضهم بعضا ويرابون سائر الناس، والمسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة ردحا طويلا من الدهر، ثم قلدوا غيرهم فيها، ثم انتشرت بينهم في العصر الحديث فى أكثر الأقطار، والسر في هذا أنهم قلدوا حكامهم في هذه السبيل، بل كثيرا ما ألزم الحكام الرعية بالتعامل بالربا أداء للضرائب التي يفرضونها عليهم.
فالأديان لم تستطع أن تقاوم ميل الجماهير إلى أكل الربا حتى صار كأنه ضرورة يضطرون إليها.
ويمكن أن نلخص الأسباب التي لأجلها حرّم الدين الربا فيما يلى:
(١) إنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب الصحيحة كأنواع الحرف والصناعات، لأن رب المال إذا تمكن بعقد الربا من إنماء ماله خف عليه الكسب وسهلت لديه أسباب العيش، فيألف الكسل، ويمقت العمل، ويتجه همه إلى أخذ أموال الناس بالباطل، وتزداد شراهته في الاستيلاء على كل ما يستطيع أن يبتزه من أموالهم، فلا يرأف بفقير، ولا يشفق على بائس، ولا يرحم مسكينا، وقد جرت عادة المرابين بأن يزداد طمعهم حين الأزمات كقحط في البلاد، أو حروب تشتد فيها الحاجة إلى الأقوات، فيضطر الفقراء إلى الاستدانة من هؤلاء الطغاة الذين يستنزفون دماءهم.
ويستأثرون بالبقية الباقية من أموالهم.
(٢) إنه يؤدى إلى العداوة والبغضاء والمشاحنات والخصومات، إذ هو ينزع
عاطفة التراحم من القلوب، ويضيع المروءة ويذهب المعروف بين الناس، ويحل القسوة محل الرحمة، حتى إن الفقير ليموت جوعا ولا يجد من يجود عليه ليسد رمقه، ومن جرّاء هذا منيت البلاد ذات الحضارة التي تعاملت بالربا بمشاكل اجتماعية، فكثيرا ما تألب العمال وغيرهم على أصحاب الأموال، وأضربوا عن العمل الفينة بعد الفينة، والمرة بعد المرة.
ومنذ فشا الربا في البلاد المصرية ضعفت فيها عاطفة التعاون والتراحم، وأصبح المرء لا يثق بأقرب الناس إليه، ولا يقرضه إلا بمستند وشهود، بعد أن كان المقرض يستوثق من المقترض ولو أجنبيّا عنه بألا يحدّث أحدا بأنه اقترض منه، وما كان المقرض في حاجة في وصول حقه إليه إلى مطالبة بله محاكم ومقاضاة.
(٣) إن الله جعل طريق التعامل بين الناس في معايشهم أن يستفيد كل منهم من الآخر في نظير عوض، لكن في الربا أخذ مال بلا عوض، وهذا نوع من الظلم لأن للمال حقا وحرمة فلا يجوز لغير مالكه الاستيلاء عليه قهرا بطريق غير مشروع.
قال ﷺ «حرمة مال الإنسان كحرمة دمه».
ولا ينبغى اعتبار القدر الزائد بسبب الربا عوضا من بقاء رأس المال في يد المدين زمنا لو كان فيه في يد الدائن لاستفاد منه بطريق وسائل الكسب كتجارة وزراعة ونحوها لأن هذا ربما لا يحصل، وإن حصل فربما لا تتحقق الاستفادة، أما أخذ الزائد في الربا فمتيقن، ولا يجوز مقابلة المحتمل الحصول بالمؤكد المتيقن.
(٤) إن عاقبته الخراب والدمار، فكثيرا ما رأينا ناسا ذهبت أموالهم، وخربت بيوتهم بأكلهم الربا، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه وابن جرير «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ».
والسر في هذا أن المقترضين يسهل عليهم أخذ المال من غير بدل حاضر ويزين لهم الشيطان إنفاقه في وجوه من الكماليات التي كان يمكن الاستغناء عنها، ويغريهم
بالمزيد من الاستدانة، ولا يزال يزداد ثقل الدين على كواهلهم حتى يستغرق أموالهم، فإذا حل الأجل لم يستطيعوا الوفاء وطلبوا التأجيل، ولا يزالون يمطلون ويؤجلون والدين يزيد يوما بعد يوم حتى يستولى الدائنون قسرا على كل ما يملكون، فيصبحون فقراء معدمين، صدق الله (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).
وهاكم نبذة من مقال للدكتور محمد عبد الله دراز عضو جماعة كبار العلماء ألقاه فى مؤتمر القانون الإسلامى في شهر يوليو سنة ١٩٥١ وقد جاء فيها: أن سنة القرآن فى معالجته للأمراض التي تأصلت في الشعوب وتوارثتها الأجيال، خلفا عن سلف ألا يأخذها بالعنف والمفاجأة، بل يتلطف في السير بها إلى الصلاح على مراحل حتى يصل إلى الغاية المرجوة.
فكلنا يعرف ما كان منه في شأن الخمر وأنه لم يبطله بجرة قلم، بل لم يحرّمه تحريما كليا إلا في المرحلة الرابعة من الوحى، أما المرحلة الأولى التي نزلت في مكة فإنها رسمت الوجهة التي سيسير فيها التشريع، وأما المراحل الثلاث التي نزلت بالمدينة فكانت أشبه بسلم أولى درجاته بيان مجرد لآثار الخمر، وأن إثمه أكبر من نفعه، والدرجة الثانية تحريم جزئى له، والثالثة تحريمه التحريم الكلى القاطع.
فهل يطيب لكم أن تدرسوا معى المنهج التدريجي الذي سلكه القرآن في مسألة الربا؟
إنه لمن جليل الفائدة أن نتابع هذا السير لنرى انطباقه التامّ على مسلكه في شأن الخمر، لا في عدد مراحله فحسب، بل حتى في أماكن نزول الوحى وفي الطابع الذي تتسم به كل مرحلة منها.
نعم، فقد تناول القرآن حديث الربا في أربعة مواضع أيضا، وكان أول موضع منها وحيا مكيّا والثلاثة الباقية مدنية، وكان كل واحد من هذه التشريعات الأربعة متشابها تمام المشابهة لمقابله في حديث الخمر.
ففى الآية المكية يقول الله جلت حكمته «وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله» هذه كما ترونها موعظة سلبية: أن الربا لا ثواب له عند الله، نعم ولكنه لم يقل إن الله ادخر لآكله عقابا، وهذا بالضبط نظير صنيعه في آية الخمر المكية (١٦- ٦٧) حيث أومأ برفق إلى أن ما يتخذ سكرا ليس من الرزق الحسن دون أن يقول إنه رجس واجب الاجتناب، ومع ذلك فإن هذا التفريق في الأسلوب كان كافيا وحده في إيقاظ النفوس الحية، وتنبيها إلى الجهة التي سيقع عليها اختيار المشرع الحكيم.
أما الموضع الثاني فكان درسا وعبرة قصها علينا القرآن من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه وعاقبهم الله بمعصيتهم، وواضح أن هذه العبرة لا تقع موقعها إلا إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنصّ الصريح، ومهما يكن من أمر فإن هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهى يوجه إليهم قصدا في هذا الشأن، نظير ما وقع بعد المرحلة الثانية في الخمر (٢- ٢١٩) حيث استشرفت النفوس إذ ذاك إلى ورود نهى صريح، وقد جاء هذا النهى بالفعل في المرحلة الثالثة، ولكنه لم يكن إلا نهيا جزئيا في أوقات الصلاة (٤- ٤٣).
وكذلك لم يجىء النهى الصريح عن الربا إلا في المرتبة الثالثة، وكذلك لم يكن إلا نهيا جزئيا عن الربا الفاحش الربا الذي يتزايد حتى يصير أضعافا مضاعفة (٢- ١٣٠) وأخيرا وردت الحلقة الرابعة التي ختم بها التشريع في الربا، بل ختم بها التشريع القرآنى كله على ما صح عن ابن عباس، وفيها النهى الحاسم عن كل ما يزيد على رأس ما الدين حيث يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ،
وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
(٢- ٢٧٨- ٢٨١).
هذه أيها السادة والسيدات نصوص التشريع القرآني في الربا مرتبة على حسب تسلسلها التأريخي.
وإنكم لترون الآن أن الفئة التي تزعم أن الإسلام يفرق بين الربا الفاحش وغيره (وهى الفئة من المتعلمين الذين ليس لهم رسوخ قدم في علوم القرآن) لم تكتف بأنها خالفت إجماع علماء المسلمين في كل العصور، ولا بأنها عكست الوضع المنطقي المعقول حيث جعلت التشريع الإسلامى بعد أن تقدم إلى نهاية الطريق في إتمام مكارم الأخلاق يرجع على أعقابه ويتدلى إلى وضع غير كريم، بل إنها قلبت الوضع التأريخي إذا اعتبرت النص الثالث مرحلة نهائية، بينما هو لم يكن إلا خطوة انتقالية في التشريع لم يختلف فى ذلك محدّث ولا مفسّر ولا فقيه.
على أنا لو فرضنا المحال ووقفنا معهم عند هذا النص الثالث، فهل نجد فيه ربحا لقضيتهم في التفرقة بين الربا الذي يقل عن رأس المال، والربا الذي يزيد عليه أو يساويه؟ كلا، فإنه قبل كل شىء لا دليل في الآية على أن كلمة الإضعاف شرط لا بد منه في التحريم، إذ من الجائز أن يكون ذلك عناية بذم نوع من الربا الفاحش الذي بلغ مبلغا فاضحا في الشذوذ عن المعاملات الإنسانية من غير قصد إلى تسويغ الأحوال المسكوت عنها التي تقلّ عنها في الشذوذ. ومن جهة أخرى فإن قواعد العربية تجعل كلمة «أضعافا» فى الآية وصفا للربا لا لرأس المال كما قد يفهم من تفسير هؤلاء الباحثين، ولو كان الأمر كما زعموا لكان القرآن لا يحرم من الربا إلا ما بلغ ٦٠٠ من رأس المال. بينما لو طبقنا القاعدة العربية على وجهها لتغير المعنى تغيرا تاما بحيث لو افترضنا ربحا قدره واحد في الألف أو المليون لصار بذلك عملا محظورا غير مشروع بمقتضى النص الذي يتمسكون به.
أما القول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا بالربا الفاحش الذي يساوى رأس المال أو يزيد عليه، فإنه لا يصح إلا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة.
ولقد كان الشعب العبراني الذي يعيش والشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت، وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقى للكلمة.
أما تخصيصها بالربا الفاحش فهو اصطلاح أوربي حادث، يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع.
وبعد، فإنا لا نطيل الوقوف عند هذا النص الانتقالى، لأن الذي يعنى رجل القانون فى تطبيق الشرائع إنما هو دورها الأخير، وقد بينا أن الدور الأخير في موضوعنا إنما تمثله الآيات التي تلوناها آنفا من سورة البقرة، كما رأينا أن الشريعة القرآنية تتجه كلها منذ البداية إلى استنكار كل تعويض يطلب من المقترض أفلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلى الفقير في أبرز موضع من قانونها والتي تحث على إنظار المعسر أو على ترك الدين له- تعود فتأخذ منه بالشمال ما منعته باليمين، إذ تأذن للغنىّ بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟.
إلى جانب هذه النصوص القرآنية تجد في بيان السنة النبوية ما هو أكثر تفصيلا وأشد صرامة، فإن الرسول صلوات الله عليه لم يكتف بتحريم الربا على آكله كما ورد فى القرآن الكريم، ولم يكتف بجعل المعطى والآخذ والكاتب سواء في اللعن والإجرام، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع والملابسات جعلها حمى محرما تحريم الوسائل الممهدة إلى الحرمة الأصلية.
والطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيهما على مراتب متفاوتة
فى تدرج حكيم يتنقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلى الحظر الكلى، مارّا بكل المراتب المتوسطة بينهما اهـ ببعض تصرف.
الإيضاح
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) يقال لمن يتصرف في شىء من مال غيره، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول.
والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته، ضريت نفوسهم بجمعه، وجعلوه مقصودا لذاته، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى، فخرجت نفوسهم عن حدّ الاعتدال الذي عليه أكثر الناس، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم فى أعمالهم فالمولعون بأعمال (البورصة) والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك فى الأعمال، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة. والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جنّ.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.
وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا: «إياك والذنوب التي لا تغفر، الغلول- الخيانة في مغنم وغيره- فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط».
وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع، فورد القرآن على ما يعتقدون، وكذلك يعتقدون أن الجنى يمسّ الإنسان
فيختلط عقله، ويقولون رجل ممسوس: أي مسه الجن، ورجل مجنون: إذا ضربته الجن، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات.
فجاءت الآية وفق ما يعتقدون، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه، كما جاء قوله تعالى فى وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار «طلعها كأنّه رءوس الشّياطين» وما رأى أحد رءوس الشياطين، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يردّ عليه بعد سنة عشرين درهما، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.
تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا، فقياسهم فاسد، ومن ثم قال:
«وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا».
إذ في البيع ما يقتضى حله، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه- ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشترى باختيارهما، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.
(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ) أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله- فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.
(وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يحكم فيه بعدله، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم، وبلوغه الموعظة من ربه، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة، وترشد إلى أن ردّ ما أخذه من قبل النهى إلى أربابه من أفضل العزائم.
(وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم، فهم أهل النار خالدين فيها.
والخلود هنا المكث الطويل، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى.
ويرى بعضهم أنّ الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا- إيثار لحب المال أو اللذة به، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
فالذى يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعدّ من الكافرين المستحلين، وإن أنكر ذلك بلسانه، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا.
(يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه، فلا ينتفع به أحد من بعده، ويضاعف ثواب الصدقات، ويزيد المال الذي أخرجت منه.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل».
وقال العلماء: المراد بالمحق ما يلاقى المرابى من عداوة المحتاجين، وبغض المعوزين وقد تفضى هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضارّ كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا، فقد قام الفقراء يعادون
الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام، يعرف ذلك من راقب عبّاد المال وبلا أخبارهم. فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه، بل عن أهله وولده، حتى لقد يقصّر في حق نفسه تقصيرا يفضى إلى الخسران والذل والمهانة.
وقصارى ذلك- إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة، ويصل بصاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان، والحب الشديد للمال، ومقت الناس له، وكراهتهم إياه، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصودة في هذه الحياة، وهى أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس، لكونه مصدر الخير لهم، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع، فكان كمن محق ماله وهلك.
وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله، وقد تقدم إيضاح هذا.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) الكفّار هنا هو المتمادى في كفر ما أنعم الله به عليه من المال، لأنه لا ينفق منه في سبيله، ولا يواسى به المحتاجين من عباده، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام، فهو قد جعل المال آله لجذب ما في أيدى الناس إلى يده فاستغلّ إعسارهم، وأخذ أقواتهم، وامتص دماءهم.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين صدّقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين- وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان- وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد إيمانه، وحبه لربه ومراقبته له، فتسهل عليه طاعته في كل شىء، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر- وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات
النفسية والبدنية- لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء، ولا يحزنون على ما فات، ولا يخافون مما هو آت.
وفي هذا تعريض بآكلى الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه.
وقد عهد في كلام العرب أن يقال: إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف.
وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه، لا يعدّ من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه، إذ مثل هذا لا يعتدّ به كما تقدم من
قوله ﷺ «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه.
وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها.
وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلى الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس.
وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.
(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين، فلكم رءوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء، ولا تنقصون منها شيئا، بل تأخذونها كاملة.
روى ابن جرير أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بنى المغيرة كانا شريكين في الجاهلية، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بنى عمرو وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا).
وأخرج عن ابن جريج قال: كانت ثقيف قد صالحت النبي ﷺ على أن مالهم من ربا على الناس وما لهم من ربا عليهم فهو موضوع، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها، وكان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتاب إلى رسول الله ﷺ فنزلت فكتب بها رسول الله ﷺ إلى عتاب وقال: «إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب»
(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين.
روى أن بنى المغيرة قالوا لبنى عمرو بن عمير في القصة السالفة: نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.
(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أصل نصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلّا أو بعضا، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه.
وفي هذا حث على الصدقة، والسماح للمدين المعسر، لما فيه من التعاطف
والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة، كما يرشد إلى ذلك
الحديث: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون، وسامحوا إخوانكم، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم.
وفي الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين.
ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هوّنت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال:
(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه.
والخلاصة- إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعدّ الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة.
(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي ثم يجازى كل امرئ بما عمل من خير أو شر.
(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم.
عن ابن عباس أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة،
وعاش رسول الله ﷺ بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل أحدا وثمانين يوما.