
(مَثَلُ الَّذينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مّائَةُ حَبَّةِ) الحبةَ اسم لكل ما يزرعه ابن آدم ويكون منه قوته، وأكثر ما تكون في الَبُر، وسَنابل جمع سنبلة، وهي وزن فنعلة من السبل، ويقال أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالإسبال، وقيل معناه صار فيه حبط مستور كما يستر بإرسال الستر عليه.
وسبيل الله، هي سبيل النفع العام، والجهاد في سبيل الله وإعطاء السائل والمحروم أو بعبارة عامة: الإنفاق في سبيل كل خير، لَا يقصد بالإنفاق فيه كل وجوه البر والنفع، ولكن إذا اجتمعت مع أبواب البر الأخرى، كان المقصود بها الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، وهو الإنفاق على المحاربين والغزاة وإعداد العدة، كما هو في آية الصدقات في التوبة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ...) ولذلكَ كان الغالب على هذا اللفظ أن يكون الإنفاق في سبيل الجهاد، وكل ما يعد القوة المدافعة عن الأمة.
وقد شبه سبحانه حال الذين يننقون في سبيل الله بحال حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وقد ذكر الزمخشري وغيره من المفسرين: أن التشبيه ليس بين الذين ينفقون والحبة، بل بين الصدقة نفسها والحبة؛ فالكلام فيه مضاف محذوف مقدر في القول، وتقديره: مثل صدقة الذين ينفقون في سبيل الله.. فقد شبه سبحانه الصدقة التي تنفق في سبيل الله بحبة تلقى في الأرض فتخرج عودًا مستويًا قائمًا تتعلق به سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، أي أنه يتولد عن هذه الحبة التي باركها خالق الحب والنوى سبعمائة حبة، وإسناد الإنبات إليها من حيث اتصاله بها، وأن تلك الحبات هي نماء متولد عنها، وفي الحقيقة إن المنبت هو الله سبحانه وتعالى.

والمفسرون جميعًا مجمعون على أن النفقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها؛ لأن صاحبها يكافئه الله تعالى عليها بتلك المكافأة السخية، وهو سبحانه وتعالى المعطي الوهاب، وإن ذلك وجه صحيح بلا شك، ويزكيه قوله تعالى بعد ذلك: (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) فإنه في ظاهره يدل على عطاء الله بالثواب على الحسنة بعشر أمثالها، وعلى الصدقة بسبعمائة مثل؛ فلا حد لفضله وعطائه سبحانه.
ولكن يصح مع ذلك أن نقول: إن الصدقة في سبيل الله تنتج سبعمائة مثل لها، لَا من حيث الثواب الذي يناله المنفق ممن يملك الثواب فقط، بل من حيث النتائج التي تنتج عنها، فإن نتائج الإنفاق في سبيل الله عظيمة تعود على الأمة بسبعمائة مثل لهذه الصدقة أو تزيد، فإن الإنفاق في سبيل الحرب بإعداد العدة يدفع كيد الأعداء فتنجو الأمة، وفي نجاتها خير كثير هو أكثر من سبعمائة ضعف من المال الذي أنفق. ومن يعطِ يتيما ويدر عليه من ماله فإنه يربيه، فتكون منه قوة عاملة في الأمة، تأتي من وجوه الخير بأضعاف ما أنفقت في تربيته، ودفع شرا خطيرا، وهو أن يكون ذلك اليتيم إن لم يتعهد بالتربية الصالحة عنصر تخريب في الأمة. ومن ينشئ مستشفي، فإنما يدفع أدواء تعوق القدرة الإنسانية فلا تنتج، فإذا حمى هذه القدرة فقد قدم للجماعة خيرًا كثيرًا بهذا الإنتاج.
وعلى ذلك نقول: إن سبعمائة الضعف ليست فقط هي الثواب الذي يناله صاحب الصدقة، إنما هي مع ذلك النتائج الجليلة التي ترتبت على هذه الصدقة.
وإنه ليزكي نظرنا هذا، إسناد الإنبات إلى الحبة، وهي التي شبهت بها الصدقة؛ لأن ذلك يدل على أن تلك الأضعاف نماء لتلك الحبة، وهي أنسب في معنى النتائج النافعة للصدقة في الأمة، لَا مجرد النفع فقط بالثواب لصاحبها.
وإن ذلك القول كله مبني على أن التشبيه بين الصدقة في نتائجها وبين الحبة في نمائها الدر الوفير؛ وأن الكلام على تقدير مضاف في قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ) أي نفقة الذين ينفقون، على هذا التخريج الذي قاله كل المفسرين. ولقد خطر لي أنه لَا مانع من أن يكون التشبيه بين المنفقين أنفسهم من حيث كونهم عنصر

خير في الأمة له ثمرات منتجة، وبين الحبة من حيث ذلك النماء، وعلى ذلك لا يكون ثمة حاجة إلى تقدير مضاف محذوف، بل يكون المعنى على ذلك التخريج الذي يفيده ظاهر اللفظ: إن أولئك الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بإنفاقها في الجهاد لإنقاذ الأمة، أو لسد حاجة المعوزين ليكونوا قوة عاملة فيها ولا يكونوا عنصر تخريب، ويعملون لحفظ القوى الإنسانية من أن تبددها الأمراض، إن هؤلاء أنفسهم مثلهم في إنتاجهم وثمرات أعمالهم كمثل حبة نمت، فكان نماؤها أن تولد عنها عدد قد استغلظ وقام على سوقه، فحمل سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وإن ذلك يكون كقوله تعالى في وصف المؤمنين ونتائجِ أعمالهم، ؛ إذ قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ...).
وعلى هذا يكون تشبيه المنفقين أنفسهم بالحبة التي تنمو فتكون مائة، هو تشبيه المؤمنين بالزرع الذي يستغلظ فيقوم على سوقه، وينبت الخير الكثير.
وإن هذا خاطر خطر لي؛ وإنه يصح أن يستقيم عليه التخريج، وحتى على فرض التقدير؛ فإن حذف المقدر يومئ إليه ويشير.
(وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) هذا هو التشبيه المحكم الذي ذكره رب العالين، وتلك تخريجاته. ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن هذا كله من فضل الله تعالى ومن رحمته، ونعمه التي أنعم بها على عباده؛ ولذا قال سبحانه: (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) ولهذه الجملة السامية تخريجان:
أحدهما: أن تكون المضاعفة هي ذلك النماء، وهذا الثواب العظيم، يجعل الإنفاق ينتج عنه سبعمائة ضعف، ويجعل الحسنة الواحدة في باب الصدقات يكون ثوابها بسبعمائة مثل، وتكون بركتها في مال المنفق بسبعمائة مثل أيضًا؛ إن هذه المضاعفات يضاعفها الله سبحانه لمن يشاء بتوفيقه لفعل الخير، والإنفاق في سبيل الله، وهو سبحانه وتعالى الفعال لما يريد.

وثانيهما: أن تكون المضاعفة التي يضاعفها ثوابًا أكثر من سبعمائة المثل وفوقها، ونماء أوفر منها، وعطاء أكبر.
فالله سبحانه، وهو رب كل شيء وخالق الأسباب والمسببات يستطيع أن يعطي سبعمائة وأكثر منها لمن يشاء؛ إذ يوفقه لفعل الخير بنية خالصة وقلب نقي، فيضاعف له أضعافًا كثيرة بعد السبعمائة التي نص عليها سبحانه.
ومهما يكن فإن الاتجاه واحد، وهو بيان سعة عطاء الله تعالى، وسعة نمائه، وهو الرزاق ذو القوة المتين.
وقد ذيل سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي أنه سبحانه عطاؤه واسع، فالسعة وصف للعطاء، أو وصف لله سبحانه وتعالى باعتبار شمول قدرته، وسعة ما يدخل في سلطان إرادته، فلا حد يحد هذه القدرة، ولا سلطان لغيوه سبحانه يمنع شمول هذه الإرادة.
وهو سبحانه عليم بعباده، عليم بالسر والجهر، وبما يجري على الألسنة وما تخفيه الصدور، وعليم بالأعمال، والنيات التي تنبعث عنها هذه الأعمال، وعليم بالأعمال ونتائجها، وهو سبحانه بقدرته القاهرة هو الذي يرتب المسببات على الأسباب، وينشئ بحكمته العلاقة المؤثرة بينهما، فلا يؤثر السبب في المسبب إلا بقدرته وإرادته التي تسير على مقتضى علمه الذي شمل كل شيء.
وقد ذيل سبحانه الآية بهذين الوصفيق للذات العلية، لكيلا يقع في نفس قارئ وهم بالاستكثار أو الاستبعاد، فإنه لابعيد على قدرته سبحانه، ولا كثير أمام إرادته، وإن كل شيء عند الله بمقدار، وهو يدبر كل أمر بعلمه وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وهو بكل شيء عليم.
* * *