آيات من القرآن الكريم

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ

يصف من حصل له التمكن من الشيء الترشح له بذلك الشيء كتميتهم العصير خمراً، الصبي ناطقاً، والنائم عالماً قد تقرر في عقل كل عاقل إذا تأمل أدنى نظر أنه لابد للموجودات من موجد لها يخالفها، يصح أن يقال لهم: " أنتم تعلمن " وبهذا الوجه قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ ومعلوم أنهم لا يقولون ذلك إلا بأدنى تأمل واعتبار.
قوله - عز وجل - ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ الآية (٢٣) - سورة البقرة.
قد تقدم الكلام في الريب، وأما الفرق بين الشك والمرية، والريب والأرابة، والتخمين والحدس، والوهم والخيال، والحسبان والظن، فإنه يذكرها هنا إذا كانت معرفته نافعة، فنقول: وبالله التوفيق: إن الشك هو وقوف النفس بين الشيئين المتقابلين بحيث لا يترجع أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية هي التردد في المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من بري الضرع، أي منحه للدر، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي عليه الظن.
والريب أن تتوهم في الشيء أمراً ما، ثم ينكشف عما توهمت فيه، والأرابة أن تتوهمه، فينكشف بخلاف ما توهمت، ولهذا قيل: " القرآن فيه أرابة وليس فيه ريب "، والتخمين توهم لا عن إمارة.
والحدس إسراع الحكم بما لا يأتي به الهاجس من غير توقف فيه مأخوذ من حدس في سيره، أي أسرع والوهم صورة تتصورها في نفسك سواء كان لها وجود من خارج كصورة إنسان ما، أم لم يكن له وجود كعنقاء مغرب، وغزائل، والخيال تصور ما أدركه الحاسة في النفس.
والحسبان: اعتقاد عن أمارة اعتددت به، سواء كان له وجود في الحقيقة، أو ولم يكن وهو مشتق من حسبت الحساب، والظن: أعم معنى من ذلك كله فإنه اعتقاد عن أمارة ما مما قد ثبت، فمتى كانت تلك الأمارة ضعيفة جرى مجرى " خلت

صفحة رقم 115

وحسبت "، ومتى كانت الامارة قوية جرى مجرى " علمت " وكتردده بين هذين.
قال أهل اللغة: " ظننت " قد يكون بمعنى: " خلت " وبمعنى: " تيقنت "، ومتى كانت الأمارة قوية، ولحق بباب العلم استعمل معه " أن " الثقيلة والخفيفة منه نحو: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾ وقوله: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى﴾ ومتى كانت ضعيفة، استعمل معه " أن " المختصة بالمعدومين من الفعل، نحو قوله: ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ وقد تقدم الكلام في الإنزال والتنزيل وفي معنى العبد.
وأما تخصيص إضافة العبد إلى الله في كثير من المواضع، فتنبيه على مدحه في كونه مطيعاً له متصرفاً عن أمره، وأنه غير متعرج على غيره، ولا مؤتمر لسواه كمن سماهم " عبدة الطاغوت "، و " عبد الدرهم والدينار " وتنبيه أنهم ممن وصفهم الله بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ وتنبيه أنه يجري مجرى الملك الموصوف في قوله ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ثم إضافته بنون الملكية مبالغة في الاختصاص، وكل إضافة إليه تعالى على هذه الوجه، فالمبالغة والسورة المنزلة في نحو:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ويقال للمحيط بالمدينة " سور " لحياطته بجملتها، وتسمية القطعة من القرآن بذلك لكونه كالمحاط بها إحاطة السور بالمدينة، أو لكونها منزلة ما من القرآن كما تقدم، ومن قال سؤرة بالهمز، فمن: أسارت أي: أبقيت قطعة، فكان ذلك قطعة مفرزة من جملته، وقوله:

صفحة رقم 116

" من مثله "، قيل: من مثل القرآن، وقيل: من مثل النبي [عليه السلام] من البشر - تنبيهاً أن مثله ليس في طرق البشر، ومن على الوجه الأول: للتبغيض، وعلى الثاني: للابتداء.
قوله - عز وجل -: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
الآية: (٢٣) - سورة البقرة.
الشهادة: تبين الشيء الحاضر، فقولهم: " شهد زيد " في المعنى من قولهم: " حضر " وإن كان قد يفسر به، ولما كان تبين الشيء على ضربين: تبين بالبصر، وتنبين بالبصيرة، والحضور على ضربين: حضور بالذات، وحضور بالتصور، صارت الشهادة تستعمل على أوجه بحسب ذلك، فيقال ذلك لحصول قربة ومنزلة، ومنه قليل: استشهد فلان "، " وهو شهيد "، كأنه حضر وتبين ما كان يرجوه، واستعمال ذلك فيه كاستعمال القريب نحو قوله: ﴿الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ولهذه العنى قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾، وقال في الشهداء: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وقالوا: " أنا شاهد لهذا الأمر "، أي عارف به متصور له - إشارة إلي قولهم " لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي ".
وقالوا: " شاهده " أي: ناصره، وعلى نحوه قال [تعالى]: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ وقالوا: " صحبك الله، وأما الشهادة المتعارفة: فأصلها الحضور بالقلب والتبين، ثم يقال ذلك إذا عبر عنه باللسان، ولذلك متى أطلق لفظ الشهادة على ما يظهر من اللسان دون حصوله في القلب عد كذباً، كقوله تعالى في المنافقين حيث قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾، فكذبهم وقال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ ثم يقال لكل ما يدل على شيء شهادة وإن لم يكن قولاً فقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ﴾ قد فسر على ما يقتضيه لفظ

صفحة رقم 117

الشهادة، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - معناه: أعوانكم، وقال مجاهد: معناه الذين يشهدون لكم، وقال غيرهما: أئمتكم نحو: ﴿وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾، وكأنما عنى بذلك الكبير الذي لا يبرم أمراً من دونهم كقولهم: " فلان يحضر به النوادي وهو من أهل النجوى " وبضده هجى من قبيل فيه بيت:
مخلفون، ويقضي الناس أمرهم...
وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا
وأما الصدق: فإنه يُحد بأنه مطابقة الخبر المخبر عنه، لكن حقيقته وتمامه أن يتطابق في ذلك أشياء، وجود المخبر عنه على ما أخبر عنه، واعتقاد المخبر فيه ذلك عن والاعتقاد وبخلافه، صح أن يوصف بالكذب...
ألا ترى أن الله تعالى كذب المنافقين في إخبارهم " إنك لرسول الله " لما كان اعتقادهم غير مطابق لقولهم؟ وإذا قال لك من أعتقد كون زيد في الدار، ولم يكن فيها صح أن يقال كذب، وإن كان قوله مطابقاً لاعتقاده، ولما كان اللسان ترجمان القلب، صح أن يقال: " صح في اعتقاده أو كذب "، وقد يتجوز أيضاً بذلك في جميع الأفعال، فيقال لكل فعل جميل على ما يجب صدق، ولما كان بخلافه [قيل] كذب، ويقال أيضاً لكل شيء يعتقد فيه اعتقاداً ما فوجد مطابقاً لذلك صدق، وإن وجد بخلافه كذب، ووجه الآية أن الله تعالى تحداهم بأن قال: " ادعوا أعوانكم وأنصاركم " وأستعينوا بكل ناصر لكم غير الله الذي هو مفزع الكل، وانظروا هل فب طوقكم الإتيان بمثله - تنبيهاً على أن ذلك لو أتى به محمد من قبله لقدرتم أنتم مع تظاهركم على الإتيان بمثله، ويحوز أن يكون قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ذماً لهم أي: ادعوا أعوانكم التي من عادتكم الاستعانة بهم الذين هو غير

صفحة رقم 118
تفسير الراغب الأصفهاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى
تحقيق
هند بنت محمد سردار
الناشر
كلية الدعوة وأصول الدين - جامعة أم القرى
سنة النشر
1422
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية