ولما كان أغلبهم واقفاً مع المشاهدات غير ثابت القدم في الإيمان بالغيب قال: ﴿وقال لهم نبيهم﴾ مثبتاً لأمر طالوت ﴿إن آية﴾ أي علامة ﴿ملكه﴾ قال الحرالي: وقل ما احتاج أحد في إيمانه إلى آية خارقة
صفحة رقم 419إلا كان إيمانه إن آمن غلبة يخرج عنه بأيسر فتنة، ومن كان إيمانه باستبصار ثبت عليه ولم يحتج إلى آية، فإن كانت الآية كانت له نعمة ولم تكن عليه فتنة ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذب بها الأولون - وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً﴾ [الإسراء: ٥٩] فإن الآيات طليعة المؤاخذة والاقتناع بالاعتبار طليعة القبول والثبات - انتهى. ﴿أن يأتيكم﴾ أي من غير آت به ترونه ﴿التابوت﴾ قال الحرالي: ويعز قدره - انتهى. وهو والله سبحانه وتعالى أعلم الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات التي نسبتها من التوراة نسبة فاتحة الكتاب من القرآن وهو يسمى تابوت الشهادة كما تقدم ذكره في وصف قبة الزمان فيما مضى أول قصة بني إسرائيل وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم موظفون لحمله
صفحة رقم 420ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم وكأن عهدهم به كأن قد طال فذكّرهم بماثره ترغيباً فيه وحملاً على الانقياد لطالوت فقال: ﴿فيه سكينة﴾ أي شيء يوجب السكون والثبات في مواطن الخوف. وقال الحرالي: معناه ثبات في القلوب يكون له في عالم الملكوت صورة بحسب حال المثبت، ويقال: كانت سكينة بني إسرائيل صورة هرّ من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد ملفق منه أعضاء تلك الصورة تخرج منه ريح هفّافة تكون علم النصر لهم - انتهى. وزاده مدحاً بقوله: ﴿من ربّكم﴾ أي الذي
صفحة رقم 421
طال إحسانه إليكم وتربيته باللطف لكم. وقال الحرالي وغيره: إنه كان في التابوت صورة يأتي منها عند النصر ريح تسمع. قال الحرالي: كما كانت الصبا تهب لهذه الأمة بالنصر، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نصرت بالصبا» فكانت سكينتها كلية آفاقها وتابوتها كلية سمائها حتى لا تحتاج إلى محمل يحملها ولا عدة تعدها لأنها أمة أمية تولى الله لها إقامة علمها وأعمالها - انتهى.
ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائه قال: ﴿وبقية﴾ قال الحرالي: فضلة جملة ذهب جلها ﴿مما ترك﴾ من الترك وهو أن لا يعرض للأمر حساً أو معنى ﴿آل موسى وهارون﴾ أي وهي لوحا العهد. قال الحرالي: وفي إشعار تثنية
ذكر الآل ما يعلم باختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بوصف دون هارون عليه السلام بما كان فيه من الشدة في أمر الله وباختصاص هارون عليه الصلاة والسلام بما كان فيه من اللين والاحتمال حيث لم يكن آل موسى وهارون، لأن الآل حقيقة من يبدو فيه وصف من هو آله.
وقال: الآل أصل معناه السراب الذي تبدو فيه الأشياء البعيدة كأنه مرآة تجلو الأشياء فآل الرجل من إذا حضروا فكأنه لم يغب - انتهى. ثم صرح بما أفهمه إسناد
الإتيان إليه فقال: ﴿تحمله﴾ من الحمل وهو ما استقل به الناقل ﴿الملائكة﴾ وما هذا بأغرب من قصة سفينة رضي الله تعالى عنه قال: «خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أصحابه رضي الله تعالى عنهم فثقل عليهم متاعهم فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابسط كساءك، فبسطته فجعلوا فيه متاعهم فحملوه علي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احمل فإنما أنت سفينة! قال: فلو حملت من يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل عليّ» وأما مقاتلة الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم في غزوة بدر فأمر شهير، كان الصحابي يكون قاصداً الكافر ليقاتله فإذا رأسه قد سقط من قبل أن يصل إليه، ولما كان هذا أمراً باهراً قال منبهاً على عظمته: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر
صفحة رقم 424العظيم الشأن ﴿لآية﴾ أي باهرة ﴿لكم إن كنتم مؤمنين *﴾ فإن المواعظ لا تنفع غيرهم. قال الحرالي: ولما ضعف قبولهم عن النظر والاستبصار صار حالهم في صورة الضعف الذي يقال فيه: إن كان كذا، فكان في إشعاره خللهم وفتنتهم إلا قليلاً - انتهى. وفي هذه القصة توطئة لغزوة بدر وتدريب لمن كتب عليهم القتال وهو كره لهم وتأديب لهم وتهذيب وإشارة عظيمة واضحة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بما دل عليه من أمر استخلافه في الإمامة في الصلاة التي هي خلاصة هذا الدين كما أن ما في تابوت الشهادة كان خلاصة ذلك الدين، وتحذير لمن لعله يخالف فيها أو يقول إنه ليس من بني هاشم ولا عبد مناف الذين هم بيت الإمامة والرئاسة ونحو ذلك مما حمى الله المؤمنين منه، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يأبى الله ذلك والمؤمنون» وفي توجيه الخطاب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعلام بأن أول مقصود به الأقرب منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالأقرب، وفيها تشجيع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيما يندبهم إليه الصديق رضي الله عنه من قتال أهل الردة وما بعده إلى غير ذلك من الإشارات التي تقصر عنها العبارات - والله سبحانه وتعالى الموفق.
صفحة رقم 425
ولما كان التقدير: فأتاهم التابوت على الصفة المذكورة فأطاعوا نبيهم فيه فملكوه وانتدبوا معه فخرج بهم إلى العدو وفصل بالجنود من محل السكن، عطف عليه قوله: ﴿فلما فصل﴾ من الفصل وهو انقطاع بعض من كل، وأصله: فصل نفسه أو جنده - أو نحو ذلك، ولكنه كثر حذف المفعول للعلم به فصار يستعمل استعمال اللازم ﴿طالوت﴾ أي الذي ملكوه ﴿بالجنود﴾ أي التي اختارها وخرجوا للقاء من سألوا لقاءه لكفره بالله مع ما قد أحرقهم به من أنواع القهر.
قال الحرالي: وهو جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع ﴿قال﴾ أي ملكهم ﴿إن الله﴾ أي الذي لا أعظم منه وأنتم خارجون في مرضاته ﴿مبتليكم بنهر﴾ من الماء الذي جعله سبحانه وتعالى حياة لكل
شيء، فضربه مثلاً للدنيا التي من ركن إليها ذل ومن صدف عنها عز. قال الحرالي: فأظهر الله على لسانه ما أنبأ به نبيّهم في قوله ﴿وزاده بسطة في العلم﴾ [البقرة: ٢٤٧]- انتهى. ﴿فمن شرب منه﴾ أي ملأ بطنه ﴿فليس مني﴾ أي كمن انغمس في الدنيا فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ﴿ومن لم يطعمه فإنه مني﴾ كمن عزف عنها بكليته ثم تلا هذه
صفحة رقم 427الدرجة العلية التي قد قدمت للعناية بها بما يليها من الاقتصاد فقال مستثنياً من ﴿فمن شرب﴾ :﴿إلا من اغترف﴾ أي تكلف الغرف ﴿غرفة بيده﴾ ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها أخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم إعلام بملئها، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد، والغرفة الفعلة الواحدة منه، وبالضم اسم ما حوته الغرفة، فكان في المغترفين من استوفى الغرفة ومنهم من لم يستوف - قاله الحرالي وقال: فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف: من لم يطعمه البتة وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله، ومن شرب منهم وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في سبيل الله ومن اغترف غرفة وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم يطعموا. ولما كان قصص بني إسرائيل مثالاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، فكانت جيوشهم بحكم هذا الإيحاء الاعتباري إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم، فمن أصاب من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله انقطع عن ذلك الجيش ولو حضره. فما كان في بني إسرائيل
صفحة رقم 428
عياناً يكون وقوعه في هذه الأمة استبصاراً سترة لها وفضيحة لأولئك، ومن لم يصب منها شيئاً بتاً كان أهل ثبت ذلك الجيش الثابت المثبت، قيل لعلي رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين! ما بال فرسك لم يكب بك قط؟ قال: ما وطئت به زرع مسلم قط. ومن أصاب ما له فيه ضرورة من منزل ينزله أو غلبة عادة تقع منه ويوده أن لا يقع فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع، فملاك هذا الدين الزهد في القلب والورع في التناول باليد، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إنما تنصرون بضعفائكم» وفي إلاحة هذا التمثيل والاعتبار أن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد الثابتين من أصحاب طالوت الذين بعددهم كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين، قال: وفي إفراد اليد إيذان بأنها غرفة اليد اليمنى لأنها اليد الخاصة
للتعريف، ففي اعتباره أن الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشر - انتهى. فعرض لهم النهر كما أخبرهم به ﴿فشربوا منه﴾ مجاوزين حد الاقتصاد ﴿إلاّ قليلاً منهم﴾ فأطاعوا فأرواهم الله وقوى قلوبهم، ومن عصى في شربه غلبه العطش وضعف عن اللقاء فبقي على شاطىء النهر. قال الحرالي: وفيما يذكر أنه قرىء بالرفع وهو إخراج لهم من الشاربين بالاتباع كأن الكلام
صفحة رقم 430مبني عليه حيث صار تابعاً وإعرابه مما أهمله النحاة فلم يحكموه وحكمه أن ما بني على إخراج اتبع وما لم يبن على إخراجه وكأنه إنما انثنى إليه بعد مضار الكلام الأول قطع ونصب - انتهى. وكان المعنى في النصب أنه لما استقر الفعل للكل رجع الاستثناء إلى البعض، وفي الاتباع نوى الاستثناء من الأول فصار كالمفرغ وهذه القراءة عزاها الأهوازي في كتاب الشواذ إلى الأعمش وعزاها السمين في إعرابه إلى عبد الله وأُبيّ رضي الله تعالى عنهما، وعقد سيبويه رحمه الله تعالى في نحو نصف كتابه لاتباع مثل هذا باباً ترجمه بقوله: باب ما يكون فيه إلاّ وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل، ودل عليه بأبيات
صفحة رقم 431
كثيرة منها:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال كأنه قال: وكل أخ غر الفرقدين، وسوى بين هذا وبين آية ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر﴾ [النساء: ٩٥] بالرفع ﴿وغير المغضوب عليهم﴾ [الفاتحة: ٧]، وجوز في ما قام القوم إلا زبد، - بالرفع البدل والصفة، قال الرضي تمسكاً بقوله: وكل أخ - البيت، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم» وقال السمين: والفرق بين الوصف بإلا والوصف بغيرها أن لا يوصف بها المعارف والنكرات والظاهر والمضمر، وقال بعضهم: لا يوصف بها إلا النكرة والمعرفة بلام الجنس فإنه في قوة النكرة.
ولما ذكر فتنتهم بالنهر أتبعه فتنة اللقاء ببحر الجيش وما فيه من عظيم الخطر المزلزل للقلوب حثاً على سؤال العافية وتعريفاً بعظيم رتبتها كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرض نفسه الشريفة على أهل الطائف ومسه منهم من عظيم الأذى ما مسه: إن لم يكن بك عليَّ غضب
فلا أبالي ولكن هي أوسع لي! فقال سبحانه وتعالى: ﴿فلما جاوزه﴾ أي النهر من غير شرب، من المجاوزة مفاعلة من الجواز وهو العبور من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى ﴿هو والذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان وجاوزوا ﴿معه﴾ وتراءت الفئتان ﴿قالوا﴾ أي معظمهم.
قال الحرالي: رد الضمير مرداً عاماً إيذاناً بكثرة الذين اغترفوا وقلة الذين لم يطعموا كما آذن ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه - انتهى. ﴿لا طاقة﴾ مما منه الطوق وهو ما استقل به الفاعل ولم يعجزه ﴿لنا اليوم﴾ أي على ما نحن فيه من الحال ﴿بجالوت وجنوده﴾ لما هم فيه من القوة والكثرة. قال الحرالي: ففيه من نحو قولهم ﴿ولم يؤت سعة من المال﴾ اعتماداً على أن النصر بعدة مال أو قوة، وليس إلا بنصر الله، ثم قال: فإذا نوظر هذا الإنباء منهم والطلب أي كما يأتي في ﴿ربنا أفرغ﴾ بما تولى الله من أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال من نحو
قوله ﴿إذ يغشيكم النعاس أمنة منه﴾ [الأنفال: ١١]- الآيات، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ وأكمل عياناً فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه - انتهى.
ولما أخبر عنهم بهذا القول نبه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظن أن أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ولا ينقص بالجرأة والإقدام وأنه يلقى الله فيجازيه على عمله وأن النصر من الله لا بالقوة والعدد فقال: ﴿قال الذين يظنون﴾ أي يعلمون ولكنه عبر بالظن لما ذكر ﴿أنهم ملاقوا الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من الله والرجاء له الظن لأنه يوجب فرار العقل مما يظن أنه يكرهه سبحانه وتعالى إنقاذاً لنفسه من الهلاك بذلك كما أسرف هؤلاء في الشرب لظن الهلاك بعدمه ورجعوا لظن الهلاك باللقاء؛ ويجوز أن يكون الظن على بابه ويأول اللقاء بالحالة الحسنة ﴿كم من فئة قليلة﴾ كما كان في هذه الأمة في يوم
بدر ﴿غلبت فئة كثيرة﴾ ثم نبه على أن سبب النصر الطاعة والذكر لله بقوله: ﴿بإذن الله﴾ أي بتمكين الذي لا كفوء له، فلا ينبغي لمن علم ذلك أن يفتر عن ذكره ويرضى بقضائه. ثم بين أن ملاك ذلك كله الصبر بقوله: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿مع الصابرين *﴾ ولا يخذل من كان معه.
ثم بين أنهم صدقوا قولهم قبل المباشرة بالفعل عندها فقال عاطفاً على ما تقديره: فلما قالوا لهم ذلك جمع الله كلمتهم فاعتمدوا عليه وبرزوا للقتال بين يديه: ﴿ولما برزوا﴾ وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة، والبروز هو الخروج عن كل شيء يوارى في براز من الأرض وهو الذي لا يكون فيه ما يتوارى فيه عن عين الناظر ﴿لجالوت﴾ اسم ملك من ملوك الكنعانيين كان بالشام في زمن
بني إسرائيل ﴿وجنوده﴾ على ما هم عليه من القوة والكثرة والجرأة بالتعود بالنصر ﴿قالوا ربنا أفرغ﴾ من الإفراغ وهو السكب المفيض على كلية المسكوب عليه ﴿علينا صبراً﴾ حتى نبلغ من الضرب ما نحب في مثل هذا الموطن ﴿وثبت﴾ من التثبيت تفعيل من الثبات وهو التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال ﴿أقدامنا﴾ جمع قدم وهو ما يقوم عليه الشيء ويعتمده، أي بتقوية قلوبنا حتى لا نفر وتكون ضرباتنا منكبة موجعة وأشاروا بقولهم ﴿وانصرنا على القوم الكافرين*﴾ موضع قولهم: عليهم، إلى أنهم إنما يقاتلونهم لتضييعهم حقه سبحانه وتعالى لا لحظ من حظوظ النفس كما كان من معظمهم أول ما سألوا وإلى أنهم أقوياء فلا بد لهم من معونته عليهم سبحانه وتعالى، ثم رتب على ذلك النتيجة حثاً على الاقتداء بهم لنيل
صفحة رقم 436
ما نالوا فقال عاطفاً على ما تقديره: فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم: ﴿فهزموهم﴾ مما منه الهزيمة وهو فرار من شأنه الثبات - قاله الحرالي، وقال: ولم يكن فهزمهم الله، كما لهذه الأمة في
﴿ولكن الله قتلهم﴾ [الأنفال: ١٧] انتهى. ﴿بإذن الله﴾ أي الذي له الأمر كله. ثم بين ما خص به المتولي لعظم الأمر بتعريض نفسه للتلف في ذات الله سبحانه وتعالى من الخلال الشريفة الموجبة لكمال الحياة الموصلة إلى البقاء السرمدي فقال: ﴿وقتل داود﴾ وكان في جيش طالوت ﴿جالوت﴾ قال الحرالي: مناظرة قوله ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾ [الأنفال: ١٧] وكان فضل الله عليك عظيماً - انتهى. وفي الزبور في المزمور الحادي والخمسين بعد المائة وهو آخره: صغيراً كنت في إخوتي، حدثاً في بيت
أبي، راعياً غنمه، يداي صنعتا الأرغن، وأصابعي عملت القيثار، من الآن اختارني الرب إلهي واستجاب لي وأرسل ملاكه وأخذني من غنم أبي ومسحني بدهن مسحته إخوتي حسان وأكرمني ولم يسر بهم الرب، خرجت ملتقياً الفلسطيني الجبار الغريب فدعا علي بأوثانه فرميته بثلاثة أحجار في جبهته بقوة الرب فصرعته واستللت سيفه وقطعت به رأسه ونزعت العار عن بني إسرائيل. ﴿وآتاه الله﴾ بجلاله وعظمته ﴿الملك﴾ قال الحرالي: كان داود عليه الصلاة والسلام عندهم من سبط الملك فاجتمعت له المزيتان من استحقاق البيت وظهور الآية على يديه بقتل جالوت، قال تعالى: ﴿والحكمة﴾ تخليصاً للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود انتهى. فكان داود عليه الصلاة والسلام أول من جمع له بين الملك والنبوة ﴿وعلمه﴾ أي زيادة مما يحتاجان إليه ﴿مما يشاء﴾ من صنعة الدروع وكلام الطير وغير ذلك.
صفحة رقم 438
ولما بين سبحانه وتعالى هذه الواقعة على طولها هذا البيان الذي يعجز عنه الإنس والجان بين حكمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ما هو أعم من ذلك من تسليط بعض الناس على بعض بسبب أنه جبل البشر على خلائق موجبة للتجبر وطلب التفرد بالعلو المفضي إلى الاختلاف فقال - بانياً له على ما تقديره: فدفع الله بذلك عن بني إسرائيل ما كان ابتلاهم به -: ﴿ولولا دفع الله﴾ المحيط بالحكمة والقدرة بقوته وقدرته ﴿الناس﴾ وقرىء: دفاع.
قال الحرالي: فعال من اثنين وما يقع من أحدهما دفع وهو رد الشيء
بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته، وهو أبلغ من الأول إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يفعل في ذلك فعل المبالغ.
ولما أثبت سبحانه وتعالى أن الفعل له خلقاً وإيجاداً بيّن أنه لعباده كسباً ومباشرة فقال: ﴿بعضهم ببعض﴾ فتارة ينصر قويهم على ضعيفهم كما هو مقتضى القياس، وتارة ينصر ضعيفهم - كما فعل في قصة طالوت - على قويهم حتى لا يزال ما أقام بينهم من سبب الحفظ بهيبة بعضهم لبعض قائماً ﴿لفسدت الأرض﴾ بأكل القوي الضعيف حتى لا يبقى أحد ﴿ولكن الله﴾ تعالى بعظمته وجلاله وعزته وكماله يكف بعض الناس ببعض ويولي بعض الظالمين بعضاً وقد يؤيد الدين بالرجل الفاجر على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل يكون سبباً لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام إلى الحد الذي حده ثم يزيل الشحناء على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام
ليتم العلم بكمال قدرته واختياره وذلك من فضله على عباده وهو ﴿ذو فضل﴾ عظيم جداً ﴿على العالمين *﴾ أي كلهم أولاً بالإيجاد وثانياً بالدفاع فهو يكف من ظلم الظلمة إما بعضهم ببعض أو بالصالحين وقليل ما هم ويسبغ عليهم غير ذلك من أثواب نعمه ظاهرة وباطنة، ومما يشتد اتصاله بهذه القصة ما أسنده الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكنى من تاريخ دمشق في ترجمة أبي عمرو بن العلاء عن الأصمعي قال: أنشدنا أبو عمرو بن العلاء قال: سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج واستخفائي منه:
صبر النفس عند كل ملمّ | إن في الصبر حيلة المحتال |
لا تضيقن في الأمور فقد | يكشف لأواؤها بغير احتيال |
ربما تجزع النفوس من | الأمر له فرجة كحل العقال |
قد يصاب الجبان في آخر | الصفّ وينجو مقارع الأبطال |
القراءة في سورة البقرة ﴿إلا من اغترف غرفة﴾ [البقرة: ٢٤٩]- انتهى. ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل ثم عقبها بآية الكرسي التي هي العلم الأعظم من دلائل التوحيد فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قوله تعالى
﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١] إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوة المفتتح بها قصص بني إسرائيل فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جرياً على الآسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء، فكان خلاصة ذلك كأنه قيل: ﴿ألم﴾ تنبيهاً للنفوس بما استأثر العليم سبحانه وتعالى بعلمه فلما ألقت الأسماع وأحضرت الأفهام قيل يا أيها الناس فلما عظم التشوف قال ﴿اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١] ثم عينه بعد وصفه بما بينه بقوله ﴿الله لا إله إلا هو الحي القيوم﴾ [البقرة: ٢٥٥] كما سيجمع ذلك من غير فاصل أول سورة التوحيد آل عمران المنزلة في مجادلة أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، وتختم قصصهم بقوله: {ربنا إننا سمعنا
منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم} [آل عمران: ١٩٣] يعني بالمنادي والله سبحانه وتعالى أعلم القائل ﴿يا أيها الناس اعبدوا ربكم﴾ [البقرة: ٢١]- إلى آخرها، ومما يجب التنبه له من قصتهم هذه ما فيها لأنها تدريب لمن كتب عليهم القتال وتأديب في ملاقاة الرجال من الإرشاد إلى أن أكثر حديث النفس وأمانيها الكذب لا سيما بالثبات في مزال الأقدام فتشجع الإنسان، فإذا تورّط أقبلت به على الهلع حتى لا يتمنوا لقاء العدو كما أدبهم به نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أن بني إسرائيل مع كونهم لا يحصون كثرة سألوا نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث ملك للجهاد، فلما بعث فخالف أغراضهم لم يفاجئوه إلا بالاعتراض، ثم لما استقر الحال بعد نصب الأدلة وإظهار الآيات ندبهم، فانتدب جيش لا يحصى كثرة، فشرط عليهم الشاب الفارغ بناء دار وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً؛ ثم امتحنوا بالنهر فلم يثبت منهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط من الذين هم دون الدون من المنتدبين الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك، فكان الخالصون معه، كما قال بعض الأولياء المتأخرين لآخر قصده بالزيارة:
ألم تعلم بأني صيرفيّ | أحك الأصدقاء على محك |