آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

والخلاصة: إن الصدقة الواجبة، والإنفاق في المصالح العامة كبناء المدارس والمشافي والدعوة إلى الدين والجهاد، ونفقة التطوع بقصد ترغيب الآخرين في التصدق ينبغي إعلانها، وهو أفضل من الإخفاء. وأما الصدقة على الفقراء لسد حاجاتهم فإسرارها أفضل من إعلانها، سترا لحالهم وحفظا لكرامتهم.
مستحقو الصدقات
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٢ الى ٢٧٤]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
الإعراب:
لِلْفُقَراءِ جار ومجرور: إما مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره: الصدقات للفقراء، وإما منصوب لتعلقه بفعل: وَما تُنْفِقُوا في الآية السابقة، أي: وما تنفقوا من خير للفقراء، أو متعلق بمحذوف والمعنى اعمدوا للفقراء أو اجعلوها لهم. لا يَسْتَطِيعُونَ جملة فعلية حال

صفحة رقم 71

منصوب من ضمير أُحْصِرُوا. يَحْسَبُهُمُ جملة فعلية حال من الفقراء، وكذلك: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ويحتمل أن يكون ذلك كله حالا من ضمير أُحْصِرُوا ويحتمل أن يكون مستأنفا، فلا يكون له موضع من الإعراب. ومعنى: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا يسألون ولا يلحفون.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ مبتدأ موصول، وتمت الصلة عند قوله: سرا وعلانية: وهما مصدران في موضع الحال من ضمير يُنْفِقُونَ. ثم أخبر عن المبتدأ بقوله: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ودخلت الفاء في خبر المبتدأ، لتضمن المبتدأ الموصول حرف الشرط، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الصلة جملة فعلية، ولم يدخل على عامل يغير معناه نحو ليت ولعل وكأن.
البلاغة:
وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ خبر بمعنى النهي، أي لا تطلبوا غير ثواب الله من أعراض الدنيا. وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ إطناب بعد قوله: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وقوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. ويوجد طباق بين قوله: بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وقوله سِرًّا وَعَلانِيَةً.
المفردات اللغوية:
هُداهُمْ إدخال الناس في الإسلام، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الخير والله هو الهادي إلى الدخول في الإسلام، فالهدى نوعان: هدى التوفيق إلى طريق الخير والسعادة وهو مختص بالله تعالى، وهدى الدلالة والإرشاد إلى الخير وهو مهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ خَيْرٍ مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي ثوابه لأنفسكم لا ينتفع به غيركم ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طلب مرضاته وثوابه أُحْصِرُوا منعوا وحبسوا في طاعة الله لجهاد أو تعلم علم يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يصل إليكم جزاؤه غير منقوص وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون منه شيئا، وهذه الجملة وجملة يُوَفَّ تأكيد للجملة الأولى:
فَلِأَنْفُسِكُمْ.
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً.. سفرا وسيرا في الأرض للكسب والتجارة والمعاش بسبب شغلهم عنه بالجهاد التَّعَفُّفِ إظهار العفة وترك السؤال بِسِيماهُمْ علامتهم من التواضع وأثر الجهد لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي لا يسألون الناس أصلا شيئا، ولا يقع منهم إلحاف أي إلحاح: وهو أن يلازم السائل المسؤول حتى يعطيه بِهِ عَلِيمٌ خبير، مطلع عليه ومجاز عليه.

صفحة رقم 72

سبب النزول:
١- نزول الآية (٢٧٢) :
ورد في سبب نزولها روايات عديدة مضمونها واحد منها: ما رواه النسائي والحاكم والبزار والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا «١» لأنسابهم من المشركين، فسألوا، فرخص لهم، فنزلت هذه الآية:
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية.
وروي أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام، فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم.
وقيل: حجت أسماء بنت أبي بكر، فأتتها أمها تسألها، وهي مشركة، فأبت أن تعطيها، فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية، فأمر بالتصدق على كل من سأل من كل دين.
وروى سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في سبب نزول هذه الآية: أن المسلمين كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة، فلما كثر فقراء المسلمين، قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتصدّقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام.
وحكى الطبري أن مقصد النبي صلّى الله عليه وسلّم بمنع الصدقة إنما كانوا ليسلموا ويدخلوا في الدين، فقال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ.

(١) رضخ له: أعطاه قليلا.

صفحة رقم 73

والخلاصة: إن مضمون سبب نزول هذه الآية: أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك أو على المشركين أو نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من التصدق عليهم فنزلت الآية.
٢- نزول الآية (٢٧٣) :
نزلت في أهل الصّفّة «١» : وهم أربعمائة من المهاجرين، أرصدوا لتعلم القرآن والخروج مع السرايا «٢».
٣- نزول الآية (٢٧٤) :
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: نزلت هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، سِرًّا وَعَلانِيَةً، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ في أصحاب الخيل «٣» : وهم الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله تعالى، ينفقون عليها بالليل والنهار، سرّا وعلانية، نزلت فيمن لم يرتبطها تخيلا ولا افتخارا.
وروي عن ابن عباس: أن هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ نزلت في علف الخيل. ويدلّ على صحة هذا
حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ارتبط فرسا في سبيل الله، فأنفق عليه احتسابا، كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه، وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة».

(١) تفسير القرطبي: ٣/ ٣٣٧
(٢) كان أهل الصفة من مهاجري قريش، ولم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفّة المسجد: وهي سقيفته، يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى بالنهار، ويخرجون مع سرية بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
(٣) قال السيوطي: يزيد وأبوه مجهولان.

صفحة رقم 74

المناسبة:
أرشدت الآية السابقة المؤمنين إلى إعطاء الفقراء عامة، مسلمين وغير مسلمين، وصرحت هذه الآية بإباحة صدقة التطوع لغير المسلمين، سواء أكانوا مشركين أم من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) لأن الله تعالى يرزق المؤمن والكافر من خير الدنيا، وشأن المؤمن أن يتخلّق بأخلاق الله، وأن يكون خيره عاما للناس إشعارا بحبّ الخير والنّفع للبشرية، وإدلالا على توافر صفة الرحمة والمحبة في قلب المسلم لكل إنسان، وإبعادا للعصبية الدّينية التي من شأنها التهديم والتفريق والفتنة، وزرع الأحقاد والضغائن، والتنفير من قبول الإسلام ذاته القائم على التسامح، وترك أمر الهداية للدين لله تعالى، فإن الهداية من الله، وتقتضي الشفقة إعطاء المحتاج أيّا كان دينه.
التفسير والبيان:
ليس عليك أو لا يجب عليك يا محمد أن تقود الناس إلى هداية الإسلام كرها، وإنما عليك البلاغ والإرشاد إلى الدين فقط، فتبشر من أطاع بالجنة، وتنذر من عصى بالنار، وأمر الهداية بمعنى التوفيق إلى الخير والسعادة والاهتداء إلى الإسلام مردّه إلى الله، بما وضع في النفوس من العقول، وما أبانه لهم من سنن وأدلّة ترشدهم إلى الدين الحق، فأمر يا محمد بالصدقة إلى كل من سألها من كل دين.
وثواب الصدقة وإنفاق المال في سبيل الله عائد بذاته لأنفسكم، ولا ينتفع به غيركم في الدنيا والآخرة. أما في الدّنيا فيصون المال، ويحصّن الثروة، ويحميكم من أذى الفقراء بالنّهب والسلب والسرقة لأن الجائع يستبيح لنفسه كل شيء.
وأما في الآخرة فثوابه لكم بدخول الجنة وتكفير بعض السيئات والذنوب.
وإنكم لا تنفقون إلا طلبا لرضوان الله، لا لمصلحة دنيوية أو لإرضاء

صفحة رقم 75

الشيطان، وعلى ذلك فلا فرق بين فقير وفقير أيّا كان دينه، ولا داعي للمنّ والأذى، أو الرياء والسمعة لأنك تقصد بنفقتك وجه الله وحده، وفعل الخير المحض، دون انتظار ثناء، أو جزاء الناس في الدّنيا،
قال صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص في الحديث الصحيح: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلّا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك»
أي فمها.
ثم أكّد سبحانه الآية السابقة: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ بمؤكّدين:
الأول- قوله: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يصلكم ثوابه كاملا غير منقوص في الآخرة.
الثاني- قوله: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا يضيع عليكم منه شيء، ولا تبخسون منه شيئا، فيكون ذلك البخس ظلما، كقوله تعالى: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧].
وكلّ هذا يدل على أن الإنفاق يكون للفقراء عامة، مسلمين أو غير مسلمين، وذلك نحو قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان ٧٦/ ٨- ٩].
والأسير في دار الإسلام لا يكون عادة إلا مشركا وقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة ٦٠/ ٨].
ويؤيد ذلك
ما روي في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال رجل: لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد زانية، فأصبح الناس يتحدّثون: تصدّق على زانية، فقال: اللهم لك الحمد: على زانية! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فوضعها في يد غني، فأصبحوا

صفحة رقم 76

يتحدّثون: تصدّق الليلة على غني، قال: اللهم لك الحمد: على غني! لأتصدقنّ الليلة بصدقة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدّثون: تصدّق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قبلت، وأما الزانية فلعلها أن تستعف بها عن زنا، ولعل الغني يعتبر، فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته».
ثم بيّن الله تعالى أحقّ الناس بالصدقة وهم الفقراء بالصفات الخمس التالية:
الصفة الأولى- الإحصار في سبيل الله:
أي الذين حبسوا أنفسهم للجهاد أو العمل في مرضاة الله كطلب العلم إذ لو اشتغلوا بالكسب مثل غيرهم لتعطلت المصلحة العامة، فهم فداء الأمة وحماتها وقادتها الموجهون لها في وقت السّلم والحرب، وفي الشدّة والأزمة أو المحنة، والرفاه والرخاء أو السعادة. وقد عرفنا أن هذه الآية نزلت في أهل الصّفّة: وهم فقراء المهاجرين الذين كانوا حوالي أربعمائة رجل، وكانوا مرابطين في سقيفة المسجد، يتعلمون القرآن في الليل، ويجاهدون في النهار،
عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف يوما على أصحاب الصّفّة، فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصّفّة، فمن بقي من أمتي على النّعت الذي أنتم عليه، راضيا بما فيه، فإنه من رفقائي».
الصفة الثانية- العجز عن الكسب:
لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي لا يتمكنون من القيام بالسفر أو السّير في البلاد للتجارة والكسب. والضرب في الأرض: هو السّفر، وعجزهم لأسباب عديدة: منها الكبر والشيخوخة، ومنها المرض، ومنها الخوف من العدو، ونحو ذلك من الضرورات.

صفحة رقم 77

الصفة الثالثة- التّعفف:
إظهار العفّة والتّرفع عن الطّمع مما في أيدي الناس، حتى إن الجاهل بحقيقة حالهم يظنّهم أغنياء، لعفّتهم وصبرهم وقناعتهم وتعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. ورد في هذا المعنى حديث متّفق على صحّته
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا» «١».
الصفة الرابعة- القرائن المميزة لهم:
تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي علامتهم، والتّعرّف عليهم يحتاج إلى فراسة المؤمن «٢»، وخبرة المجرّب، وحنكة ذوي البصيرة والعقل، والتّحرّي عنهم بالسؤال لمن يعرفهم من جيران وأقارب، وربما يستأنس بمظاهر الضّمور والنّحول والضّعف ورثاثة الثياب، وربما لا يكون ذلك دليلا مقنعا، فقد يتظاهر بعضهم بالفقر، وقد يكتسي بعضهم اللباس المعقول لعزّة نفسه، ويكون هو المحتاج، وغيره هو الكاذب.
الصفة الخامسة- عدم السؤال أصلا وعدم الإلحاح في السؤال:
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ومعناه في رأي جمهور المفسرين: أنهم متعففون عن المسألة عفة تامة، ويكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح.

(١) رواه أحمد أيضا عن ابن مسعود. [.....]
(٢) جاء في حديث السّنن: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ.

صفحة رقم 78

وقال قوم: إن المراد نفي الإلحاف، أي إنهم يسألون الناس غير إلحاف، وهذا هو المتبادر إلى الذهن والسابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين، فلا يلحّون في المسألة، ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة، فقد ألحف في المسألة. وفي هذا تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا، وهذا شأن أغلب الشّحاذين اليوم.
روى الأئمة، واللفظ لمسلم، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلحفوا في المسألة، فو الله لا يسألني أحد منكم شيئا، فتخرج له مسألته مني شيئا، وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته».
ثم ختمت الآية بأنه ما من نفقة صغيرة أو كبيرة إلا ويعلمها الله، ولا يخفى عليه الباعث على النفقة أو النيّة أيضا، فبحسن النية والإخلاص ففي النفقة دون أذى يحسن الجزاء، وبسوء النية يسوء الجزاء. وفي هذا ترغيب في الإنفاق الطيّب، وترهيب من الإنفاق الخبيث.
ثم أوضح الله تعالى ثواب المنفقين وجزاء الإنفاق في جميع الأحوال والأوقات، فمن تصدّق بأمواله ليلا أو نهارا، سرّا أو علانية، ولم يمتنع عن نفقة وقت الحاجة إليها، ومنها النفقة على الأهل، كما دلّ حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد المتقدّم، فله الأجر الكامل عند ربّه وثوابه على الله لا على أحد سواه، ولا خوف عليه في الآخرة، ولا يتعرّض للحزن أبدا، أي فلا خوف عليه فيما يستقبله من أهوال يوم القيامة، ولا يحزن على ما خلّفه من أولاد ولا على ما فاته من الحياة الدّنيا وزهرتها، فلا يأسف عليها لأنه قد صار إلى ما هو خير له من ذلك.
وإنما قدّم الليل على النهار، والسرّ على العلانية، للإشارة إلى تفضيل صدقة السرّ على صدقة العلانية.

صفحة رقم 79

فقه الحياة أو الأحكام:
أباحت الآية دفع صدقة التطوع لأي إنسان كان. أما الصدقة المفروضة (الزكاة) فلا يجزئ بالإجماع دفعها لكافر،
لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة عن ابن عباس: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم». وكذلك لا يجوز في رأي الجمهور دفع زكاة الفطر لكافر لأنها طهرة للصيام، فلا تصرف إلى الكافر، كصدقة الماشية والنقود،
وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عمر: «أغنوهم عن سؤال هذا اليوم»
يعني يوم الفطر، لتشاغلهم بالعيد وصلاة العيد، وهذا لا يتحقّق في المشركين.
وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى غير المسلم من أهل الذّمة، أخذا بعموم الآية في البرّ وإطعام الطّعام وإطلاق الصدقات.
ودلّت آية: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ على أن ثمرة النفقة عائد في الواقع إلى المنفق لأنه سيجد جزاء أوفى على فعله، وأكّد تعالى هذا المعنى في جملتين تاليتين وهما: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
وأرشد قوله تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ إلى أن النفقة المعتدّ بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجه الله.
وأبانت آية: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا.. صفات مستحقي النفقة وهم الفقراء، وقد أوضحناها في التفسير المتقدّم. وأن من أدب السؤال عدم الإلحاح في المسألة.
والسؤال في الإسلام محرّم إلا لضرورة، فلا يحلّ للقادر على الكسب بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه-: «لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سوي».
والمرّة: القوة، والسّوي: سليم الأعضاء، والمراد به القادر على الكسب.

صفحة رقم 80

ولا تحلّ المسألة إلا لثلاث حددهم
النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «المسألة لا تحلّ إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دمّ موجع» «١»
، والفقر المدقع: هو الشديد، وهو الذي يلصق صاحبه بالدقعاء:
وهي الأرض التي لا نبات فيها، والغرم: ما يلزم أداؤه تكلّفا لا في مقابلة عوض، كالكفالة والنفقة لإصلاح ذات البين ونحوه من أعمال البرّ، كدفع مظلمة وحفظ مصلحة، والمفظع: الشديد، فلمن تحمل ذلك أن يسأل الإعانة على سداد ما غرم، وأما ذو الدّم الموجع: فهو الذي يتحمل الدّية عن الجاني من قريب أو نسيب أو صديق لئلا يقتل، فيتوجع لقتله.
والإلحاح في المسألة مع الغنى عنها حرام لا يحل،
أخرج مسلم عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل الناس أموالهم تكثّرا، فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر»
وأخرج أيضا عن ابن عمر أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة «٢» لحم»
وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن سهل ابن الحنظلية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سأل وعنده ما يغنيه، فإنما يستكثر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال:
ما يغديه أو يعشيه»
.
أما إذا كان السائل محتاجا فلا بأس أن يكرّر المسألة ثلاثا إعذارا وإنذارا، والأفضل تركه. فإن كان المسؤول يعلم بذلك، وهو قادر على ما سئله، وجب عليه الإعطاء، وإن كان جاهلا به، فيعطيه مخافة أن يكون صادقا في سؤاله،

(١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) المزعة: القطعة، قال القاضي عياض: قيل: معناه يأتي يوم القيامة ذليلا ساقطا لا وجه له عند الله. وقيل: هو على ظاهره، فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه، عقوبة له، حين سأل بوجهه.

صفحة رقم 81
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية